تمهيد
يحاول الباحث الإفادة من دراسات المكان الشهيرة ذات التأثير الواسع في نقدنا العربي، إذ يصعب أن تجد دراسة تعنى بالمكان السردي تتخطى الثلاثي: باشلار وباخيتن ويوري لوتمان، ولاشك أن كثيرا من رؤاهم الفكرية والنقدية لها ديمومتها لأنها ترتبط بأمور كونية وفلسفية كالتقاطبات لدى لوتمان وباشلار، والكرونوتوب لدى باختين، بيد أن الأمر فيما يخص دراسة المكان تجاوز ذلك إلى رؤى أخرى لها حضورها وفاعليتها في قراءة النصوص السردية واستجلاء خطورة المكان ودوره في التمثيل السردي، فكثيرا ما يمدنا السرد بعلاقات جديدة بين الإنسان والمكان، فيتحول من النفعية المباشرة إلى التأثير والتأثر والتفاعل، وفتح مسارات للعقل والوعي كليهما من أجل مزيد من الوعي البشري بحضوره في الكون، فما يفعله السرد في المكان يتجاوز حدود غيره من الفنون البصرية التي تعالجه من منظورها الخاص ووفق أدواتها النوعية الخاصة، ومن خلاله يتمظهر الزمن هذا الكائن الخفي الذي يلزمه مكان يتجلى فيه ويمارس فيه حضوره، وإذا كانت البلاغة تقوم بالأساس على مبدأ الاختيار، وحين يكون المبدع قادرا على أن يختار المفردة وصياغتها وموقعها فهو في دائرة البلاغة، وما لا يملك الاختيار في صياغته فلا بلاغة فيه، فكل حديث عن بلاغة المكان أو شعريته ترتبط باللغة التي تعطي المكان أبعادا إضافية يتغياها الروائي ويسعى إليه، ومن ثم يتآذر المكان والزمان في بناء عالم خاص هو عالم الرواية، لا بوصفهما عنصرين مكونين لبنيتها، بل بوصفهما أساسَ خصيصة روائية تتشابك عناصرها وتتحدد مؤسسة كرونوتوبها الخاص الذي يرتبط بالمتخيل السردي أولا وأخيرا، ولا يحيل إلى فضاءات واقعية إلا بمقدار ما تفتحه للقارئ من قراءة وتأويل، فالكاتب هو من يمتلك القدرة من خلال التصوير اللغوي على تقديم صورة ذهنية متخيلة عن المكان في لحظة زمنية ما، صورة يختلط فيها التخييل مع التذكر، والمعرفة مع الإبداع، فبلاغة المكان قيمة جمالية وفنية مضافة إلى جماليات السرد، لها وظائفها البنائية على مستويي القصة والخطاب، ولذا اختار الباحث مصطلح بلاغة المكان.
في رواية (تبكي الأرض يضحك زحل) تبرز فاعلية المكان بدءا من عتبات الرواية، عنوانها وإهدائها ومطلعها، مرورا بطبيعة شخوصها وخصوصية كل شخصية، وعلى أساسه تتشكل كل مجرياتها وأحداثها ومواقف تلك الشخوص، فرغم سعة الدلالة المكانية للعنوان إلا أنه يمثل مفارقة بين حالين ومكانين، فيحيل زحل إلى فضاء خيالي مثيولوجي حالم يرتبط بقرين خالد بخيت أو الشاعر الزحلي، فيما يحيل الجزء الأول من العنوان إلى أرض القرية والواقع، وما فيه من تناقضات وسمت القرية كمكان مبهم ودال في آن واحد، وإلى شخصية خالد بخيت الباحث عن وطن بديل.
غلاف الرواية | مؤسسة الانتشار العربي
في رواية الروائي الراحل عبد العزيز الفارسي (1976-2022) (تبكي الأرض يضحك زحل) [1] تبرز فاعلية المكان بدءا من عتبات الرواية، عنوانها وإهدائها ومطلعها، مرورا بطبيعة شخوصها وخصوصية كل شخصية، وعلى أساسه تتشكل كل مجرياتها وأحداثها ومواقف تلك الشخوص، فرغم سعة الدلالة المكانية للعنوان إلا أنه يمثل مفارقة بين حالين ومكانين، فيحيل زحل إلى فضاء خيالي مثيولوجي حالم يرتبط بقرين خالد بخيت أو الشاعر الزحلي، فيما يحيل الجزء الأول من العنوان إلى أرض القرية والواقع، وما فيه من تناقضات وسمت القرية كمكان مبهم ودال في آن واحد، وإلى شخصية خالد بخيت الباحث عن وطن بديل، أما العتبة الثانية فهي تأخذ محل الإهداء، من خلال عبارة “وعلى القاطنين خارجها مراعاة فروق التوقيت” ، هذه العبارة دال زمكاني لخصوصية تلك القرية، وخروجها عن المألوف باعتبارها فضاءً مراوغا يمور بالتناقض والخلل، بدءا من خلل الزمكاني المتمثل في الآذان للفجر في غيره موعده، مرورا بالصراعات على السلطتين الدينية والسياسية في القرية، وتم تمييزهما من خلال النزاع على الآذان في المسجد ثم الانقسام بين إمامين ثم الصراع على المجلس الذي يرأسه المحيان، والبحث عن مجلس آخر مغاير، لتنقسم القرية على نفسها، فهي بمثابة الوطن الغربة والكابوس والوطن المنفى الغاص بالخوف والذل والصراع والطبقية، وعلى طول الرواية نجد الضيق والضجر يتزايدان خاصة من الشخصيات الراغبة في التغيير والتطور مع الاحتفاظ بالقيم والأخلاق الضابطة، نجد شخصية المحيان بن خلف التي عانت مرارة فقد الابن والزوجة تحاول أن تتمركز في المكان (القرية) هربا من وطأة الفقد، وفي إطار عملية تعويض، فتتخذ من المكان والبيوت الطينية عوضا لها، تقوم بأنسنته وتجسيده في ظل غياب الإنسان الحقيقي أو فقده، لذا يحتل الجسد موقعا نصيا له خصوصيته داخل الرواية، فهو بناء على وعي الكاتب ومقاصده بمثابة الصلصال الذي يشكله وفقا لهذا الوعي، ناهيك عن المؤثرات الأخرى الثقافية والفكرية والاجتماعية التي تجعل من الجسد جسدا ثقافيا، تأثيرا وتأثرا بالواقع المحيط، وإذا كان البدء بيولوجيا محضا، فإن الثقافة ما تفتأ تمارس تأثيرها، فلا يكتفي الجسد البشري بأن يكون مركزا للذات، بل إنه يضفي من فائض حضوره طاقة تمكنه من جعل الأشياء من حوله ذات دلالة:-
- “لم يعد لي من يحمل اسمي. لكن أطفال هذه البيوت الشائخة، المهجورة، التي ماتت واقفة. ها هي البيوت المهجورة تناديني تقود خطاي، تعطي معنى للمحيان”[2]
- “لن أترك بيت الطين أبدا. كيف يقوم رجل بتكسير ابنه؟ بيوت الطين أولادي”[3]
- “كلنا للطين يا سهيل، دعنى ألعب به قبل أن يلعب بجسدي”[4]
هنا الأمر يتجاوز الذكرى إلى التعويض ومحاولة الاتزان النفسي بعد فقد ابنه الصغير، ويظهر هذا التعويض في الارتباط المكاني الذي تتجسد في ثنائيات: الموت والحياة والحضور والغياب، من خلال عملية أنسنة للمكان تجبر فقده وتعيد له توازنه، هذه الثنائيات تتجسد في حضور البيوت وغيابها، في صمتها وصوتها في آن، في اسمه ذاته باعتباره علامة دالة يمكن تفسيرها في إطار فضاء شخصية المحيان الزماني والمكاني من حيث دلالته على الموت والحياة (المحيان بن خلف) حيث الحين هو الموت، وحيث الخلف هو استمرار النسل وديمومة الحضور الرمزي، ولم تأت عمليات أنسنة المكان ومكوناته (الطين، الريح، السيل) إلا لتأكيد فاعلية المكان في تبلور مأساة المحيان، وفي الوقت ذاته تحرك الآخرون لزعزعة رئاسته للمجلس، فهو يعاني من