“القط والفأر” لـ عبيد زاكاني نموذجاً
غالباً ما يبرز الأدب السياسي في عصور الاضطرابات، فيظهر الشعراء في هيئة النقّاد الذين ينظرون بعمق إلى المسائل السياسية والاجتماعية ؛ فقد ينتقدون أصحاب السلطة كيف يعيشون، ومن أين يحصلون على أموالهم، ولماذا يقمعون الفقراء والعامة؟ ويتصدون لإيجاد أجوبة صحيحة عن أوائل الأسئلة التي تشغل أذهان أفراد المجتمع.
في الأدب السياسي تكون القيم والفضائل مادّة للنقد ؛ وكل كلام وسلوك يكون مقروناً بالحكمة والأخلاق الحسنة وموافقاً لها يكون موضع مدح ، وكل ما خالف ذلك يكون موضع ذم.
قد يكون هذا النقد عفوياً أو مقصوداً لغرض من الأغراض، فيكون هدف الأديب إصلاح المجتمع أو إيجاد تغيير في نظرة الفرد والمجتمع إلى المسائل الاجتماعية. ويكون الكلام ببيان هزلي أو جدي لكشف الأمراض الاجتماعية وجذورها وتجنيب المجتمع الإنساني لها، وأحياناً ينصّب الأديب نفسه قاضياً عن الوجدان البشري النقي والفطرة السليمة، ويحاول تركيب دواء يسرع في الشفاء، وغالباً ما يضخم هذه الآلام فيلوم ويعاتب وينتقد ويحفز المخاطب للتفكير واختيار النهج الصحيح.
مخاطب هذا الأديب هو الشخصيات المؤثرة في المجتمع ؛كعلماء الدين، والملوك، والحكام، ومأموريهم وأعوانهم ممن يتمتعون بالسلطة الدينية والقدرة السياسية، وغالباً لا يكون هدفه الأفراد ليذکر صراحة اسم ملك أو زاهد أو عالم أو فقيه، بل هدفه إصلاح السلوك غير اللائق.
لم يكن نظم الأشعار السياسية الرمزية في الأدب الفارسي معروفاً قبل القرن الثامن الهجري؛ حيث كان كثير من الشعراء مرتبطين بالحكام بقوة، وكانت معيشتهم تقوم على أسس المديح ، كما كان بعض منهم يعيش في الخانقاهات يمارس السير والسلوك ولا خبر له عن أمور الدنيا.
في هذه الحال لم يكن بالإمكان اعتبار المنظومات الانتقادية التي تقوم على مبنى تعارض المذهب مع أصحاب السلطة سياسية مئة بالمئة، ولكن بعد حملة المغول بالتدريج انجذب الشعراء الواعين إلى الرمز نتيجة الجو السياسي المغلق والقسوة وعدم تقبل الحكام للنقد.
كانت أوضاع إيران في القرن الثامن الهجري غاية في الاضطراب، وكان الهرج والمرج الذي حدث بعد انقراض الدولة الإيلخانية1 المغولية الكبرى عام 750 هـ.ق يزداد ويتسع ، وكان الحكام والأمراء المحليون مشغولين بالصراعات الداخلية مما هيأ الأرضية لوقوع حملة تيمور2.
وظهر في القرن الثامن عدد من الأدباء المتمردين الذين اشتهروا بالفکاهة والنقد اللاذع للأخلاق المذمومة في زمانهم، الزمن الذي غرق فيه المجتمع برياء القيمين على الدين، وقد خنق الناس اليأس ومصاعب الزمان فجاءت أعمالهم كالسحر . كان فيها تهديد للحكام، وشعاع أمل، وتسكين لقلوب الناس في زمان ساد فيه الهرج والمرج والهجوم على الدين في جو من الرعب، وكان كلامهم سوطاً على جسد المدلسين والفاسدين. ينعكس في مرآة شعرهم أي زمن مرّ على الناس، وأي أشخاص تسلموا زمام الأمور، وأي آلام أتعبت قلوب الناس وآلمت أرواحهم. وأظهر هؤلاء أن نداء الدين يجب أن يخرج من حناجر العارفين به، ومن حناجر أهله، وأن ليس كل من حمل السبحة خدع الناس.
