كنت في السادسة، وكنت أسير بجانبه إلى قرية الصيادين ممسكة بيده الخشنة كمن يحكم قبضته على درابزين من الحديد السميك الراسخ. كنت في السادسة وما شعرت يوما أنني أقل من أميرات الأساطير والحوريات، لأنه صنع لي من قلبه عرشاً وطفق يقص لي حكايا إمسوان الماتعة الأخاذة. كنت في السادسة، ولم أتخيل يوما أن مكروها يصيبه أو حتى يدنو منه، فهو الخارق الذي يحملني بيد واحدة ويفتح أمامي بدفعة أصبع أبوابا ظننتها محكمة الإغلاق. ولو أن الأرض اهتزت وتصدعت ما كنت لأشعر بها طالما بقربه. نظراته لي شعاع سكينة لا يخبو، وعيونه تحتضن قلبي وتبرأه من كل المخاوف.
لم أكن أرى في حرفة الصيد التي يزاولها جدي إلا جولاتنا داخل البحر ونقاشاتنا اللذيذة التي توجز العالم في أساطير يسردها على مسامعي حكواتي آسر. ولم أكن أتنبه لما يصيبه من مشقة لأن بسماته الساطعة تبهرني وصوته الواثق الآمن يصم أذناي عما سواه. صوته الرخيم كان يختلط بهفيف الأمواج المتهادية ليبث السكينة في قلبي الصغير. مرارة الأيام التي كانت تتراءى لي بين حين وحين كان هو يرمي فوقها ستارا من العذوبة يحول بيني وبين جدار الواقع المظلم الذي كانت نظراتي ترتطم به من حين لآخر. سنوات طويلة والحياة تنهمر على وجهي كنسمات بحرية عذبة أغرق فيها وأغيب. غير أن فتاة أخرى كانت تكبر بداخلي، فتاة لم تعد تغريها الحكايات، فتاة انتصبت بداخلها الأسئلة كقضبان نار حامية.
ومرت الأعوام، وتراكمت بين يدي شهادات وبضع دفاتر سودتها على مقاعد التحصيل في مدرسة إمسوان، ثم سار بي حب العربية والشغف بكلماتها نحو المرحلة الثانوية لأرحل عن قريتي وأحط الرحال بسكن الطالبات في مدينة أجهلها وتجهلني. وشيئا فشيئا، شغلت القراءة وقتا كنت أقضيه مع جدي على القارب. وبدأت أتنقل من مجلد لآخر كمن يمشط أزقة المدينة يبحث عن أهله ومن يحب.
وأخذت أراكم الكتب كما تراكم النحلة رحيق الزهور لتصنع منه عسلا زلالا سائغا. وفور نهاية الدراسة، وخلال العطل وكلما توفر لي وقت شاغر، كنت أذهب لملاقاة شخصيات تمسكني من يدي وتطوف بي على مدار المعمور. وفي غرفتي الصغيرة في المدرسة الثانوية، القابعة في ضواحي مدينة الصويرة، بعيدا عن قريتي إمسوان، لم أكن أشعر بالوحدة، لأنني جمعت أهلي وعشيرتي وطوقت نفسي بهم. وفي آخر الليل، حين تنطفئ الأضواء في سكن الطالبات، كنت أغفو محاطة بالكتب، لأن كتبي منارات مزروعة في محيط الحياة تضيء لي ما خفي من دروبها ومسالكها الوعرة. والعجوز والبحر لإرنست همنغواي واحدة من هذه المنارات. ولكن هل من سبيل إلى تسلق شجرة شامخة تسمو فوق نظيراتها، وتسمو، وتسمو لتبلغ عنان السماء؟ أو ليس الأمر تهورا ما بعده تهور؟ على العكس، لأن القراءة تجرؤ على الدوار، وعلى المرء أن يقرأ كمن ينحني منبهرا أمام عبقرية تنقشع فجأة لتنير كل شيء من حوله.
كان جدي أول العظماء في حياتي. وقابلت بعده كثيرين، وأعجبت بالعديد منهم، لأسباب مختلفة. لكن أحدا منهم لم يمسح دموعي كما فعل هو. ولم يطرد أحد كوابيسي كما فعل هو. ولم ينحت لي أحد مجدافاً ويعلمني التجديف كما فعل هو. ولم يأخذني أحد للصيد كما فعل هو. فمن بين كل العظماء الذين دخلوا حياتي، وحده جدي كان كبيراً بما يكفي ليخبرني عما يوجد هناك، خلف السماء، عندما استبد بي الفضول وسألته:
- قل لي، ما الذي يوجد خلف السماء؟
- هل تتذكرين حلمك؟
- أي حلم؟
- الحلم الذي حكيته لي ذلك اليوم؟
- فأحكي له شيئا ما
- لا ليس هذا الحلم، الآخر كان أجمل
- وأحكي شيئا آخر
- لا، الآخر كان أجمل بكثير
ثم يستمر على هذا المنوال إلى أن أحكي له في النهاية حكاية ملؤها السعادة والفرح. حينها تتغير قسمات وجهه، فيرفع إصبعه إلى السماء ويقول: هذا هو الذي يوجد هناك، جميع أحلامك موجودة في الحقيقة وهي تنتظرك خلف السماء. وإذا حافظت عليها وتذكرتها طوال الوقت، ستتحقق وتصبح واقعا تعيشينه كل يوم. ولكن إياك ونسيانها، وإلا فلن تكبري. لأن من ينسى أحلامه لا يكبر أبدا.
- وأنت، هل تتذكر أحلامك كلها؟
- ليس كلها، أجملها فقط
- قصها علي، قصها علي، أرجوك
- حسنا، حينما كنت صغيرا، في قارب والدي، كنت أحلم بأن أصير أنا أيضاً صيادا عظيما.
- ولم تنس حلمك أبدا؟
- أبدا، أنظري، اليوم أنا أملك قاربي الخاص
- وبم كنت تحلم أيضا؟
- بأن أعلم حفيدي مهنة الصيد
- إذن؟
- إذن ها أنت ذي، حفيدتي المزعجة. أنت ولدي الصغير
كنا نضحك بحرارة. وفي القرية، كان الكثيرون يندهشون لرؤيته يأخذني للصيد. ويقولون بأنها ليست حرفة للفتيات. فيجيب هو: لم لا تذهب الفتاة للصيد ما دامت تأكل السمك. وعلى الرغم من نبرة كلامه المعتدلة الهادئة، فإن جدي كان يرشق الكلمات رشقا. لم أكن أعرف حينها كلمة النسوية. ولم تكن ضمن مفرداته أيضا، لكنني كنت أسعد برؤيته يقف إلى جانبي ويبقيني كبحّارة. فمحاوراتنا في عرض البحر أثمن عندي من كنوز الدنيا وما فيها. ثم إن جدي كان يصر على معاملتي ولو مجاملة مثل أي بحّار متمرس
فبينما كان هو يرفع الشباك، كنت أنا أتكفل بذراع الدفة. ولم تكن ليدي الصغيرة أن تحكمها كل الإحكام، ولم تكن المرساة تتصل بالقاع فينجرف القارب ببطء إلى الجانبين، ولكنني كنت أقاوم بكل قواي. وأسمع جدي يقول لي: تهانينا أيها القائد! فينفتح قلبي وتلج إليه الكلمات كشعاع ضوء ينتفخ به صدري وينتصب له كتفاي.
كان يرسي قدميه جيدا على أرض القارب، وينحني بجسمه السميك ليحكم قبضته على الشباك. يا كريم! ثم يدير جسده رافعاً كتلة الصيد، منتقلا إلى الوراء، وجسده العنيد يئن تحت الحمل الثقيل وخطواته المضطربة تخطئ أحياناً هدفها فيوشك على السقوط. يا كريم! كنت أجلس في مؤخرة القارب، أتأمل هذا العرض الذي يتكرر منذ قرون. لكن المعركة التي كان يقاتل فيها جدي كانت تمسني أكثر من كل المعارك التي دارت قبلها في نفس المكان. كان جدي فرحتنا، ليالينا الهادئة، خبزنا اليومي الذي كان يستخلصه من الأمواج. يا كريم! لقد كان جدي فارسي المغوار، وكنت أراقبه بحماس جارف، وأدقق النظر في كل ما يقول وكل ما يفعل.