موت مضعَّف (موت الابن، موت البيوت الطينية واستبدالها بأخرى حديثة، موت السلطة ومنازعته عليها)، موت يتراكم طبقات بعضها فوق بعض، ويجسدها انتماؤه للطين فالتقاطعات بين الأمكنة وتواصلها وتواشجها هو المؤسس للخريطة السردية على مستوى فضاءها القصصي والخطابي، وهكذا نرى أن المكان هو المهيمن على كل تفاصيل السرد وعناصره، فهو “الوعي المهيمن على المجتمع، وهو وجه الصراع بين الحداثة والتطور وقوة العادة والتقاليد الراسخة، تلك وغيرها دلائل المكان التي يشحنها النص عبر أحداثه وشخصياته”[5]، أما شخصية (خديم) فهو ابن للسيل لا يعرف له أبا سواه ومن خلال نشأته في بيت المحيان ورعايته له ندرك أنه هو الامتداد الحقيقي لدورة الموت والميلاد، فقد وُلِد من رحم السيل لكنه في الوقت نفسه هو الذي يليق بعايدة (لا حظ فكرة العود في العلم) التي تدرك كنهه، “لأنك الرجل الحقيقي الوحيد هنا، كلهم مزيفون ومهجنون… أنت ابن الطبيعة، والذي لا يعرف الخيانة…بلاد الله واسعة، لماذا تتخيل أنه لا توجد حياة خارج هذه القرية؟”[6] ، فخديم يكتسب دلالة رمزية منذ ميلاده، لتتسع هذه الدلالة مع حرقه للمجلس الجديد المناوئ، ثم هربه بعايدة وقتله وعودة السيل من جديد في رحلة العود الأبدي.
ومن ثم يمكن القول إن المكان الثقافي بكل دلالة رموزه هو القضية الرئيسة للرواية، فكل مكان سواء أكان دينيا كالمسجد أو سياسيا كالمجلس هو المحرك الأساسي لكل الشخصيات، تتحدد مواقفها بهما، بما يعبر عن طبيعة كل شخصية ومساراتها المكانية عبر السرد ورؤيتها لأفكار التطور والحداثة والجمود والتغيير، لتؤكد فكرة أن السرد ممارسة مكانية بالأساس، حيث لا يأتي التعبير عن مواقف الشخصيات وأزماتها من خلال الحدث بل يأتي من خلال المكان.
الكرونوتوب
وفقا لنسبية أينشتين، لا يمكن فصل الزمان عن المكان بحال، فالزمان ما هو إلا كمية الحركة في المكان… ولا يوجد مكان لا يتضمن زمنا بشكل ما[7]، وإزاء هذا الارتباط الدائم ابتدع باختين مصطلحا جديدا يعبّر عن “التفاعل الأساس للعلاقات المكانية – الزمانية التي تتخلل نسيج كل عمل روائي، وهو فضاء زماني مكاني ينظم علاقة الحاضر بالماضي وعلاقة الشخصيات بهما”[8]، وللكرونوتوب في رأي باختين “دلالة نوعية جوهرية في الأدب، فالنوع وضروب النوع تتحدد بدقة بواسطة الكرونوتوب، فهو والنوع شيئان مترادفان”[9]، وهذا الربط على قدر كبير من الأهمية في تمييز السرود المختلفة، فهو مؤسس من ضلعي: الزمن، الفضاء (المكان)، يضاف إليه ضلع ثالث رابط هو ضلع الحركة الذي يجرى عليه القياس، ولكنه تابع لضلعي الكرونوتوب، فإذا كان ضلع الفضاء أكبر من ضلع الزمن كانت الحركة تابعة له، أي أن إشعاعه أكبر من إشعاع الزمن، أو العكس، وفي السياق نفسه؛ فإن الاحتكام إلى الأضلع يجري على ما يتفرع عنهما، ذلك بأن يكون ضلع الفضاء الطبيعي أكبر من ضلع الفضاء المتخيل، فإن الرواية لا تفتأ تكون واقعية أو سيرة أو يوميات، والعكس يجري بالنسبة للفانتاستيك (العجائبي) الذي يكون فيه ضلع المتخيل أكبر من ضلع الفضاء الطبيعي. والأمر نفسه بالنسبة للزمن بشقيه…”[10]
ومن المهم أن نعرف أنّ توحد الزمان والمكان في كرونوتوب واحد لا يعني التشابه في اشتغالهما داخل السرد “إذ يختلف تجسيد المكان عن تجسيد الزمان، حيث أن المكان يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، أما الزمن فيتمثل في هذه الأحداث نفسها وتطورها. وإذا كان الزمن يمثل الخط الذي تسير عليه الأحداث، فإن المكان يظهر على الخط ويصاحبه ويحتويه، فالمكان هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث. وهناك اختلاف بين طريقة إدراك الزمن وطريقة إدراك المكان، حيث يرتبط الزمن بالإدراك النفسي أما المكان فيرتبط بالإدراك الحسي وقد يسقط الإدراك النفسي على الأشياء المحسوسة لتوضيحها والتعبير عنها؛ فنلمس فعل الزمن على الأشياء المحسوسة من تدهور وتهدم.. إلخ، ومن هذا المنطلق نرى أن المكان ليس حقيقة مجردة وإنما هو يظهر في الأشياء التي تشغل الفراغ أو الحيز”[11]
والعلاقة بين التاريخي والمتخيل والحاضر والماضي والمكان والزمان لبناء كرونوتوب تُمحى فيه الحواجزُ بين عنصري الزمان والمكان، فـــ “ما يحدث في الزمكان الفني الأدبي، هو انصهار علاقات المكان والزمان في كل واحد مدرك ومشخص، الزمان هنا يتكثّف، يتراص، يصبح شيئًا فنيًا مرئيًا، والمكـان أيضًا يتكشف يندمج في حركة الزمن والموضوع بوصفه حدثًا أو جملة أحداث[12]، فالنصوص السردية تصوغ الواقع وتخلق صور العالم طبقا لكرونوتوبات مختلفة، ويمكننا التوقف في هذا المقام أمام كرونوتوب الفجر في رواية الفارسي لندرك الفاعلية الزمكانية التي يمارسها في بناء السرد وحركة الأحداث وتتابعها، حيث يمثل الفجر (فضاء زمكانيا) لعدد من الحوادث المفصلية المرتبطة بقرية خالد بخيت الباحث عن وطن بديل، “الفجر أسطورة هذه القرية وسرها المتجدد، تنثره السماوات على الشرق فيفيض بهاء”[13] ، فهو ليس مجرد زمن مفرغ من الدلالة، إنما تعتمل في زمكانيته كل الأحداث الرئيسة المطورة للسرد والصاعدة به إلى ذروته، ومنها:
- نزاع عبيد الديك وجمعان على الآذان، وما ترتب عليه من خلل انتهى بحضور علم الدين إماما إلى جوار راشد، فالتنازع كان بداية انشقاق القرية إلى فسطاطين.
- لقاء عايدة وخالد بخيت، ثم رؤية ولد السليمي له وفتنة المسجد وتزايد الانقسام حول من يؤم المصلين.
- اعتماد الامام راشد على ديك للآذان للفجر، وما أحدث من خلل في المواقيت ثم ذبحه وقيام عبيد بالآذان بدلا منه.
- هروب عايدة وخديم فجرا ونزول السيل.
فالفجر وحدة زمكانية فاعلة وضابطة للحدث والشخصيات، فمن خلال تداخل الزمان والمكان وانصهارهما في وحدة واحدة تكتسب الأحداث دلالتها والشخصيات إيديولوجيتها، كما إنها تعمل على تطوير الحدث والشخصية كليهما إلى الغاية المقصودة، يضاف إلى ذلك ارتباط هذا الوقت الجليل بأفعال لا تناسب جلاله، بقدر ما تكشف عن المفارقة في هذه القرية الظالمة التي تعج بالمتناقضات، فدائما ما يحدث في المسجد -باعتباره فضاء زمكانيا- ما يتنافى مع الدين الحقيقي ويزيد الهوة والانقسام؛ ليتحول الفضاء الديني فضاء مفرقا لا موحدا بفعل الفهم القاصر للدين، مثله في ذلك مثل المجلس الذي اتفق على بنائه المناوئون لمجلس المحيان، فكرنوتوب الفجر يمسك بعناصر السرد، ويصبها في بوتقة واحدة لتحقيق غاية سردية تصاعدية وبث أفكار ورؤى تكشف للمتلقي عمق المفارقة وفداحة التناقضات التي تعيشها القرية على مختلف مستويات معيشتها الدينية والثقافية والاجتماعية، فحادثة الديك ترتبط بأعجوبة ثانية هي فلاحة الإمام لخمس سنين في أرض بور قاحلة، برمزيتها الدالة على الجمود الذي يعانيه الطرفان، بل إن إصراره على آذان الديك ورفضه لكل تحديث يؤكد ذلك، “ديكي مسلم يلهمه الله، أما ساعاتكم هذه فكافرة من صنع الكفار”[14]
إن الحضور الواسع لمواقيت الصلاة وتمركز المسجد في قلب الحدث أعطى الرواية نكهتها وتميزها، وأتاح للسرد أن يطرح أكثر من قضية شائكة دينية وحياتية ومجتمعية لا تشغل الإنسان العماني فقط، بل كل إنسان عربي ومسلم.
التقاطبات الضدية
طرح لوتمان رؤيته للمكان الفني من خلال فاعلية اللغة ودورها في تحويل العالم إلى أنساق، فالمكان الفني/الروائي لا يتجسد إلا من خلال اللغة، وإن الإنسان يدرك العالم إدراكا بصريا، وبذلك يصبح المبدأ الأيقوني القائم على الإدراك البصري/ التخييلي من الخصائص الأساسية للأنساق اللغوية”[15]، ويرى لوتمان أن الآلية الأكثر حضورا في بنية الأمكنة وتوزيعها في الفضاء الروائي، تنجم عن هذه الآلية انتظامات مكانية متقابلة ومتناظرة، وهي المؤهلة للكشف عن رؤية الروائي وكذلك الرؤى الخاصة بالقوى الفاعلة في النص تجاه المكان، وتتفرع عن هذا الآلية مستويات كثيرة من الانتظامات التقابلية: التضاد الاتجاهي والتضاد التقابلي أو الامتدادي”[16]، واتسعت فكرة التقاطبات لتتحول إلى رؤية تكاملية مشتقة من مفاهيم المسافة والاتساع والحجم ومن مفاهيم الشكل والاتصال والانفصال…إلخ، فالأمر لا يقتصر في الثنائيات على إحداثيات وأبعاد بقدر ما يكتنز قيما اجتماعية ودينية وإيديولوجية، تعكس رؤية المؤلف ومقاصده من جهة وتنفذها الشخصيات على ركح السرد من جهة أخرى.
وترتبط بالتقاطبات الضدية ثنائية المتن والهامش باعتبارها إحدى أهم مفردات التقاطب، حيث يظل البعد المكاني مجلى أساسيا للعلاقة، وحيث “تلازم الهامش بالحافة ومأزق الحدود؛ بمعنى أن الأطراف حتما وجه حقيقي من وجوهه، وإذا كان لطرافة الحافة وحدودها القصية مظهر دال يعكس بياض المركز وصفائه المفترضين، فإن للمكان عموما تجليه وتأثيره في الفن.”[17]، ففكرة التهميش في الاستعمالات المعاصرة الأحدث “تجمع القوة المهيمنة مع الاستعارة المكانية: فأن يكون المرء هامشيا يعني امتلاك سلطة أقل، وأن يكون على مسافة بعيدة من مركز السلطة”[18] ، فيما يرجع بيل أشكروفت تجربة الهامشية إلى البنية التضادية لمختلف الخطابات المسيطرة”[19] ، لتبرز الخطابات المختلفة للمركز “بوصفها إفرازًا حتميًا للتضاد الذي يحكم ويحدد علاقة المرء بالهامش، حيث أن هذا الأخير يتم حصره ضمن موقع اجتماعي معين يمنع نفاذه إلى السلطة ووسائل التمثل والإنتاج، وهكذا فان الهامشي يوحي بتموقع يمكن تحديده بعدم قدرة وصول فرد ما إلى السلطة.”[20]
تقف شخصية المحيان الذي يبني البيوت الطينية التي هجرها الناس بوصفه مثالا حيا لمقاومة التغيير الزائف والتحول المتسارع، ذلك أن هذا التحول المادي لم يعقبه تحول في بناء الإنسان بل ظلت عاداته وأفكاره يعشش فيها الخراب، وهو ما يتوافق مع رؤية خالد بخيت حين يقول: “قلبت بصري محاولا تأمل أشجار النخيل السامقات في المزارع التي تلي البيوت المهجورة، كانت تردد أغنيتي، أعدت بصري جهة الوادي خلف البيوت الجديدة بدت الضفة الأخرى للوادي جريحة بالمجهول المعتم”[21]
هذا المحيان الذي فقد ضرورته الحياتية ظل يبني البيوت من الطين كرمز لمحاولة وقف التدهور الإنساني، دون جدوى، يقول في عبارة دالة “لا وجود لأي حقيقة على تراب هذه القرية كل شيء هنا جزء من حلم مجنون… كنت أشعر بأني أغلب الزمن حين أرفع في الهواء بناء لم يكن موجودا”[22] ولذا كان من الضرورة إزاحة المحيان من رئاسة المجلس وبناء مجلس جديد بمعطيات جديدة، فالنسق المضمر في الرواية كلها نسق هجائي للتحول الذي لا يمس حقيقة البشر قبل الحجر، ويضبط بنية قيمه وأخلاقياته قبل أن يضبط أفنيته ومبانيه.
بناء على ما سبق يمكن القول إن السرد ممارسة مكانية بالأساس؛ وذلك رهن بوعي المؤلف، فليس بالضرورة أن يعطي المكان كل تلك الأهمية، فهو عنصر فاعل من عناصر السرد لا ينفصل عن الزمن، لكن يمكن تهميشه، مثله في ذلك مثل الزمن في أشكال معينة من السرد خاصة النفسي، أما السرد الذي يضع المكان نصب عينيه لمقاصد بعينها، فإن وعي الروائي هو الذي يؤطر الأمكنة ثقافيا ودلاليا، وهذا الأمر يمنحها أبعادا رمزية داخل السرد، أي أنها لا تصبح مجرد أمكنة، وإنما تتضمن معنى ودلالة أكثر من فكرة شغلها حيز ما أو كونها مساحة لتأطير الحدث، بل بها يتم وضع الحدود والفواصل بين الطبقات والاختلافات الاجتماعية، والصراعات الحياتية، ومن ثم فهي نقاط اتصال وانفصال، فهي ليست مواقعَ عبور مكانية، وإنما عبور زمانية وتحولات اجتماعية على نحو ما رأينا في رواية الفارسي.
هوامش:
[1] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل، مؤسسة الانتشار العربي، ط1 بيروت 2007.
[2] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل، ص38
[3] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل، ص87
[4] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل، ص155
[5] فارس توفيق البيل، الرواية الخليجية، قراءة في الأنساق الثقافية، دار الأكادميون للنشر، ط1 الأردن 2016، ص243
[6] تبكي الأرض… يضحك زحل، ص326
[7]مصطفى الضبع : استراتيجية المكان ، مرجع سابق، ص 141.
[8] أمينة رشيد، تشظي الزمن في الرواية الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998، ص 13.
[9] تودروف، باختين، المبدأ الحواري، ت فخري صالح، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996، ص 190.
[10] شعيب حليفي، مكونات السرد الفانتاستيكي، فصول ، مج12/ع1، ربيع 1993ص 96
[11]سيزا قاسم : بناء الرواية “دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ” الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة، 1984- ص 76.
[12] ميخائيل باختين: أشكال الزمان والمكان في الرواية. ت. يوسف حلاق. دمشق. ١٩٩٠. ص 5.
[13] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل، ص17
[14] عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض… يضحك زحل،ص227
[15] يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ت سيزا قاسم، مجلة ألف، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط2 المغرب1988، ص69
[16] نقلا عن فيصل غازي النعيمي، العلامة والرواية ، دراسة سيميائية في ثلاثية أرض السواد لعبد الرحمن منيف، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، الأردن 2009، ص116
[17] عبد العاطي الزيان، رواية بطلها الهامش بكل تجلياته، موقع مجلة الكلمة الإلكترونية، ع16،2008 www.alkalimah.net
[18] طوني بينيت وآخرين، مفاتيح اصطلاحية جديدة، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ت سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، ط1بيروت 2010، ص698.
[19] Bill Ashcroft, Key concept in post-colonial studies, London Rutledge, 1998 p 135
[20] Abdol Hossein Nabavi, «Migrant, Marginality and Suburbanization, a Conceptual Framework,» p. 352
[21] عبد العزيز الفارسي، تبكي الرض يضحك زحل، ص15، 16
[22] عبد العزيز الفارسي، تبكي الرض يضحك زحل، ص37، 38
د. محمود فرغلي: ناقد وأكاديمي من مصر | qannaass.com