«مات ملك الموسيقى»… هكذا نعت جريدة الأهرام الملحن بليغ حمدي عند رحيله في 12 سبتمبر 1993، فكان وسيظل ملكاً متربعاً على قمة التلحين في الوطن العربى قاطبة.. وبمرور الذكرى الـ29 على رحيل الملحن الأكثر قرباً من الجماهير، تتدفق إلى الذاكرة الكثير من الأقاصيص والمرويات العالقة بكل لحن ترنمته أوتاره الساحرة، فتنعشها بـ”ندى” المشاعر، وتعطرها بـ”عبق” الأحاسيس”. هذا “البليغ” صاحب الجسد النحيل والأنامل المسحورة، اِمتلك جُملاً موسيقية لايزال يحتار فيها الجميع حتى الآن، لما حملته من رسائل مزدوجة أحدها قريباً والأخر بعيداً. فكثيراً ما رافق إيقاع ألحانه الراقِص “إهتزازة ألم” أبَت الطفو، فيما احتضن شجنها الموسيقي السَلسِ مسحة تفاؤل دائماً ما قاومت الاستغراق فى الحزن.
صاحب الإيقاع الراقص الباكي
بدا “بليغ” دائماً كـ”حكاية” مُنغلِقة على ذاتها، و”سرّاً” لم يتَكَشَف بَعد. كان ينهل من موهبة ربانية منذ نعومة أظافره، فأحب الموسيقى والعزف على العود منذ الصغر، وطلب من والده عوداً وهو لا يزال في الثامنة من عمره، وعلى الرغم من التحاقه بكلية الحقوق إلا أن النوتة الموسيقية ظلت تتدلى بأطياف خياله، حيث درس الموسيقى في معهد فؤاد الأول.
دخوله الأول إلى عالم الفن كان من باب الغناء، عندما قدمته الإذاعة المصرية- للمرة الأولى- كمطرب جديد في منتصف ديسمبر عام 1954، ليتجه بعدها بفترة وجيزة إلى التلحين. ومن ألحانه الأولى غنّت فايدة كامل “ليه يهجر ليه”، وغنّت فايزة أحمد “ما تحبنيش بالشكل ده” و”حسّادك علموك”.
توطدت علاقته بالفنان محمد فوزي، الذي أعطاه فرصة التلحين لكبار المطربين والمطربات من خلال شركة «مصرفون» التي كان يملكها فوزي. وفي ١٩٥٧ لمع اسمه الناشئ في سماء التلحين من خلال أغنيتين أدّاهما “العندليب” على شاشات السينما في فيلمي “الوسادة الخالية” و”فتى أحلامي”؛ وهما “تخونوه” و”خسارة خسارة”. في ذلك الوقت استطاع “بليغ” أن يُنافِس محمد الموجي وكمال الطويل، اللذين سبقاه في دخول معترك التلحين. وتصدّرت هذه الأسماء الثلاثة عالم الأغنية المصرية الحديثة، حيث جذب هذا الجيل الجديد من الملحنين كوكب الشرق أم كلثوم، ليدخل بليغ حمدي بدوره عالم أم كلثوم من الباب العريض في عام 1960، عندما تعرف عليها من خلال الفنان محمد فوزي في حفل جمعهما بمنزل طبيبها زكي سويدان، فقام بتلحين أول كوبلية لها من أغنية “حب أيه” وهو جالساً على الأرض، فجلست “الست” بدورها إلى جواره، ما أثار دهشة الحضور، فعندما كان يدخل في نوبة تجلي، يُغمِض عينيه ويبدأ في استحضار جُمَله الموسيقية في غفلة من الزمان.. فقط يتأنى مُتلقياً ما يأتيه من وحي، فلا يُفلِته لأي سبب من الأسباب.
عندما تعرف عليها من خلال الفنان محمد فوزي في حفل جمعهما بمنزل طبيبها زكي سويدان، فقام بتلحين أول كوبلية لها من أغنية “حب أيه” وهو جالس على الأرض، فجلست “الست” بدورها إلى جواره، ما أثار دهشة الحضور.
الصورة: بليغ حمدي وأم كلثوم | youm7.com
وبالفعل نجحت أغنية “حب أيه” نجاحاً ساحقاً، ليتوالى بعدها تعاونهما في أكثر من عمل؛ مثل (بعيد عنك، كل ليلة وكل يوم – ظلمنا الحب- أنساك ده كلام – سيرة الحب)، وفي تلك الفترة كان يربط بين بليغ والفنانة الجزائرية وردة قصة حب عنيفة وتعيسة في نفس الوقت، نظراً لرفض أسرتها ارتباطه بها، ويُقال أن مقدمات هذه الاغاني الكلثومية الرائعة، التي قام بليغ بتلحينها، كانت رسائل ضمنية غير مباشرة إلى معشوقته الغائبة، حتى أن أم كلثوم كانت تُمازِحه قائلة “أنت بتشتغَلني كوبري للبنت اللي بتحبها ؟!”.. فكانت روائع “الست” أشبه برسائل حب ضمنية يتهجى بها ولعه المُقيَد، وبعد هذا التعاون الثري مع “ثومه” أدرك بليغ الشهرة وذاع صيته وهو في الثلاثين من عمره، حتى صار يتهافت عليه كبار المغنيين بغية الحصول على لحن من ألحانه.
كما واصلت أم كلثوم تعاونها المثمر معه، وقدّمت في 1967 أغنية “فات الميعاد” من كلمات مرسي جميل عزيز، ثم نشيد “سقط النقاب” للشاعر عبد الفتاح مصطفى، إثر الهزيمة الكبرى. في الواقع عُرِف عن بليغ حمدي حبه الشديد لمصر، فهو من أكثر الموسيقيين تلحيناً في حب مصر، ففي هذه المرحلة التعيسة من تاريخنا، غنّى “حليم” من شعر الأبنودي وألحان “بليغ” “عدّى النهار” التي صارت رمزاً لمرحلة النكسة، كما أصبحت أغنيه “علي الربابه بغني” للفنانه وردة رمزاً لحرب أكتوبر المجيدة ومرحلة العبور، تلاها مجموعة من الأغاني من تلحينه وهي (البندقية اتكلمت / لو عديت / عبرنا الهزيمة / فدائي / بسم الله / عاش اللي قال)، بينما بقيت أشهر أغانيه الوطنية علي الإطلاق هي أغنيه “يا حبيبتي يا مصر” للفنانة شادية.
مايسترو الأغنية الشعبية أم الوطنية أم الرومانسية؟
كان كل هذا وأكثر، فقد ترواحت ألحان بليغ حمدي ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، لكن الغاية الأساسية التي أدركها بليغ واستطاع تحقيقها من خلال موسيقاه هي إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال أم كلثوم، والعندليب، وشادية، وغيرهم.. كما اشتهر بليغ بسهولة وبساطة ألحانه، وكانت ألحانه واقعية متأثرة بالتراث الشعبي، مثل ألحان سيد درويش، الأمر الذي جعل أي متذوق للموسيقى قادراً على التفرقة بين موسيقاه وآي موسيقى أخرى يسمعها، حيث غنّى العندليب من كلمات عبد الرحمن الأبنودي “انا كل ما قول التوبة” سنة 1966، ومن كلمات محمد حمزه “سواح” سنة 1967، وحقق نجاحاً فاق كل التوقّعات. كذلك قدم الفلكلور المصري بكافة أنواعه ورِتْمه وجمله الشجية من خلال تلحينه مجموعة من الأغنيات التراثية لا تزال حيّة في الذاكرة، بالتعاون مع الثنائي محمد رشدي وعبد الرحمن الأبنودي؛ من بينها (عدوية/ بلديات/ وسع للنور) كما قدم لمحمد رشدي من كلمات آخرين (ميتى أشوفك/ على الرملة/ مغرم صبابة/ طاير يا هوى)
غنّى العندليب من كلمات عبد الرحمن الأبنودي “انا كل ما قول التوبة”، ومن كلمات محمد حمزه “سواح”، وحقق نجاحاً فاق كل التوقّعات.
الصورة: عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي | rotana.net
يُحسَب أيضاً لبليغ جهوده في مزج أو استحداث “دروب إيقاعية” تم إضافتها إلى قائمة الإيقاعات العربية المُستَخدَمة ليبدع أنواعَا جديدة، ويشير المتخصصون في عالم الموسيقى إلى عبقريته في السبق بابتداع العديد من الإيقاعات المركبة والتي استخدمها آخرون بعده، كما يؤكدون اهتمامه بتطوير أداء الكورال والأصوات البشرية المصاحبة للمطرب. فأدخل وللمرة الأولى في تاريخ الغناء العربي الأصوات البشرية في سياق الأغنية ذاتها لتعبر عن دراما النص كما كان له السبق في إقناع كوكب الشرق باستخدام الكورال في أغنية “حكم علينا الهوى”.
يعد بليغ حمدي أيضاً من الملحنين القلائل الذين جمعوا بين ألوان غنائية مختلفة، منها الرومانسي والشعبي والوطني والقصائد، حتى الابتهالات الدينية قدمها مع المنشد الشهير النقشبندي في ألبوم “مولاي” ، وقدم للأطفال أيضاً أغنية “أنا عندي بغبغان” وأغنيات أخرى تضمنها مسلسل “اوراق الورد” للفنانة وردة، كما وضع الموسيقى التصويرية لكثير من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية؛ منها (إحنا بتوع الاتوبيس، أه يا ليل يا زمن، العمر لحظة، أبناء الصمت، شيء من الخوف)، ومن المسرحيات (ريا وسكينة/ زقاق المدق/ تمر حنه)، ومن المسلسلات (بوابة الحلواني) وهي آخر ما قام بليغ بتلحينه في حياته، وهذا اللحن هو أكثر ما ساعد على نجاح المسلسل وسبب شهرته وشعبيته. كما اتجه للمسرح الغنائي وشغف به، حيث كان يرى أن تلحين الأوبريتات هو التطور الطبيعي لمشروعه الموسيقى، وأول أوبريت لحنه كان “جميلة”، ثم تلاه أوبريت “مهر العروسة” تأليف عبد الرحمن الخميسي، حيث تناول تأميم قناة السويس وأمضى عاماً ونصف في تلحينه وعُرِض في أوائل عام 1964، وكانت النتيجة المباشرة عودة المسرح الغنائي.
علاقة حب.. أثراها الفن أم أثرت الفن؟!
الواقع أن مسيرة الملحن الراحل بليغ حمدي الفنية غنية عن التعريف وتميزت بالثراء والتنوع الشديد، فعلى الرغم من زخم منتجه الموسيقى، إلا أن رصيده الفني مع الفنانة وردة- التي ربطه بها زيجة دامت 7 سنوات، وكانت من أشهر الزيجات الفنية في الوطن العربي- ظل يحمل مذاقاً ذا خصوصية فريدة، حيث بدأت الشرارة الأولى في علاقتهما عندما وقعت وردة في حب “بليغ” دون أن تراه وهي في السادسة عشر من عمرها عندما شاهدت فيلم “الوسادة الخالية” بإحدى دور العرض السينمائية في باريس، حيث استبد بها الولع عند سماع أغنية “تخونوه” التي تغنى بها العندليب في الفيلم، وظلت تبحث عن اسم ملحن الأغنية حتى تراه وتقابله. وعندما جاءت مصر ظلت تترقب هذا اللقاء الذي انتظرته طويلاً، حتى التقت به في منزل الفنان محمد فوزى، ووقع “بليغ” في غرامها منذ اللقاء الأول. كان أول ألحانه لها أغنية “يا نخلتين في العلالي”، وقرر بعدها الارتباط بها، لكن طلبه قوبل بالرفض الشديد من جانب أسرتها، ومر كل منهما بتجربة زواج أخرى.
وقعت وردة في حب بليغ دون أن تراه وهي في السادسة عشر من عمرها عندما شاهدت فيلم “الوسادة الخالية” في باريس، حيث استبد بها الولع عند سماع أغنية “تخونوه” التي تغنى بها العندليب في الفيلم.
الصورة: وردة وبليغ حمدي (أرشيف مجلة الموعد)
ليس هذا كل شيء، فالقصة التي جمعتهما كانت عصية على النسيان سواء في البداية أو النهاية، فبعد فراق دام تسع سنوات، إلتقيا مجدداً في احتفاليات العيد القومي لاستقلال الجزائر، وبعد أن أنفصلت عن زوجها الأول عادت مرة أخرى للوسط الفني، ثم تزوجت بليغ، حيث كُلِلًت هذه الزيجة برصيد فني من أشهر أعمال الفنانة وردة، فغنت أكثر من 40 أغنية من تلحين زوجها؛ من أشهرها: “العيون السود، اشتروني، خليك هنا، حكايتي مع الزمان، احضنوا الأيام ، بودعك”.
والواقع ظلت هذه الزيجة جذوة لكليهما حتى بعد انفصالهما، حيث ارتبطا، فنياً وعاطفياً، ارتباطاً بالغاً. وقدما معاً ثنائيات شديدة النجاح، فكرّس لها “بليغ” الجزء الأكبر من ألحانه، إذ تقول المطربة الراحلة وردة عن رفيق عمرها: “بليغ كان موسيقاراً فذاً، لكنه كان زوجاً غير مكترث، ينسي كل شيء من أجل أن يقدم لحناً جديداً، فكم أردته لي وحدي، وفي ذلك قَدر من الأنانية أدركته لاحقاً.. كم أذهلني بأغنيات سيرة الحب والحب كله من غناء السيدة أم كلثوم.. وكم كان كريماً معي، علمني كثيراً وأبكاني كثيراً، وستظل حياتي كلها في كفة وعلاقتي به كـ”انسان” في كفة أخرى، لقد هربت منه إليه”.
ربما يسرق الفن أحياناً حيوات أصحابه، ولا يترك لهم متسع من الخصوصية، فيصبحون “ملكية عامة” لا “خاصة” وهو ما يُعرضهم كثيراً لـ”هزات” عنيفة في حياتهم الشخصية، لكنهم في النهاية يدركون الخلود بفنهم الذي يعيش ويتمدد في أوصال أجيال تحفظ الإرث الثري.. والمؤكد أن العبقري الراحل بليغ حمدي كان من بين الفلتات، التي لم تتكرر حتى الآن. فكان موسوعة موسيقية شاملة متناسقة الأدوات، وربما لم ينل حتى الآن الاحتفاء الكافي واللائق برحلة عطاءه، فقد رحل “البلبل” مثلما كان يسميه أصدقاءه المقربون، تَارِكاً أصداء ترانيمه تملأ المكان.
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر