أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

قصة «المفتاح» للنيجيرية نييدي أوكرافور | ترجمة سماح ممدوح

استندت هذه القصة على قصة إخبارية حقيقية حدثت في نيجيريا، حين اشتعلت النيران في مراهقة بسبب ضياع مفتاح البيت*

قصة «المفتاح» للنيجيرية نييدي أوكرافور

 ما أغباه مِن شيء حدث في نوبة ذعر غيّر حياة فوادوسي بيلو للأبد. مُدهش، كم نقلق أحيانا مِن أشياء على الأغلب لن تحدث، وما يجب علينا القلق منه بحق على الأرجح يكون من تلك الأشياء التي لم نتخيّلها قط. وهكذا كان الحال مع فوادوسي.

 خلال الشهور القليلة الماضية، أضاعت فوادوسي أشياء صغيرة، كقلمها الرصاص المفضل في المدرسة، أسوارة بلاستيكية أهدتها لها إحدى صديقاتها، ومُلمّع شفاهها. كان ذلك يثير غيظها، لأن عمها وعمتها نادراً ما يعطوها نقودا، ولذا لن تقدر على استبدال أياُ مما فقدت. فب ذاك اليوم المشؤوم، أضاعت شيئا كبيرا، أضاعت مفتاح البيت وأرتعبت مِن غضبة عمها، وكان لديها سبباً وجيها لهذا الشعور.

 عمها رجل طويل القامة، ذراعاه منتفخان كالأناناس، يتمتع بمزاج شيطاني شرس خاصة عندما يتعلق الأمر بالمال. منذ أسبوعين فقط، ضرب فوادوسي لأنها سكبت إبريق الحليب. سقطت على الأرض وصدمت رأسها وفقدت الوعي لثلاثين ثانية. كانت لا تزال ملقاة على الأرض بينما عمها يصرخ بعمتها ألا تساعدها.

«دعيها تقوم بنفسها» سمعته فوادوسي وهو يزمجر هكذا بينما تستعيد وعيها ببطء.

تتذكر فوادوسي هذا بوضوح وغضب. الغضب الذي لم تظهره أبدا لعمها أو عمتها. وبدلاً من الغضب، حاولت جاهدة الإبتعاد عن طريق عمها، وتلبية كل ما كانت تطلبه عمتها. الآن، أضاعت مفتاح البيت وإن لم تجده فسيضطر عمها لشراء مفتاح جديد، والمفتاح الجديد سيكلف نقودا. ومَن يعرف مَن سيجد المفتاح القديم! وربما يستخدمه في اقتحام البيت. سيغضب عمها.

 لكن مِن أين كانت فوادوسي ستعرف أن عمها نال علاوة كبيرة فى عمله ذاك اليوم؟ من أين كانت ستعرف أنه سيعود للبيت مغموراً بالسعادة حتى أنه لن يلحظ وجودها؟ لم تكن وسيطة روحانية لتطّلع على المستقبل لكنها كانت تعرف الماضي. والماضي يقول لها بأن عليها إيجاد المفتاح.

«ربما أوقعته فى طريق عودتي مِن المدرسة، أتمنى لو أن هذا ما حدث» همست وقررت تقفي أثر طريقها.

لم تكن المرة الأولى التي تتمنى لو تمُد لها روح أبيها وأمها يد العون. سارت ببطء من عتبة باب البيت نزولا إلى طريق العودة الترابي، وحتى منتصف الطريق إلى المدرسة وعينها مثبتة على الأرض.

«فوادوسي، طاب نهاركِ» قالت ماما آما. حاولت فوادوسي الإبتسام للمرأة العجوز الجالسة أمام باب بيتها والي تراها كل يوم وهى مارة بها.

«طاب نهاركِ، ماما آما» ردت فوادوسي بصوت هادئ عالِ. تبلغ فوادوسي من العمر ثلاثة عشر عاما وكل يوم يستقر صوتها أكثر ويصير أوضح. لكن في تلك اللحظة لم يكن عقلها منسجما مع صوتها، فتشوشت أفكارها بالقلق.

تحرّكت سريعا، تُمعن النظر على جانبي الطريق الترابي، يضرب صندلها التراب ويسحق أوراق الشجر الجافة وأكياس رقائق الموز القديمة. تبحث وتبحث وتبحث. «أرجوك» هكذا همست وهي تنبش الطريق بعينها بشكل محموم«أرجوك، أرجوك، أرجوك».

مرت بالمسجد حيث يركع العديد من الرجال يصلّون لله. لا يوجد مفتاح.

أجتازت السوق متجنبة عيون الرجل الغريب الذي طالما أرتدى ثياباً حمراء، ويبيع نسور مقصوصة الأجنحة. لا يوجد مفتاح.

سارت على طول طريق عودتها إلى مدرستها الصغيرة حيث كان اثنان مِن معلميها يأكلان قرب مبنى المدرسة، الجادا والبطاطا المقلية. لا يوجد مفتاح.

عندما أدركت أنها بحثت في كل الأمكنة، تسارع خفقان قلبها بجنون. سيتواجد عمها بالمنزل في غضون ساعتين. وتتوقع عمتها وصولها للبيت لتحضّر العشاء، وبعد العشاء بقليل ستجلس لتنجز واجباتها المدرسية على ضوء الشمعة. من المفترض الآن أنها تجمع مكونات العشاء، لا أن تقف هنا تحت الشمس مضطربة. لكنها لا تستطيع مجرد دخول البيت. المفتاح… لقد ضاع.

 تقف هناك على جانب الطريق خارج مدرستها، تندفع السيارات بجانبها تلفّها بالغبار. تقلصت أكتاف فوادوسي عندما أجتاحها الخوف والقلق وخنقها كالدخان. بدأت تبكي بحرقة، بكاءً أرجف كيانها بأكمله. قبضة عمها كالصخور ومزاجه جحيمي. وفجأة وسط البكاء لمعت برأسها أكثر الأفكار إزعاجاً. «هاه» شهقت وأهتز جسدها بينما تفرك يداها معاً. برقت الفكرة برأسها كشرارة تُشعل ما هو جاف. مسحت دموعها من على خديها «نعم، هو كذلك» همست لنفسها بينما تندفع السيارات بجوارها مثيرة سحابة الغبار.

ركضت عائدة للبيت. تقطع خطوات واسعة بساقيها الطويلة النحيلة. يجب أن تعود قبل عمتها. عندما وصلت هرعت خلف البيت، تسللت عبر الحديقة البائسة للبطاطا الذابلة والكسافا والطماطم. كان عمها يحرق بعض الأخشاب القديمة فى الناحية الأخرى مِن الحديقة فتعبقت برائحة الدخان.

تنهدت فوادوسي بارتياح عندما رأت مصباح الكيروسين بالضبط حيث تركته بالقرب من الباب الخلفي بجانب دلو الماء، ولا يزال ممتلأً بالكيروسين. أيضا وجدت علبة ثقاب لإشعال المصباح.

أخذت نفساً عميقا وحاولت تجاهل صوت فتح الباب الأمامي. كانت عمتها بالبيت. كان عليها أن تُسرع. فككت مصباح الكيروسين فسالت أنفها ودمعت عينها من قوة الرائحة. سكبت السائل الزيتي على يدها. ستُشعل السائل وتصيب يدها بحروق طفيفة، بعدها تسارع وتغرق يدها فى دلو الماء. ستكفي هذه الحروق في استدرار عطف عمها ليصير بعدها أكثر تساهلا في معاقبتها على ضياع مفتاح البيت.

 الكيروسين بارداً ينساب بسهولة فوق جلدها. تناثر بعضه على قدمها وركبتها، لكن ليس لديها وقت لتهتم بهذ الآن. وضعت المصباح أرضاً، ألتقطت الثقاب وأشعلت واحداً فأرتفعت آلسنة اللهب وألتهمت يدها. صرخت مذعورة وأنتفضت للخلف، فخبطت دلو الماء.

«آآآه» صرخت وهي تراقب الأرض الجافة تتشرّب كل قطره في لحظات. أجتاح اللهب ذراعيها وسرعان ما أمسك بساقيها وقدمها.

 «عمتي! ساعديني!» صرخت. ألقت بنفسها على الأرض وتدحرجت في التراب، لكن النيران استمرت في الإلتهام واللسع والحرق! جال ألف شيء فى ذهن فوادوسي، لكن الخاطر الأكبر كان «سأموت! سأموت!» سمعت صرخات عمتها المصدومة ثم لم تتذكر سوى السواد.

أندفعت عمتها من الباب الخلفي في الوقت المناسب واستخدمت «روبها» لإخماد النيران التي تحاول إلتهام فوادوسي. وبعدها استلقت كلتاهما فوق الأرض المتربة تلهثان وتبكيان وتسعلان. لم تسأل عمتها عما حدث وفوادوسي لم تحكي. بدلاً من ذلك، تجنبوا النظر في عيون بعضهم عندما كانت العمة تأخذ فوادوسي إلى المستشفى المحلية. وعندما عاد عمها إلى المنزل لم يسمع أبدًا بمشكلة المفتاح، فقد كان ثملاً للغاية بعد الاحتفال مع أصدقائه وكانت الساعة الثالثة صباحًا، لذلك فوّت كل الإثارة.

بطريقة ما عانت فوادوسي من حروق طفيفة، باستثناء يديها. وعندما أخبرت عمتها أنها ربما فقدت مفتاح البيت أثناء حدوث كل هذا، ذهبت عمتها ببساطة إلى المطبخ وأعطتها المفتاح الاحتياطي، هذا كل ما بالأمر!.

بمرور الوقت، على الرغم من شفاء الجلد المحترق على يديها، إلا أنه تحوّل من اللون البني القاتم الطبيعي إلى اللون الأصفر الباهت. كان عمها يُمازحها بأنها الآن ترتدي قفازات تنظيف بشكل دائم مثل الخادمة التي كان مقدرًا لها أن تكون. ثم يضحك بشدة لأن وظيفته الجديدة قد رفعت راتبه وبالتالي كان من السهل دفع فواتير فوادوسي الطبية. لم يكن عمها رجلاً لطيفًا على الإطلاق.

لأشهر ظلت فوادوسي ترتجف وترتعد وترى النار في كل الأركان. كانت متأكدة من أنها رأت «الجني» يدور في كل عمود غبار تثيره السيارات أو ترسله الرياح. لكن لا أحد بقادر على الارتجاف والارتعاد للأبد ولا يوجد شيء اسمه الجني. إما أن تموت أو تعيش. وعندما لا تشتعل النيران في الأشياء، فإن رؤية النار الغير موجودة حقًا، تفقد شرارتها في النهاية. عادت فوادوسي إلى المدرسة وعاد عمها لمعاملتها معاملة أقرب لخادمة. وبدأت تعتاد على منظر يدها.

 ذات يوم، بينما هى جالسة على سريرها تنهي واجباتها المدرسية، سمعت صريرًا من تحت السرير. عندما نظرت إلى الأرض رأت ملمّع شفاهها المفقود منذ وقت طويل يتدحرج ويقف في منتصف غرفتها. عبست عندما أستوعبت ما يحدث. وشعرت بغضب عارم، كالجحيم. ذهبت لباب غرفتها وأغلقته بهدوء. كانت عمتها وعمها في الطابق السفلي يشاهدان فيلم «نوليوودي»*، وكانت سعيدة لأن الصوت مرتفع جدًا. كوّرت قبضة يدها الصفراء القوية بإحكام يكفي لتقرقع مفاصلها.

في تلك الليلة، لم يسمع أحد سوى فوادوسي صراخ «الجريملين»*، اللصوص تحت سريرها. وعندها، لم تكن فوادوسي بحاجة إلى مفتاح البيت الذي أعاده لها الشيء القذر ذي الفراء قبل أن يفر إلى الحفرة الكبيرة أسفل سريرها. وعلى الرغم من أن أحداً لم يعرف ما حدث تلك الليلة في غرفتها، إلا أن عمها عرف هكذا بالحدس أنه لن يضربها مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، منذ تلك الليلة فصاعدا، ارتدت فوادوسي مفتاح المنزل فى سلسلة حول رقبتها مثل القلادة.

***

هوامش:

فيلم نوليوودي هو مصطلح يشير إلى السنيما النيجيرية.

الجريملين هو مخلوق خرافي مؤذي يخرّب الطائرات والآلات.

استندت هذه القصة على قصة إخبارية حقيقية حدثت في نيجيريا: مراهقة تفقد حياتها بسبب مفتاح مفقود، والتي تذكر فتاة تُدعى فواديسي بيلو، كانت مرتعبة من عمها. وهذا هو الخبر:

مراهقة تفقد حياتها بسبب مفتاح مفقود

(كانو، نيجيريا، 10 إبريل2002،  وكالة فرانس برس Agence France-Presse)

 فى نيجيريا، أحرقت فتاة مراهقة نفسها حتى الموت في محاولة للهروب من عقاب عمها لفقدان مفتاح منزلها، حسبما أفادت عمة الفتاة لوكالة فرانس برس الأربعاء.

فوادوسي بيلو، 13 عاماً، التي كانت تعيش مع عمها في ضواحي مدينة كانو الشمالية، سكبت الكيروسين وأشعلت النار في نفسها. وقالت عمتها إنها كانت تنوي فقط إصابة نفسها بحروق طفيفة لتجنب الضرب بسبب فقدان المفتاح. وقالت عائشة جامبو عمة بيلو: لقد فهمت من صديقتها التي تسكن في البيت المجاور، والتي قالت أن بيلو أسرت لها أنها ستحرق جزءًا من يدها لجذب تعاطف زوجي، وهو عمها، هربًا من الضرب. وأضافت: لكن الحريق خرج عن السيطرة، وهرعت الصديقة التي كانت مرتعبة هي أيضا، لطلب المساعدة، لكن قبل وصول المساعدة كانت قد اشتعلت النيران في فواديسي. وقالت العمة جامبو أنها لم تكن موجودة في ذاك الوقت بالبيت ولا عم الفتاة. وأضافت أن الفتاة المراهقة ماتت في البيت لاحقا متأثرة بالإصابة.

وقد قال مفوض الشرطة في ولاية كانو، ياكوبو بيلو، أنه لم يتلقى بعد أي تقرير عن الحادث المأساوي. وتأتي وفاة بيلو بعد أسبوعين فقط من قيام امرأة تبلغ من العمر 27 عامًا بإحراق نفسها في مدينة سوكوتو بشمال غرب البلاد احتجاجًا على قرار زوجها بالزواج من زوجة ثانية.

من هى نييدي أوكرافور: ننيدي أوكورافور، ولدت في 8 أبريل 1974، سينسيناتي، أوهايو، الولايات المتحدة، مؤلفة أمريكية نيجيرية تكتب رواياتها الخيالية والخيال العلمي والقصص القصيرة والقصص المصورة لكل من الأطفال والبالغين عن مفاهيمها للمستقبل الأفريقي والسحر الأفريقي. غالبًا ما تروّج أوكورافور للفتيات السود الصغيرات كأبطال خارقين في عملها، وتحقق كتاباتها في عدم المساواة العرقية والعنف الجنسي والقضايا الاجتماعية الأخرى. ترتكز أوكورافور في عملها على الأساطير الأفريقية. كتب قصصًا مصورة لـ Marvel تضم النمر الأسود وشقيقته Shuri. وكتبت أيضا Tana Ford في  2019، وهي رواية مصورة تدور أحداثها في مجمع سكني في مدينة نيويورك. تظهر القصة امرأة أمريكية نيجيرية حامل تناضل من أجل حقوق الهجرة لكل من البشر والكائنات الفضائية.حصلت ننيدي أوكورافور على جائزة هوجو لأفضل رواية 2016، وجائزة الرواية العالمية عن رواية من يخشى الموت 2011، وجائزة هوجو عن افضل قصة جرافيك 2020، وجائزة كارل براندون بارالاكس 2007 عن قصة مكبر صوت الظل، وجائزة وول سوينكا للأدب في إفريقيا 2008، وجائزة كتاب ماكميلان لأفريقيا 2009· لونغ جوجو مان

***

قصة «المفتاح» للنيجيرية نييدي أوكرافور، ترجمة سماح ممدوح حسن

سماح ممدوح حسن؛ مترجمة وكاتبة مصرية

قصة المفتاح

خاص قنّاص – أحبار الترجمان

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى