ثلاث روايات للروائية السورية نغم حيدر؛ تمارس فيها رياضة الملكَات، وهي تحرك فكرها في الجحيم السياسي والاجتماعي السوري، بما فيه خراب الثورة أو تخريبها وتبعاتها على الحياة، إنْ في الداخل السوري أو في المنافي خاصة في روايتها الأخيرة “معارك خاسرة”. روايات تجابه فيها هذا الواقع من أجل كشف وتعرية شروط الوجود الإنساني المادية القاسية على السوري، محاولة إصابة، أو توجيه إصابات إلى كبد الحقيقة. فالديكتاتور، أو الديكتاتوريات لا تنتج لشعوبها سوى الفقر والجهل والتخلف.
الروائية نغم حيدر (من مواليد دمشق عام 1987) في رواياتها وبتفكير عقلي، نجد أنها تحفر في الواقع الأسري، واقع الأسرة السورية وما هدَّدها ويتهدَّدها من عوامل سياسية ودينية قاهرة في نظام يستهدف؛ بل يحول الناس إلى فريسة لمكائده. عن هذه القضايا، وبمناسبة صدور روايتها الأخيرة كان هذا الحوار:
– لاحظتُ من خلال قراءتي لرواياتكِ أنَّكِ تعملين على قتل (الأب) خاصة في روايتك الجديدة “معارك خاسرة”. أهو انتقام أم ردُّ اعتبار؟
لا أبداً ليس انتقاماً بل على العكس تماماً. هي محاولة لإقامة حوار غير تقليدي وغير معتاد لا يتوقَّف على الكلام وإنما يعتمد الأفعال أيضاً. إذ نجد أنَّ الشخصيات تهرب وتناور وتواجه، حتى أن ملامح الوجوه تتدخل بالسرد. حركات الأصابع وتلويح السواعد. الرواية ليست عن قتل الأب رمزياً بمعناه المعروف وإنما نفضٌ وتفكيكٌ للعلاقة بين الجيلين، والتي حكمتها ظروف البلاد السياسية والدينية. وإن كان لا بدَّ من قتل رمزٍ ما من خلال صفحات الرواية، فيمكن القول أن ما قُتل بين السطور هو ذلك الصمت المُفتعل بين الجيلين، خوف الآباء من مكاشفة الأبناء أيضاً، وحيرة الأبناء تجاه ضعف آبائهم. باعتقادي أنَّ الوضع السياسي لبلادنا له تداعيات على البيوت وعلى التربية والعلاقات الأكثر حميمية بين البشر. وصل ذلك التأثير إلى ذروته في الفترة الأولى من الثورة إذ انكشفت كل الندوب وأصبح من الممكن رؤيتها ولمسها وتمرير كفّ اليد على التحامها الكاذب. لذلك فإنَّ الرواية تتناول هذه الجزئية بالتحديد. التأثير اللامرئي والمتراكم للسياسة والدين على معاني الأبوّة والبنوَّة.
نغم حيدر: الرواية (معارك خاسرة) تتناول هذه الجزئية بالتحديد. التأثير اللامرئي والمتراكم للسياسة والدين على معاني الأبوّة والبنوَّة.
غلاف “معارك خاسرة” (دار نوفل)
– شخصية سعد في روايتك “مُرَّة” وهي الرواية الأولى لكِ، كمن ملَّ من روتين الحياة مع زوجته الأولى عزيزة، فيتزوَّج من نور الشابة، ويُسكِّنها في المنزل المقابل لمنزله مع عزيزة، أهي المواجهة المستترة بينهما حتى تكتشف عزيزة أن نور التي تعاملها مثل ابنةٍ لها ما هي سوى ضرَّتها التي تقاسمها؛ بل تسلبها زوجها. مواجهة لم تذهب إلى الصدام ومن ثمَّ الانفجار؟
في البداية تضيء الرواية على مسألة عدم وجود سبب تحديداً للزواج الثاني باعتبار أن الأسباب كلّها لا تعود مُهمَّة أمام عدم منطقية هذا الفعل، والمحاولات الفاشلة لتبريره. وجود الزوجة الثانية كجارة جعلَ البطلة قادرة على مراقبة التفاصيل يوماً إثر يوم. الرواية تتحدَّث تحديداً عن النساء اللواتي يخترن الصمت في مواقف كهذه، وعن كلِّ ما يدور في عقولهن، وما يتغيَّر في مشاعرهن بعد هذا القبول. نحن نراقب البطلة وهي تمارس يومياتها الاعتيادية، وفي الوقت ذاته نلمس ما في داخلها من قلق، وغضب وتخبُّطات. كأنَّ الرواية تقول إنَّ الانفجار قد يكون مكنوناً مختبئاً حتى وإن ظهر على المرأة العكس.
– لاحظت أنَّك في جانب من تقديمك لشخصية سعد أنَّك تُفرِّغين عقله من (الفكر- التفكير) الإنساني. بل لا مشاريع ولا هموم سياسية أو اجتماعية عنده، بعكس روايتك الأخيرة “معارك خاسرة” حيث الرجل فيها كان صاحب فكر سياسي نهضوي تحرري يقارع الاستبداد – استبداد السلطة، وإنْ دفعَ السجنَ ثمناً كمكافأة له من هذه الأنظمة ولمن يفكِّر بالثورة عليها؟
لست مسؤولة دائماً ككاتبة عن تفريغ عقل شخصية ما أو ملئه. في “مُرَّة” يجري السرد بطريقة تيار الوعي؛ بمعنى أن كُلّ ما يُسرد هو أفكار الشخصية ورؤيتها وتصوراتها، لذلك فإنَّ عزيزة هي التي وجدت ربَّما- أنَّ سعد يشبهُ إلى حدٍّ كبير الكتل الإسمنتية والأبنية الموصدة التي يعمل على بنائها كلَّ يوم. أما في رواية “معارك خاسرة” فيحاول الابن قهر أفكار أبيه ومُنازَلَتَها، وكأنَّها ندٌّ. لذلك فإنَّ موضوعيّْ الروايتين مختلفين تماماً، والشخصيات المراقبة والساردة أيضاً مختلفة، ولا مجال للربط بينها.
نغم حيدر: في رواية “مُرَّة” يجري السرد بطريقة تيار الوعي؛ بمعنى أن كُلّ ما يُسرد هو أفكار الشخصية ورؤيتها وتصوراتها.
غلاف “مرّة” (دار الآداب)
– نور الضرَّة كانت كشابة تمتلك الجسد الفتي والجمال– كأنَّ على المرأة أن تبقى صبية- هو ما دفع سعد للزواج منها، وهو ما أثار لدى عزيزة إحساسها بالأنوثة. هل ترين أنَّ على المرأة أنْ تدافع طويلاً عن جمالها كي لا يضرَّها بـ(ضرَّة)؟
لا طبعاً. هذا ليس الهدف من الرواية، ولا تجري المقارنة فيها بين الامرأتين على أسس كهذه. أما وجهة نظري الشخصية بموضوع الضرة فأظن أنها واضحة، ومن غير المنطقي أن أكتب رواية لأقول للنساء حافظن على جمالكن وصباكن كي لا تتضررن بضرّة! أليس كذلك؟
– في روايتك التالية “أعياد الشتاء” بعد “مرَّة”، وفي مخيَّم اللجوء، وفي غرفة ضيِّقة، في الرحلة السيزيفية للسوريين وقد هُجِّروا؛ تضعيننا ثانية مع امرأتين ليستا ضرتين- الأولى شاهيناز بنت الهوى التي كانت بمثابة عشيقة لضابط الأمن؛ وكل الذي مارسته لم تستفد منه، حتى إنَّ الضابط هذا يرميها بعد أن يجرِّدها من ممتلكاتها كما لو إنَّها جيفة بعد مقتل ولده، ومع راوية التي هي بعكس شاهيناز، حيث يخطفُ رجالُ الأمن والدها ويُغيَّب، ما يضطرها للهجرة والرحيل مع أمها وأخويها الصغيرين. أهي المصائر ذاتها كان ما كان الفعل الذي تقوم به؟
أترك فكرة ردِّ المصائر وتأويلها للقارئ، إذ أنني غالباً أبتعدُ عن البتِّ وإحكام السيطرة على رقاب الشخصيات، كما لا أعتبر نفسي مالكةً للنص وتأويلاته، وإنما أترك للقارئ مساحته وأثره، وأثمِّن أسئلته والتي أعتبر أنَّها تشارك في بناء النص كما كلّ تفاصيله الأخرى. مصير الشخصيتين في هذه الرواية ضبابي وثانوي مقارنة بأهمية المرحلة الحالية التي تعيشانها. بمعنى أنَّ الرواية تصوِّر مرحلة الانتقال من بلاد متقلّبة بصراعاتٍ ساخنة وأحداث مخيفة ومتسارعة إلى بلاد أكثر هدوءاً واستقراراً. شخصياً اكتشفت ثقل ما أحمله في ذهني وذاكرتي بعدما سافرتُ خارجاً وليس العكس، حيث لم تعد الحياة مجرد محاولة للنجاة أو البقاء، وإنما أصبحت أكثر جدية ووضوحاً. أعتقد أنَّ التغيير الجغرافي القسري والمباغت، والذي حصل لأغلبيتنا عنيفٌ أيضاً، نوجِّه فيه أصابع الاتهام لأنفسنا ولماضينا و للآخرين، ونتفرَّسُ ملياً بتلك البقع السوداء المظلمة الكامدة التي تركتها بلادنا فينا، وحمَّلتنا إيِّاها في كلِّ ترحال.
نغم حيدر: أعتقد أنَّ التغيير الجغرافي القسري والمباغت، والذي حصل لأغلبيتنا عنيفٌ أيضاً، نوجِّه فيه أصابع الاتهام لأنفسنا ولماضينا و للآخرين، ونتفرَّسُ ملياً بتلك البقع السوداء المظلمة الكامدة التي تركتها بلادنا فينا، وحمَّلتنا إيِّاها في كلِّ ترحال.
غلاف “أعياد الشتاء” (دار نوفل)
– في رواية “معارك خاسرة” نحن مع امرأتين؛ أمٌّ تضيق بأنوثتها فتمارس دور الأب الذي قضى سنوات من عمره في السجن السياسي ولا تريد أن يذوق الأولاد ما ذاقه الآباء، ومع ابنة هي ميْ الصحفية فتمنعها من المشاركة في المظاهرات التي قامت إبان الثورة السورية. مدٌّ وجزر. أهي النقائض، والمصير واحد؟
في “معارك خاسرة” أظنُّ أنَّ الوجهين المتجابهين في هذا الفصل من الرواية هما وجه الأم والعمَّة. هما يمثلان رغبات الشابّة ومخاوفها، قلقها وجسارتها، قدرتها على الحلم ومطاردة الخيبة لها. لا أعتقد أنَّ الأم هنا تضيق بأنوثتها، وإنما بأمومتها تحديداً. لا نتحدَّث هنا عن الخوف المعتاد ومعناه الغريزي، وإنما عن شكلٍ آخر للخوف، وليد الديكتاتوريات، والذي شوَّه أبسط المشاعر وأكثرها إنسانية. ذلك المدُّ والجزرُ كما أسميتَه هو ببساطة تنازعٌ عميق في ذهن الأمّ بين الحقيقي والمزيَّف. إذ لم تعد تدرك تماماً أيُّ خوفٍ فيها هو الأصيل. من المؤكَّد أنَّها سألت نفسها كلَّ يوم: ماذا لو أنَّها لم تعش في هذه البلاد أبداً و لم تعرفها؟ كيف كانت ستبدو أمومتها يا ترى؟
نغم حيدر
كاتبة وطبيبة أسنان سورية، تقيم في ألمانيا. حازت عام 2010 المركز الثاني في مسابقة وزارة الثقافة السورية للقصّة القصيرة. جاء عملها الروائي الأوّل «مرّة» (2014) ثمرة مشاركتها في محترف الروائية نجوى بركات «كيف تكتب رواية». صدرت روايتها الثانية «أعياد الشتاء» عن دار نوفل (2018)، وأُدرجت على القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فئة المؤلّف الشابّ. «معارك خاسرة» هي روايتها الثالثة بالمجمل والثانية الصادرة عن دار نوفل (2022).
عماد الدين موسى؛ شاعر كُردي سوري، مدير تحرير مجلة «قناص».