تنشر مجلة قناص سلسلة مقالات أسبوعية، تُشَرّح فيها الدراما الرمضانية، حيث تصل الدراما العربية في هذا الشهر إلى ذروتها السنوية. نبدأ سلسلة المقالات بالدراما السورية، التي غابت وإن بشكل نسبي في السنوات الماضية، ثم نُعرّج إلى الدراما المصرية، وتحضر الدراما الخليجية في المقال الثالث.
***
عادت الدراما السورية الرمضانية، في موسم ٢٠٢٣، بزخمٍ لافتٍ إلى واجهة الشاشات العربية ومنصات العرض الالكترونية، وصارت كما العادة شغلَ جمهور المتابعين والمعجبين، تاركةً في قلوبهم تشوّقاً لمتابعة تفاصيل أحداثها، وخبايا حكاياتها وأداء نجومها اللامعين.
المشكلات الإنتاجية في الأعوام السابقة، والتغير في توزّع الأدوار وأسماء الكتاب بين كل جزء وآخر، والخلافات الشخصية بين المنتجين والمخرجين وكتّاب السيناريو لم تمنع صنّاع الدراما السورية الرمضانية، بل والمنتجين العرب أيضاً، من إهداء الجمهور باقة مسلسلات تنوعت هذا العام بين ما يسمّى “دراما البيئة الشامية”، والاجتماعي المعاصر، والتشويقي بنكهة بوليسية، مع الكوميدي الواقعي، وحتى السياسي.
رهانٌ رابح!
وانعقدَ رهانُ الجميع على مسلسلات “البيئة الشامية” التي حاول مخرجوها وكاتبو سيناريوهاتها أن يخرجوا من النمط القديم الذي تناولته أقلامُ النقد بقسوة بسبب خروجه في الأجزاء المتلاحقة عن جماليات البيئة الدمشقية، وعادات أهلها، وتقاليدهم الحقيقية، واتجهوا نحو حكاياتٍ يستندُ بعضُها إلى توثيقياتٍ قديمة لكنهم عالجوها بنصوصٍ تحمل طابعاً إنسانياً يلامس الناس أينما كانوا، مع فرجة بصرية معاصرة استفادت من تقنياتٍ سينمائية عالمية، ومدراء تصوير وإضاءة محترفين.
كما في مسلسل “العربجي” (تأليف عثمان جحا، وإخراج سيف الدين سبيعي) والذي يقارب البيئة الشامية من حيث مهنة البطل “باسم ياخور” بدور عربجي يعملُ في نقل البضائع على عربة يجرها حصان، ويقع في حبّ امرأةٍ لا تبادله المشاعر، ما يخلق في دربه تعقيداتٍ وصراعاتٍ يخوضها كبطلٍ ملحميٍّ يواجه قدرَه، ويشاركه في البطولة كل من الفنان: سلوم حداد وميلاد يوسف وطارق مرعشلي، والنجمة ديمة قندلفت في دور “الدّاية”، وهو دورٌ أثارَ انتباه المتابعين الذين تباينت آراؤهم بين معجبٍ بمحاولتها الخروج عن أدوارها السابقة، خاصةً مع اللازمة الطريفة التي ترددها وتقول: “أنا بُدور بُدور الداية/أسرار الخلق عندي مخباية/بْدور عبيوت البلد/شي بخلفة وشي بلا تَلَد/ بس حِلمي لا رجّال ولا ولد/ حلمي جاه وعزّ ونسب”، بينما رأى بعضهم تندّراً بأنها سحبتْ بِساط “الداية” من تحت قدميّ “الداية أم زكي/الممثلة هدى شعراوي” في مسلسل “باب الحارة” الشهير!
جماهيرية كاسحة!
وبعد تلك الجماهيرية الكاسحة لمسلسل “باب الحارة” الذي أخرجه الراحل بسام الملا، وشغلَ العالمَ العربي المتشوق لمعرفة عادات السوريين وطقوسهم الرمضانية (هذا العام يُعرض الجزء الثالث عشر من تأليف مروان قاووق وإخراج منال عمران) بَهُتَ نجمُ “باب الحارة” حينَ تحوّل في المواسم الرمضانية الماضية تحولاً شبه كامل عن طقوس وعراقة الدمشقيين في أحيائهم وبيوتهم إلى ما يشبه حكايات “فانتازية” عن “قبضايات” وهميين و”أعضاوات الحارة” بعنترياتٍ مبالغ فيها بدلاً من زعامة ووجاهة أصيلة، مع “شراويل” وأزياء بعيدة عن اللباس الشامي الحقيقي.
إلا أن الموسم الرمضاني لا يمكن أن يمرَّ من دون نكهة البيئة الشاميّة حتى لو تمّت معالجتها برؤية إخراجية معاصرة، وديكوراتٍ مصنوعة بدلاً من حارات الشام القديمة، وبموسيقا حداثية بدلاً من أغاني الشارات القديمة كما التي أبدعها سعد الحسيني في شارات مسلسل باب الحارة، وتحملُ لمسةَ التراث الموسيقي السوري، وجلجلة سيوف “العَرَاضات” الشامية التي زيّنت احتفالات الناس في أعراسهم وحفلات الطهور، بالتمازج مع الدفوف والرقص الغنِج في مجالس النساء الخاصة على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية.
حكاياتٌ شامية جديدة!
وها هي المخرجة المميزة رشا شربتجي تقدم لنا مسلسل “مربى العز” (إنتاج mbc وتأليف علي معين الصالح) وبطولة نخبة مثل عباس النوري ومحمود نصر وأمل عرفة وخالد القيش وفادي صبيح ونادين تحسين بيك وآخرين… في حبكةٍ درامية تدور أحداثها بين عامي (1900 و1919) عن ثلاث حارات لكل منها زعيم تربّى أبناؤه على العزّ، ثم تُنسَجُ المكائد ضدهم من قبل عائلاتٍ لم يعجبها تكريسُ الزعامة في يد أولئك… وهكذا تدور المواجهات، وتتراكم المصاعب أمام أبطال العمل في سياقٍ يحملهم من طفولتهم نحو مرحلة الشباب والصدامات والانتكاسات.
فيما يطالعنا المخرج “تامر إسحاق” بعملٍ من (تأليف محمد العاص) يبدأ بجريمة قتل في أحد الأحياء المسمّى “زقاق الجنّ” -اسم المسلسل- جاعلاً من التشويق والإثارة جزءاً من المُشاهَدة، خاصةً وإنّ الجرائمَ التي تُرتكب يُعتقد أنَّ الجنّ هم مرتكبوها، فيما الترقّب والحذر والخوف والتسلّط يُصبح جزءاً من مصير شخصياتٍ يؤديها كل من الفنانين: أيمن زيدان وأمل عرفة وعبد النعم عمايري وشكران مرتجى، والفنان شادي زيدان في آخر ظهورٍ له، قبل رحيله مؤخراً بعد إصابته بجلطة دماغية.
حتى آخر نَفَس!
ولا يمكن أن نغفل عن ذكر أداء الممثلين السوريين الذين يتقمّصون أدوراهم حتى آخر نقطة من عرقهم وأرقهم وغوصهم في أعماق الشخصيات المكتوبة، كما في مشاهد المواجهة بين “سلوم حداد” و”باسم ياخور” في مسلسل “العربجي” حين نلمحُ في عيون كلٍ منهما تاريخاً من البراعة والاتقان، أو حين نسمع في صوت “العربجي” هدير كرامته المهانة.
أداءٌ عالميٌ إلى درجة أن كثيراً من المشاهدين، وعِبر تاريخ الدراما السورية العريق، صاروا ينادون الممثلين السوريين بأسماء أبطال تلك المسلسلات بدلاً من أسمائهم الحقيقية، من شدة تأثرهم فيها، بل وحدثت طرفةٌ مرةً أنّ بعضَ الأطفال راحوا يركضون وراء الفنان “نزار أبو حجر” وهم يردّدون بصوت عالٍ ما كان يُغنّيه في مسلسل “باب الحارة” بشخصية “أبو غالب/بائع البليلة”:
“بليلة بلبلوكي…وبسهل حوران زرعوكي.. وقطّفوكي وحصدوكي.. وعلى مال قبّان شحنوكي.. يا جبّار يا عزيز بألف ليرة إنكليز… بليييلة بلييلة”!
ولا يزال الجمهور السوري والعربي متعطّشاً لتذوّق المزيد من فاكهة الدراما السورية في هذا الشهر الفضيل.