ومع كل إطلالة شمس، كان جدي يبذل من الجهد قدر ما بذله في اليوم الذي سبق. وحين كنت أسأله: هل تعبت؟ هل تشعر بالألم؟ كان يلتفت إلي باسماً ويقول: إنها الحياة. لم أره يوما يشتكي أو يتأفف. ولكي أبدي له إعجابي بعظمته، كنت أسأله لأعبر له عن سعادتي بالعيش في كنفه وتحت ظله، متذرعة في ذلك بسؤال أجابني عنه آلاف المرات:
- وتحت الماء، ما الذي يوجد تحت الماء؟
- الكوابيس: عندما ترين كابوسا، وفور استيقاظك، خذي صدفة وقصي عليها ما رأيته، وبعد ذلك ارمي الصدفة في البحر، فلا يعود الكابوس ليطارد منامك. ولكن حذار، فتحت الماء توجد أيضاً الكثير من الطيبات. أنظري، ثم يشير إلى كتل السمك الذي كان يرتجف في أرضية القارب، تأملي جيداً كل الخيرات التي يمن علينا بها الرزاق.
كنا نعيش على شبه جزيرة، ونقتات من البحر. حياتنا بسيطة تنزلق أيامها، بطيئة، رتيبة لا يخالف بعضها بعضاً مثل حبات سبح طال بها الزمن بين أنامل عجوز هرم. ثروتنا، كل ثروتنا مسحوق الذهب الأحمر الذي كان يزين السماء عند الشفق.
لا يملك البسطاء إلا كبرياءهم، ونفوساً صقلها العمل الدؤوب. ولا يطلبون من الله سوى أن يظلوا واقفين على أقدامهم. البسطاء عموماً لا يطلبون شيئا من أحد، بل إنهم لا يتكلمون إلا لماما. وأنا طالما استفسرت عن سبب ذلك في صباي. والآن يبدو لي أن صمتهم حكمة، لأن الكلمات لا تزرع القمح، ولا تضع السمك في الشباك. صمتهم حكمة لأن كلّاً منهم يعيش كل يوم ما يمكن للآخر أن يقصه عليه. صمتهم حكمة، لأن الحقيقة يمكن أن تختزل في مجرد نظرة. ففي هذا المكان من العالم، وحده البحر يتكلم، ووحدها الأمواج، تناجي رمال الشاطئ. وقرية إمسوان تمتد في المحيط الأطلسي مثل خصلة هربت من شعر جميل. لكن جمالها لا يستوقف أحدا. لأن البحارة منشغلون عنها بمقارعة القوت. إنهم يَصبّون كل يوم عرق جبينهم وعضلاتهم داخل المحيط. ومثل خيمائي عنيد، لا يتوقف هؤلاء الأبطال يوما عن إضافة الملح إلى الملح.
واليوم، استعضت عن مجدافي بالحرف، ولكن قاربي ما زال يتمايل، منجذباً كدأبه إلى الأفق. وحين يحن قلبي لرذاذ الطفولة، يتوجه بي إلى المكتبة ليعثر فيها على شفائه: العجوز والبحر. حينذاك أفاجأ بصوت جدي في مسمعي واضحاً وهو يقول: لا حياة لمن لم يكن بحّاراً متمرسا
ربما لم أصبح متمرسة بعد، ولكنني ما زلت أبحر، ومهما كان علو الموج كبيرا لي اليقين بأن جدي لن يتركني وحدي. وكذلك همنغواي.
سهام الوادودي:
كاتبة مغربية، أستاذة لغات، حاصلة على دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب المقارن خاصة ما يرتبط بالأشكال السردية الهجينة في الرواية على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.