عبيد زاكاني
من بين شعراء النقد السياسي في الأدب الفارسي في القرن الثامن ولعله أشهرهم على الإطلاق “عُبَيْد زاكاني”، الذي اهتم به الباحثون من وجهات نظر مختلفة ومتباينة تتمحور جميعها حول كونه أحد الشعراء المنتقدين الساخرين الذين برز انتقاد السلطة في شعرهم أكثر من غيرهم. لكن من الإنصاف أن نضعه في مصاف رجال علم الأخلاق والسياسة والاجتماع كنظام الملك وابن مسكويه ونصير الدين طوسي؛ حيث كان يفكر بعمق لدرجة أننا نجد في آثاره حتى اليوم موضوعات جديدة للدراسة.
ولد نظام الدين عبيد زاكاني في قزوين عام 700 هـ، وهو من أسرة الزاكانيين التي تعود في أصلها إلى عرب بني خفاجة الذين هاجروا إلى إيران ، عاش في قزوين وغادرها إلى شيراز في أيام الشيخ جمال الدين أبي إسحق إينجو3.
كان المجتمع في عصره قد انحدر إلى درك التفسخ الأخلاقي والانقسام السياسي والتحلل الاجتماعي، بعد الفتن الكبرى التي عانت منها إيران منذ الهجوم المغولي على يد جنكيز خان في القرن السادس الهجري حتى الغارات الوحشية التي شنها تيمورلنك في القرن الثامن الهجري، فكانت السخرية أحد الأسلحة التي أشهرت في وجوه الأعداء، وكان عبيد زاكاني أحد الذين كشفوا الزيف والتردي والبؤس. كانت حياته مقترنة مع حكم الجلايريين والإينجويين والتيموريين والمظفرين . ففي زمان السلطان محمد خوارزمشاه هاجم المغول إيران من تركستان ، وبعد هزيمتهم للسلسلة الخوارزمشاهية حكموا حتى سنة 736 هـ . بعنوان إيلخانيين. خلال هذين القرنين حدثت فجائع وحوادث أثرت في الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي مما أدى إلى رواج الفساد.
كان هزل عبيد مرآة لهذا المجتمع الفاسد والظلم الواقع في عصر الإيلخانيين، فحارب بسلاح السخرية وحاول إصلاح الأمور بسيف البيان4.
موضوعات شعره
كانت أهم موضوعات شعره ذم الزهاد والمرائين والصوفية المخادعين الذين تركوا الحقيقة وتمسكوا بالظواهر ، والذين كانوا في عصرهم من أصحاب النفوذ . كما تحدث عن اضطراب الأوضاع وصخب الزمان والفتن التي سادت بين الناس.
كان الوضع الاقتصادي السيء من أهم المشكلات التي آلمت الناس في زمانه، وكان الشرف وماء الوجه رأس المال الوحيد للإنسان ، والذي تخدش عزّته إن فقده.
استخدم عبيد كلمتي الملك والمتسول اللتين كانتا من الكلمات الشائعة في الأدب الفارسي في انتقاداته بمناسبات مختلفة، ويعبّر التضاد بينها عن كثير من المضامين التي عالجها. وكثيراً ماعدّ نفسه من المتسولين وتباهى بذلك ، فاختياره الفقر كان بسبب الإحساس بعدم الحاجة إلى بلاط الملك. وكثيراً ما يرى السلطة الحقيقية في الفقر ، وسبب هذا المقام هو الحرية.
آثاره
طبعت آثاره المعروفة بـ ” كليات عبيد زاكاني ” عام 1321 ش . في طهران.
وتقسم إلى قسمين : جدي وهزلي .
آثاره الجدية
وهي ديوان القصائد والغزليات والقطع والرباعيات ورسالة التعريفات والمكتوبات والترجيع بند والتضمينات .
آثاره الهزلية
أغلب رسائله الانتقادية والهزلية عرفت باسم ” منتخب اللطائف ” وطبعت في إستانبول عام 1303 هـ.ق رسائله الانتقادية هذه عبارة عن : ” رسالة أخلاق الأشراف ” و ” ريش نامه ” ، و” رساله ى ده فصل ” ، و” صد پند” و” رساله ى دلگشا ” ، و” فالنامه ى بروج ” ، و” فالنامه ى وحوش وطيور ” . إضافة إلى مثنوي ” عشاق نامه ” و القصيدة الانتقادية الشهيرة ” موش وگربه ” أي ( القط والفأر ) [5] .
منظومة (القطّ والفأر)
قصة السجال بين القط والفأر من القصص القديمة جداً في الأدب الشعبي الفارسي وآداب الشعوب الأخرى ، وإضافة إلى وجود التقابل بين القط والفأر نجد جوانب رمزية عديدة . القط رمز انعدام الرحمة والحرص والخداع والرياء ، والفأر رمز الجهل وعدم الحيطة والحرص. ورويت الكثير من الحكايات في الأدب الفارسي حول هذا الأمر كقصة “القطة العابدة صائمة الدهر “التي جاءت في باب (البوم والغربان) في “كليلة ودمنة” و “مرزبان نامه” و “فرائد السلوك” و “ياض المحبين” وغيرها6. وأمثال هذه القصة تتكرر في كل زمان ومكان في الحياة سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو الاجتماعي. أعظم رسالة توجهها هذه القصة هي أن الزهد والتقوى إن لم تكن مصحوبة بتهذيب النفس، وحين تتحرك في إطار الفرائض وحدها لا تكون سبباً لكمال الإنسان بل تزيد في سوئه وفساده وتزيد في هفواته.
تعدّ قصيدة” القط والفأر” لــ “عبيد زاكاني” أول و أهم منظومة سياسية ذات لغة رمزية ؛ وكان عباس إقبال آشتياني7 أول شخص أشار إلى أهمية آثار عبيد زاكاني وخاصة هذه المنظومة من ناحية علم الاجتماع، إضافة إلى كونها جزءاً من الأدب التمثيلي الإيراني8. وما يجعلنا نعتبر هذه الحكاية قصة سياسية هي تشابه الشخصيات في الخصال والسلوك مع الأشخاص الذین کانوا يمسکون مقاليد الحكم في زمن عبيد زاكاني.
خلاصة القصة أن القط المخادع الكرماني يذهب إلى حرب ملك الفئران في صحراء فارس؛ ويصف الشاعر القط بقوله:
از قضــــــــــــاى فـــــــــــلک يكى گربه بود چـون اژدها به كرمانا
شكمش طبل وسينه اش چو سپر شير دم وپلنگ چنگانا
از غريـوش به وقت غريدن شير درنده شـد هراسانا
أي : من حكم القضاء أنه كان هناك قط كالتنين في كرمان
بطنه طبل ، صدره كالترس .. ذيله ذيل أسد وقبضته قبضة نمر .
من زئيره حين يزمجر كان الأسد المفترس يشعر بالخوف
يدخل هذا القط الحانة لاصطياد الفئران، ويتخذ كميناً خلف إناء النبيذ ، فيرى فأراً صغيراً وقد قفز من الجدار وأدخل رأسه في الإناء حتى سكر، وأخذ يتحدث عن القط مهدداً ومتوعداً قائلاً : إن القط أمامي كالكلب، ومتى كان الكلب يواجه في الميدان؟ أين هو لأقطع رأسه وأسلخ جلده عن لحمه؟
گربه اين را شنيد ودم نزدى چنگ ودندان زدى به سوهانا
أي : يسمع القط هذا الكلام ولا يتكلم لكن شحذ مخالبه وأنيابه بالمبرد .
يطلب الفأر العفو، ويقول إنه قال ما قال لإفراطه في الشراب:
موش گفتـا كه من غلام توام عفو كن برمن اين گناهانا
مست بودم اگر گهى كه خورم گه فراوان خورند مستانا
قال الفأر أنا خادم لك، اصفح عني أنا هذا المذنب
كنت ثملاً، أحياناً يفرط في الشراب السكارى
يلتهم القط ذلك الفأر، ويذهب إلى المسجد معلناً توبته بصوت عال، وتالياُ الأوراد ومتصدقاُ بشيء من الخبز ليلفت إليه أنظار الفئران:
گربه آن موش را بكشت وبخورد سوى مسجد شدى خرامانا
دست ورو را بشست ومسح كشيد ورد مى خواند همچو ملانا
قتل القط ذلك الفأر وأكله، ومضى متبختراً نحو المسجد
غسل يده ومسح وجهه، وكان يتلو الأوراد كالملا.
يسمع أحدى الفئران الخبر من خلف المنبر، ويسارع إلى الفئران لإبلاغهم بهذا الأمر العظيم.
تُسَرّ الفئران وتختار سبعة من أكابر وأشراف الفئران لنقل أنواع مختلفة من الأطعمة هدية للقط:
آن يكى شيشه ى شراب بكف وآن دگر پره هاى بريانا
آن يكى طشتكى پر از كشمش وان دگر طبق زخرمانا
آن بكى ظرفى از پنير بدست وان دگر ماست با كره نانا
آن يكى خوانچه پلو برسر افشره آب ليمو عمانا
نزد گربه شدند آن موشان با سلام ودرود واحسانا
ذلك في يده زجاجة من الشراب .. وذلك الآخر حملان مشوية
ذلك طشت مليء بالزبيب .. وذلك الآخر طبق مليء بالتمر
في يد ذلك وعاء من الجبن .. وذلك الآخر لبن مع خبز بالزبد
على رأس ذلك طبق من الرز .. عصر عليه ماء الليمون العُماني
مضت تلك الفئران إلى القط .. بالسلام والتعظيم والإحسان .
يستقبل القط الفئران بسرور، ويدّعي أنه كان صائماً في الأيام الأخيرة من أجل رضى الله، وقد جزاه فأرسل إليه رزقه.
هركه كار خدا كند به يقين مى شود روزيش فراوانا
كل من يقوم بأعمال الله يقيناً يصبح رزقه وفيراً.
ويطلب من الفئران الاقتراب منه؛ فيقفز، ويصطاد خمسة منها دفعة واحدة ويفرّ اثنان.
دو بدين چنگ ودو بدين چنگال يک به دندان چو شير غرانا
اثنتان بهذه القبضة واثنتان بهذه المخالب، واحدة بالأسنان كالأسد المزمجر
يخبر الفأران الناجيان باقي الفئران بما حدث، فتلبس الفئران السواد على هذه المصيبة، وتحثو على رأسها التراب.
موشكانرا ازين مصيبت وغم شد لباس همه سياهانا
خاک برسركنان همى گفتند اى دريغا رئيس موشانا
من هذه المصيبة والحزن أصبح لباس الجميع أسود
حثوا التراب على رؤوسهم وكانوا يقولون .. يا أسف على رؤساء الفئران
ثم يتفق الجميع للذهاب إلى ملك الفئران لعرض حالهم.
بعد ازآن متفق شدند كه ما مى رويم پاى تخت سلطانا
تابه شه عرضه حال خويش كنيم از ستم هاى خيل گربانا
بعد ذلك اتفقوا : علينا الذهاب جميعاً إلى بلاط السلطان
لنعرض حالنا على الملك من ظلم خيل القطط.
يقرر الملك تجهيز جيش عظيم :
بعد يک هفته لشگرى آراست سيصد وسى هزار موشانا
همه بانيزه ها وتير وكمان همه با سيف هاى برانا
فوج هاى پياده از يكسو تيغ هاى در ميانه جولانا
چگونه جمع آورى لشگر شد از خراسان ورشت وگيلانا
بعد ذلك جهز جيشاً .. من ثلاثمئة وثلاثين ألف فأراً
الجميع بالرماح والسهم والقوس .. الجميع بالسيوف القاطعة
أفواج المشاة من جهة .. السيوف في الوسط تلوح
كيف تم جمع الجيش .. من خراسان ورشت وجيلان
يختارون فأراً ذكياً كوزير للفئران، يقترح الذهاب إلى القط في كرمان لإعلامه بنية الفئران:
يكى موشى وزير لشگر بود هوشمند ودلير وفطانا
گفت بايد يكى زما برود نزد گربه به شهر كرمانا
أحد الفئران كان وزيراً للجيش .. ذكي وشجاع وفطن
قال إن أحدنا يجب أن يذهب إلى القط في مدينة كرمان
يذهب أحدهم ويخبر القط أن الفئران عازمة على الحرب، فإما أن يذهب إلى عرش ملك الفئران صاغراً، أو يستعد للحرب.
و حين يبلغ الخبر القط، يقول إنه لن يخرج من كرمان، لكنه يعدّ جيشاً جراراً من القطط في الخفاء.
گربه هاى براق شير شكار از صفاهان ويزد وكرمانا
قطط لامعة صائدة للأسود .. من أصفهان ويزد وكرمان .
يرسل القطط إلى ساحة المعركة في صحراء فارْس ، وتنشب حرب طاحنة بين الجيشين:
لشگر موشها زراه كوير لشگر گربه ها از كهستانا
جيش الفئران من طريق الصحراء .. جيش القطط من الجبال
تنتصر الفئران في البداية فيصيبها الغرور :
موشكان طبل شاديانه زدند بهر فتح وظفر فراوانا
شاه موشان شد بفيل سوار لشگر از پيش وپس خروشانا
گربه را هردودست بسته به هم باكلاف وطناب وريسمانا
شاه گفتا بدار آويزند اين سگ روسياه نادانا
قرعت الفئران طبول الفرح .. من أجل الفتح والنصر المؤزر
ركب ملك الفئران على الفيل .. والجيش يصخب من أمامه وخلفه
قيّد يديّ القط بعضهما ببعض .. بالبكرة والحبل والرسن
قال الملك أن يعلقوا في المشنقة .. هذا الكلب الأسود الوجه الجاهل
لكن القط تأخذه الغيرة، فيقرض القيد بأسنانه، ويمسك بالفئران فيفر الجيش من جهة ويهرب الملك من جهة، ويقتل العديد منها:
گربه چون ديد شاه موشانرا غيرتش شد چو ديگ جوشانا
همچو شيرى نشست برزانو كند آن ريسمان به دندانا
موشكان را گرفت وزد بزمين كه شدندى به خاک يكسانا
لشگر از يكطرف فرارى شد شاه از يكطرف گريزانا
حين رأى القط ملك الفئران .. أصبح من الغيرة يغلي كالقدر
جلس كالأسد على ركبتيه .. وقرض ذاك الحبل بأسنانه
أمسك بالفئران .. وضربها بالأرض فسوّاها بالتراب
الجيش فرّ من جهة .. والملك هاربا من جهة
وهكذا تنتصر القطط وتهلك الفئران، ويسلب منها التاج والعرش والخزينة .
از ميان رفت فيل وفيل سوار مخزن تاج وتخت وايوانا
هست اين قصه ى عجيب وغريب يادكار عبيد زاكانا
تلاشى الفيل وراكب الفيل .. المخزن والتاج والعرش
هذه القصة العجيبة والغريبة .. تذكار من عبيد زاكان
نظمت هذه القصيدة على البحر الخفيف في 96 بيتاً، وهي قصة انتقادية جذابة قلما استخدم الشاعر فيها الكلمات القبيحة كعادته في آثاره الهزلية الأخرى، لكنها تزخر بالمزاح والنقد الحاد الجارح، وقد وجه فيها في أحد المواضع شتماً فاحشاً للفأر على لسان القط.
تبدو الأبيات ضعيفة أحياناً في نظمها، وقد زاد في آخرها ألف الإشباع التي تعد نوعاً من العيوب الشعرية لأن هدفه الأسمى كان السخرية والاقتراب من اللغة البسيطة والشعبية بدلاً من كتابة قصيدة غراء بأوصاف طبيعية تحتاج إلى إظهار الكثير من المهارات في فنون الأدب واجتناب الكلمات المبتذلة وغير الجميلة.
قلما استطاعت قصيدة في الأدب الفارسي أن تفضح الرياء والكذب والخداع والتزوير في المجتمع كهذه القصيدة البسيطة. ويشير عبيد إلى أن المقصود من هذه المنظومة هو فهم المُدّعي:
غرض از موش وگربه برخواندن مدعى فهم كن پسر جانا.
الغرض من القط والفأر حين قراءتها فهم المدعي أيها الولد العزيز،
وقد قال حافظ الشيرازي متأثراً بهذه المنظومة فقال:
اى كبک خوشخرام كجا مى روى بايست غره مشو كه گربه زاهد نماز كرد
يا طائر الحجل الجميل التبختر إلى أين تذهب؟ کان یجب ألا تغتر بأن القط الزاهد صلّى
وبسبب شهرة هذه المنظومة وعمق معانيها ورواجها على المستويات جميعها، ألحقت بها أبيات وأصابها بعــض التغيير9. وقال الباحثون كلاماً كثيراً في تحليلها؛ خلاصته أن عبيداً كان مطلعاً على وضع عامة الناس من جهة وطبقة القضاة والولاة والشيوخ وعلماء الدين من جهة أخرى؛ ويحكي في هذه المنظومة عن العلاقة بين هاتين المجموعتين وهما الطبقة المحکومة والطبقة الحاکمة، حيث في النهاية تصبح الطبقة المحكومة طعمة للطبقة الحاكمة وتزول من الوجود.
تعكس القصيدة الزمن الصعب الذي حدثت فيه؛ يرى فيها البعض نموذجاً من الحماسة المضحكة ذات الموضوع المبتذل، ويرى فيها البعض الآخر سخرية اجتماعية لاذعة. وفي نظمها مهارة عجيبة حيث إن الشاعر صور القطط والفئران في حالات ومشاهد مختلفة، وأجرى بينها مناظرات مليئة بالعبرة والموعظة، وصور الحرب بين جيشيهما وكيف حشدا القوى واستخدما الأسلحة، وصور حالات هذه المبارزة الدامية بمهارة فائقة.
على أية حال ليس معلوماً بشكل قاطع عن أية واقعة تاريخية تتحدث هذه القصة؛ ربما لم تكن أصلاً واقعة معينة، لكنها على أية حال تسخر من أخلاق كبار الزمان.
وينتقد عبيد فيها بلحن صريح الأخلاق السياسية للحكام؛ فالقطة بعد قتل النفس تتصدق برغيفي خبز لتكفير ذنبها، فالفئران التي هي نموذج للطبقة الضعيفة الثملة المندهشة التي لا خبر لها عن شيء، يرى أصحاب القدرة غفلتها هذه، فتکون التوبة بالنسبة لهم هي طريق الهرب.
رسم عبيد هذا السیناریو للقدرة والسلطة، وهذا السیناریو یجد مصداقية على مر الزمان ولكل الأمم. وهذا الموضوع أيضا ًرمز باق لهذه الرائعة الأدبية المحبوبة من قبل الناس.
كما سبق القول أن المنظومة جزء من الأدب الرمزي المعتمد على قصص الحيوانات، و من القصة الأصلية نجد عدداً من القصص الفرعية.
وما يؤكد كون القصة رمزية أن الشاعر قبل أن يبدأ القصة، يخبر القارئ أنه سينقل له قصة بشرط أن يمتلك عقلاً وعلماً وإدراكاً، وأن يحار في معناها .
اى خردمـند وعاقل ودانا قصه ى موش وگربه برخوانا
قصه ى موش وگربه ى منظوم گوش كن همچـو غلطانا
أيها العاقل والعاقل والعالم .. اقرأ قصة الفأر والقط
اصغ إلى قصة الفأر والقط المنظومة كالمخطئ
يجمع النقاد على أن قصة “القط والفأر” لعبيد زاكاني من أعلى نماذج التمرد السياسي في الأدب الفارسي، بيّن فيها الشاعر التزوير والرياء الذي يمارسه أصحاب النفوذ في المجتمع. لقد جعل الشاعر من موضوع بسيط ومبتذل مادة لموضوع شديد الأهمية بمهارته العجيبة ورؤيته العميقة، واستخدم الرمز ليجعل من هذه القصة أشهر منظومة انتقادية هزلية في الأدب الفارسي يتغنى بها الكبير والصغير والعامي والمثقف.
ترمز الفئران إلى عامّة الشعب مقابل الطبقة الحاكمة بحيث تصبح هذه الطبقة الضعيفة طعمة للطبقة الحاكمة، حيث إنه لا يصبها من حشودها وتمردها سوى فساد معيشتها.
تطابق أحداث القصة مع الوقائع السياسية
يؤكد الدارسون أن القط رمز للأمير مبارز الدين حاكم كرمان المكروه الذي ذهب لحرب الشاه أبي إسحاق إينجو ملك شيراز الشاب المحبوب – الذي كثيراً ما تحدث عنه حافظ في أشعاره – وانتصر عليه وبعد فترة قطع رأسه بأمر من الأمير مبارز الدين.
وتحكي عن الرياء والخداع الذي مارسه الأمير مبارز الدين الكرماني الذي اشتهر بسفك الدماء، والذي تاب عدة مرات وقد خدع جيش فارْس بهذا النفاق وانتصر عليه. وتوبة القطة إشارة إلى توبته المعروفة ومبايعته لخليفة مصر الذي هدّم الحانات وامتهن مهنة المحتسب وعمل على قتل المخالفين له بلباس الدين10.
كان مبارز الدين منافقاً ومتظاهراً وسافكاً للدماء، وكان مؤذیاً للناس وجامعاً للمال، وكان یضع ذلك في حساب الجهاد في طريق الدين، ويلقب نفسه بلقب الغازي، وكان يرتكب كل هذه الجنایات باسم الدين.
وصراع القطط والفئران في صحراء فارس يحكي حرب الأمير مبارز الدين وفرار الشاه شيخ أبي إسحاق حيث أقام الناس في فارس مأتماً لهزيمته ولبسوا السواد. وإذا كان هذا الحدث صحیحاٌ فی أصل القصة ومنشئها، فإن تاريخ نظمها يجب أن يكون في إحدى السنتين 758 (قتل أبي إسحاق في شيراز) أو 754 (فرار أبي إسحاق من شيراز).
ويقال إن معظم العلماء والكتاب ومن جملتهم حافظ الشيرازي وعبيد زاكاني لم يكونوا على علاقة طبية مع مبارز الدين محمد، وبالعكس؛ كان أكثر هؤلاء الكبار وخاصة حافظ وعبيد محبين للشيخ أبي إسحاق إينجو. ومن المرجح أن عبيداً قد ترك فارس إلى بغداد وذهب لخدمة الجلایریین وتحمل الفقر والحاجة بسبب نفوره من هذا الأمير المرائي11.
ويروى أن ابن المظفر سنة 740 حين بلغ سن الأربعين قد تاب عن أعماله الماضية والدم الذی سفکه وبنی مسجداً في كرمان وأوقف أموالاً بهذه المناسبة المشهورة وأناب إلى أعتاب الأحدية بعد القتل الوحشي الذی أوقعه في الشعب الذي طمع في أمواله وسمى هذه الأعمال القبيحة غزواً وجهاداً، واجتهد في الطاعات والعبادات، وتتبعاً لسنة المصطفى (ع) كان يتردد مــن البيت إلى صلاة الجمعة ماشياً12. كانت توبته رسمياً في عام 752. 13
تتلقى الطوائف خبر توبة الأمير مبارز الدين الذی أوقع فيها القتل بسرور، وترسل له الهدايا. لكن مبارز الدين هذه المرة يهجم بشدة على هذه الطوائف تحت شعار نشر الإسلام ومحو الكفر، وهذا یتماثل تماماٌ مع توبة القط.
وتجهيز الأمير أبي إسحاق الجيش لاستقباله جيش كرمان وهربه إلى شيراز ومشورة ملك الفئران مع الوزير العاقل والفطن والشجاع والإيلجي القديم العالم بالطريق والمتخصص تذکر بکفایة الشیخ أبي إسحاق وسفیره العالم القاضی عضد الدين إيجي. وكذلك الجواب الذی أعطاه القاضي عضد الدين يتطابق مع الجواب الذی أعطاه القط لسفير ملك الفئران14.
أما نهاية القصة فتتماثل مع هزيمة الشيخ أبي إسحاق على يد الأمير المظفري، حتى إن ولده البالغ اثنتي عشرة سنة يقتل، وقد أثرت هذه الجریمة بشدة في الناس حتى إن مقبرة ذلك الطفل البريء أصبحت محل زيارة في رفسنجان، وكانت تطلب فيها الحاجات15.
قصة رياء هذا الأمير المخادع لها مشابهات كثيرة في الأدب الفارسي، حيث كان حافظ الشيرازي يطلق على هؤلاء لقب “المحتسب”. وكون القط في القصة كرماني يجعلنا نجزم بأن القط الموصوف ليس سوى الأمير مبارز الدين.
وقد كتبت المنظومة بلغة بسيطة جداً قريبة من لغة الحوار اليومي. ويجب ألا ننسى أنه في الهزل والمطايبة يكون الاقتراب من لغة العامة أحياناً أفضل بكثير من نظم القصائد الغراء.
إن قصصاً شيقة وواسعة الانتشار كمنظومة عبيد زاكاني هذه كانت تطبع على أوراق رقيقة رخيصة بأحجام صغيرة جداً لتكون في متناول اليد دائماً ، وكانت تحوي رسوماً جميلة. ويقال إن هذه الرسوم كانت من جملة الرسوم التي ألهمت والت ديزني في قصص القط والفأر المعروفة16.
المراجع:
1 تعود تسميتها بهذا الاسم إلى هولاكو خان الذي لقب بـ (إيلخان ) ، وهي كلمة مؤلفة من مقطعين ” إيل” بمعنى تابع ، و ” خان ” بمعنى ملك أو حاكم . والمقصود أن حاكم الدولة الإيلخانية تابع للخان الحاكم في قراقورم عاصمة الإمبراطورية المغولية .
2 تذکرة الشعراء ، دولتشاه سمرقندي ، تحقيق محمد عباسي ،طهران 1345 ش ، ص 291-292 .
3 جمال الدين شاه ، الشيخ أبو إسحق إينجو ، والده محمود من أمراء الدولة الجنكيزية . أصبح ملكاً على فارْس وإصفهان وكان آخر من حكم من سلالة إينجو في أواخر المرحلة الإيلخانية . كان محباً للشعر والأدب ويقال إنه كان ينظم الشعر .
4 تاريخ ادبيات ايران ، ذبیح الله صفا ، انتشارات فردوسى ، تهران ، 1362 ش ، 3/333
5 عبيد زاكاني ، علي أصغر حلبي ، طرح نو ، تهران ، 1377 ، ص 87-95
6 موش وگربه ( سوابق ونمونه هاى داستانهاى موش وگربه در ادب فارسى ) ، د. حسن ذو الفقاری ، مجله ى علمى پژوهشی مطالعات ادبى كودک در دانشگاه شيراز ، سال سوم ، شماره اول بهار وتابستان 1391 ( پياپى 5 )، ص 50-53
7 عبيد زاكاني ، علي أصغر حلبي ، ص 55
8 نفسه ، ص56 .
9 موش وگربه ( سوابق ونمونه هاى داستانهاى موش وگربه در ادب فارسى ) ، ص 53
10 موش وگربه ( سوابق ونمونه هاى داستانهاىموش وگربه در ادب فارسى ) ، ص 56 .
11 عبيد زاكاني ، أصغر حلبي ، ص 115 .
12 تاريخ آل مظفر ، محمود الكتبي ، طبعة الدكتور عبد الحسين نوايي ، طهران ، ابن سينا ، 1335 هـ.ش ، ص 15-16
13 نفسه ص 57 .
14 عبيد زاكانى ، علي أصغر حلبي ، ص 118
15 المرجع السابق ، ص 119
16 موش وگربه ( سوابق ونمونه هاى داستانهاى موش وگربه در ادب فارسى ) ، ص 48