أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

الشاعر الفرنسي المعاصر: فيليب بيك | ترجمة: إحساين بنزبير

يقدم المترجم المغربي إحساين بنزبير في هذا المقال الشاعر الفرنسي المعاصر فيليب بيك، الناطق الحثيث.. كما يصفه بنزبير، الذي يترجم قصيدتين من ديوانه الأخير “أَمالٍ”:

***

دائماً له وقفة في سماء القصيدة، وربما يتحمل سماء الشعر، أيضاً. مَنْ يكون؟ كيف يجعل المهتمَّ بالشعر في حالة غامضة؟ إنه ربما أو تقريباً الشاعر الفرنسي المعاصر فيليب بيك Philippe Beck. برفقته، “الشعر يوجد هنا أو هناك/ ليس في كل مكان”. هكذا تكلم بيك ويتكلم الشاعر بيك بطريقة أوبراديكية Opéradique وهو يمارس حيوانية الشعر. الحيوان الشعري معه في محنة دائمة، لأننا في حاجة ملحة إلى التسلح بأدوات فكرية وفلسفية وموسيقية لندخل في عالمه. عالم ليس كباقي الأصوات الشعرية الفرنسية. ماء شعري ما يسقي ويغذي حديقة رمزية. وفي هذه الحديقة، نعثر بعد عناء وجهد على فهد أسود، كأليغوريا، الذي يمنح للشاعر فرصة ولوج فن شعري متفرد. أجل، الفهد الأسود دليل القصيدة منذ دانتي. خصوصاً، حين يكون الفهد الأسود بكامل رائحة طيبة. الشاعر بيك، هنا، يحاول القبض عليه ولو من ذيله. لكنه يهرب ويتملص كالشعر. وهنا أيضاً، تبدأ المغامرة الشعرية عند بيك. يبحث عن الشعر وهو يتجسس على خطوات الفهد كشكل شعري مرغوب فيه. مرغوب فيه في العالم أو في مغارة ذات شتاء مشفوع بالموسيقى. وفي ديوان “أَمَالٍ Dictées” (سنة 2018)، يتعلق الأمر بالموسيقى، العارفة منها. بودلير يقول بأن الموسيقى تمنحنا فكرةً عن الفضاء الشعري. وفضاءُ بيك مملوء، في هذه المجموعة، بماء الموسيقى وبنشيد يتمتم شعراً مستقبلياً. ثم تحت سماء الفكر نعثر على غرفة ذات رواية شعرية منصهرة.

في الديوان، شخصيات موسيقية تتحول إلى سخام أو دخان: الشاعر بيك يكتب إذاً قصيدة تؤسس فكرة الشعر الذي يتقدم وهو يكتب بأذن لها غرابة طرية ومعقدة. لأن شعر بيك ليس سهلاً. ولحسن الحظ، على الأقل بالنسبة إلينا. في الصعب، الشاعر بيك يدخل كهفاً بِخُفّي الفيلسوف المكهرب. لأنه كشاعر يسقي ولايات الفلسفة. والموسيقى، بين صفحات هذا الديوان، تستعمر ثنايا القصيدة بتعاقد شهواني. ليس سهلاً شعر فيليب بيك. لأنه يرمي بالقارئ في حضن خريطة ثاقبة النظر. كأننا مشدودون بِوَهْقٍ من سلالة عرائس البحر: إنها الموسيقى السيدة، شخصية مبنية للمجهول.

هكذا يتكلم فيليب بيك: “لي محارة شَوْساء/ مأهولة بتذكارات مقذوفة/ وبتوتراتٍ هُراءٍ/ تحاذي طيرانَ غرابٍ”.

أو إنه يتكلم بهيئة أخرى، في كتابه النثري الموسوم بِـ”معاهدة عرائس البحر Traité des sirènes “: “سر الحب يكمن في حرقة التواطؤ، والتواطؤ ينعقد في حريق نسبية خفية، في فقدان مشروط، حيث يشعشع ارتياعٌ أكْدَر، رعاية صماء بدلائل الظاهر. الحورية ليست شعار الفم بل هي المغارة الشمسية الأكثر تفاهة (…)”.

وكأن بيك يكتب الموسيقى عبر القصيدة في فقاعة أو في ذات غنائية موضوعية ونقدية. أجل، غنائية موضوعية واستنباطات ورواية ذات مصيبة فظة. ثم، الدهشة التي يمارسها على القارئ. مسّاح أراض لا تصلح إلا لحضرة العارف. العارف والغريق في نصوصه.

أن نترجم شعر فيليب بيك يعني القبول بخسارة (مَضْيعة) لغوية: خسارة اللغة الفرنسية وخسارة اللغة العربية معاً. لأنه يغتصب اللغة ويجعلها من صنف لسان غير مصادق عليه. إنها محنة الترجمة.

من ديوانه الأخير “أَمالٍ” ترجمنا قصيدتين تحت ضربة شمس شعرية:

غلاف ديوان “آمال” | editions.flammarion.com

الطائر- النبي

بأجنحةِ عكاكيز، يخفق الطائر

في الحقبة. والقوسُ الجسدُ خَضَّبَ

البهوَ حيث في دائرة ما

يَدْسَعُ النائمين،

فراشاتِ سهلٍ فسيح

على خارطةٍ من سلالة القسوة.

الطائر- القيثارة يدبر المحسوسين الذين

يغضون النظر

عند قُفُولِ هادِفٍ مسكوك،

أو أجنحة الجبين يتغافلون،

ويتجاهلون السقوط على الأرض.

الطائر- القيثارة يمشي ليحَلِّق،

يسير وهو يباعِدُ ضيعة عالَمٍ

أعادوا تَخْضِيبَهُ. يزُفّ بالرمال والحُبَيْبَاتِ،

بالبهائم التي تدور أرضاً

قُدُماً إلى المستودع السيد.

حتى اللاَّ مُزارع يشاهد الطائر

يصف الأناشيد ويتذرَّعُ على هباءٍ

يطفو نحو الشمس كما لو على النهر.

غُرَفٌ تمارس التودد،

وشُومانْ يرسم غصنا نادراً

حيث المستقبل المُشْبَعُ بالهواء

يتزحلق نحو حلقومِ

مغنٍّ منتوفَ الريش،

منخوراً بأحلام خرساء.

والحلقوم السيد يلج الغابةَ

أو السوقَ الذي يتمثَّلُ الأكمام.

***

دومينو

الليل يُرقّص الأكتافَ الموسيقية

والآباء الجالسون يضعون

الدُّومِينُو الفِكِّيرَ،

بدِقةٍ متزوجة وبعِلْمٍ فردوسيٍّ.

وقتُ راحةٍ لصمتٍ متعلِّقٍ.

أما المائدة فصَرامَةٌ ممنوحة.

الأيادي المضبوطة على الموسيقى

تسلك شبكةً ترددها الألسنة.

من ضفة إلى أخرى.

أكيد إن السواحل

في غابةٍ تَحَاوُرِيَّةٍ تتواجد.

ورقصة الباليهْ خافية

على أطفال غبر مألوفين،

مَشْهودِين،

يتنبؤون بصيحاتهم الغامضة.

الرقصة عن بعد

تواصل زخمَ عصافير

ناطقة ومتشوقة إلى سماءٍ

تصحو من ثمالتها.

وعلى محمل الجِدّ يتفقَّد

تداعيات الأرقام،

أرابيسْكَ العاج،

إنه شُومانْ

يتقصى النهرَ الذي يراوح

لفائفَهُ وبحَّارَته البَعِيدين.

البَعْل الصَّرُوح، بالرغم من ولاية المستنقعات

(وغيوم الأفكار الأليفة،

الفراشات المترسخة)،

يُطاوِعُ سريرة سعادةٍ تعزز

وتهجعُ.

يتفقد ثعبان الأرقام المنكوبة

وهو يتشَكَّلُ،

أو إنها المطارِقُ المحسوبة

في حدائق مألوفة،

أو إنها الخرائط المقْصوصة بفظاظةٍ،

المخلوعة من الكيبورد

الجارح والمُطَارد.

لكنَّ البَعْلَ الصَّروحَ يخَمِّن

في بالِ لفائف

تتزلَّج على طول العاج

كما لو مَقْلَعِ حجارةٍ

يهيئ رُخاماً منسياً.

القلوب المُمَوْسَقَةُ، النفوذ الناطق،

تستمر في رقصة الباليهْ الخاضعة،

وفي قدرة التُّفّاحِ المستعاد.

حول المائدة، ذات ليلِ شتاءٍ متخبِّطٍ،

يتقمص شخصيات قصية،

كأنه مستقبل مشترك

لأذهان مقتبَسةٍ من أجمل الصيف.

***

إحساين بنزبير: كاتب ومترجم مغربي يقيم في فرنسا | fb.com/hassaine.benzbir

الناطق الحثيث.. شعر فيليب بيك وترجمة إحسان بنزبير

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى