سوف نتخيّل أنّ السائق الكهل متجمد الملامح أشار برأسه إلى الراكب العجوز بأن هذا المكان هو الفندق الوحيد في هذه البلدة، ويغادر الشيخ المتأنق سيارة الأجرة في تلكؤ، وبدت ملامحه مألوفة.
كانت دعوة مريبة من امرأة غريبة قابلها على أحد أرصفة مدينة أكثر غرابة. لم يقاوم فضول اكتشاف هذا النزل المنزوي في ضاحية يطوقها سكون مبهم جليل، وخيل إليه أن زمنه توقف عند تاريخ معين.
لم يستطع الرجل التأقلم مع هذا الزمكان الجديد، ونهشت ذئاب الغربة روحه في ضراوة، وخجل من دموع تستجدي خلوة في إلحاح مقيت.
لم يعبأ الغريب بجملة السائق -شحيح الكلام- الأخيرة بأنه يشبه ممثلا مصريا نسي اسمه في تلك اللحظة. لم يسمعه، وهو يتحسر على زمن الفن الحقيقي. تذكر فرح المرأة الطارئ، وهي تعلن أنها لم تستطع أن تنسى دور أبي العلاء البشري، واستعاد الرجل سخرية المارة من «موضة» ثيابه القديمة، وشبهوه برجل هارب من القرن التاسع عشر، وهو يستفسر عن الطريق إلى زمنه، ويصيح في عصبيته المعهودة بأنه لا يرحب بحياة لا تختلف عن الموت. لم ينتبه الشيخ إلى أن المرأة كانت تدفع كرسيا متحركا، لكن سؤال الشاب المقعد ألجم لسانه: «كيف استطعت أن تهرب من الموت؟».
لفت انتباهه أنه الوحيد الذي يقرأ كتابا في هذه المدينة، وخانته الكلمات عندما قال الشاب إن الشخصيات الروائية لا تموت مثلنا، فهي تعيش خلودها الخاص بين صفحات الكتب، وأكثرها التصاقا بالذاكرة تلك التي تتمتع بجنون خاص ولذيذ.
حاول الرجل أن يستعيد بعض ماضيه القديم، لكن الذاكرة المتعبة خذلته بفراغات متقطعة شوشت على الصور المتداخلة والمشاعر المتشابكة؛ أيقن أنه لم يكن حلما أو كابوسا آخر.
لم يستطع مقاومة إغراء كلمات رجل يدعي أنه أنفق حياته في الركض وراء الحكايات، فاته أن يعيش حياته الخاصة، بل فشل في أن يعيشها على أرض الواقع بروح أبطال خياليين، وبعد أن نضب نهر حكاياته، أو بمعنى أدق لم يعد هناك من يرغب في سماع خرافاته، لجأ إلى المقبرة، ومن حسن حظه أن الأموات لن يعترضوا على قصص متداخلة، واختار أن يبتكر حكاية رجل يشتري أحلام الآخرين، ويكافئهم بمنحهم فرصة العودة إلى الحياة بضعة أيام…
2
من رقدته الأخيرة، اختار السيد أبو العلاء البشري أن يتنازل عن أحلامه الطوباوية وأن يعيش الحياة التي لم يعشها، وأن يتزوج فتاة أحلامه، دون أن يفصح عن ندم نهش -وإلى الأبد- دواخله كسرطان بغيض، وفكر بأنهما سيلتقيان في أرض أخرى، سيختاران العيش تحت سماء محايدة كالأحلام تماما.
لم يصارح الحكاء العجوز الأموات بأن حياتهم الأخرى سيعيشونها بمسار عكسي؛ ستبدأ حياتهم الجديدة من لحظة الموت، كما في قصة وودي آلن «حياتي القادمة»، لكنهم لا يعرفون نهايتها.
هكذا وجد نفسه محشورا بين غرباء في نزل صغير يدعى فندق الأحلام، لمح بين النزلاء الشاب المقعد وأخته. أيقن أنه كان ضحية خداع رجل خرف أو محتال. كان الشاب المقعد يرنو إلى صفحة معينة في كتاب، كانت صفحة بيضاء مثل ذاكرة رضيع، قلب بقية الصفحات، ربما بحثا عن بياض آخر، وأشار إليه بيده -وبوجه بشوش- أن ينضم إلى جلسته، وطلب منه أن يقفز بين دفتي الكتاب، أخبره الشيخ بأنه لا يمكن أن يفعل ذلك، ولا يقبل أن يكون شخصية في نص مؤلف آخر، حتى لو كان رواية «الدونكيشوتي الأخير»، فهو يبحث عن أسامة أنور عكاشة حتى يعيده إلى زمن البراءة : «أعرف أن أسامة سيغضب، على الرغم من الصداقة التي كانت تجمعنا، ولكنني أكره أن أقضي حياتي بين الغوغاء…».
3
سنفترض أن كاتب هذه القصة القصيرة كان يشاهد حلقة قديمة من مسلسل شهير، وفجأة انقطع التيار الكهربائي، وبدل أن يعلن عن تبرمه، اختار أن يسفح دم الوقت بأن يغمض عينيه ويحدق في السقف، وفي ظلام الغرفة الذي خدشته أشعة الإنارة العمومية، وهي تتسلل من الشباك المفتوح مع نسمات طرية، فتخيل هذا اللقاء مع أبي العلاء البشري، لكنه لم يكتب هذه القصة المؤجلة منذ شهور، والتي تبدأ بقفزه من الشاشة، ولا نعلم نهايتها إلى حدود كتابة هذه السطور؛ هكذا سيجد نفسه أو كلاهما في عالم مجنون، وسيبدو الأمر مثل ورطة حقيقية، وسيكون من البلادة السردية أن ننهيها بعودة التيار الكهربائي، والقفز إلى الشاشة مرة أخرى.
سيتجول الكاتب بين القنوات الفضائية، بعد أن نسى أين كانت تعرض حلقة قديمة من مسلسله الأثير، بيد أن الدهشة ستعقد لسانه، وهو يقرأ خبرا عاجلا في شريط يقبع أسفل قناة أجنبية عن رجل عجوز في إحدى القرى المتاخمة لمكسيكو يدعى ماريو لوبيز قام بحرق قرية كاملة بسبب إتلاف أحدهم محصول حقل الذرة الصغير، كانت ملامح الرجل تشبه ملامح أبي العلاء البشري، وفي قناة أخرى، كان ضباط الشرطة الكبار يفاوضون -عبر الهاتف المحمول- رجلا إيطاليا يقود حافلة نقل سياح، ويهدد بأن ينفذ عمليته الانتحارية. كان البث مباشرا، والأسباب مجهولة في تلك اللحظة، ويقول المعلق إن ثمة شكوك تحوم حول انتمائه إلى منظمة إرهابية. كان الرجل يشبه الفنان الراحل محمود مرسي، الاختلاف البسيط بينهما هو شارب الرجل الكث الأسود، والاسم…
أطفأ التلفزيون خشية أن تتحول ليلته إلى كابوس أخبار بائسة عن أشباه أبي العلاء البشري في هذا الكوكب، وهم يعلنون عن أحقادهم، كأنما ينتقمون من بلاهة رجل تقمص دور النبي الأخير، وفكر في كتابة قصة بلا يقين سردي، ولا حبكة، ولهذا السبب لن يكتبها، وربما، سيشعر القارئ بخيبة أمل، بعد أن يفشل في العثور عليها في أي كتاب من كتبه القادمة، لكنه لن يتوقف عن الحديث عن مشروع هذه القصة، وسيخبر شابا مقعدا في نزل صغير بأن الفرق بين عالم الأموات والأحياء هو الأحلام، ويصارحه بأنه فشل في أن يكمل كتابة روايته الثانية، لأن هذه الحياة تشبه نسخة رديئة من الموت، بعدما خدعه كاتب كبير، عرض عليه مخطوط روايته البكر «الدونكيشوتي الأخير»، فنشرها باسمه، ولم يصدقه أي أحد؛ فلا يمكن لكاتب نكرة أن يكتب رواية ملحمية فازت بعدة جوائز، اختار بطلها أن يرويها، وهو غارق في دوامة موت إكلينيكي.
الكاتب المغربي هشام بن الشاوي
