محمد الأشعري: الشّعر اسم آخر للأبدية، مدد اللغة، ومانح الحياة خارج الحدود…
بقلم سعيد أوعبو
في رحاب المكتبة الوطنية المغربيّة، تم تتويج الشّاعر محمد الأشعري بجائزة الأركانة العالمية للشّعر المحدثة من طرف «بيت الشعر» في المغرب، في محفل إنسانيّ بهيج يجدّد الاعتراف بإحدى أهمّ التّجارب الخلّاقة في الصّناعة والكتابة الشعريّة، وقد عرف النشاط حضورا وازنا لأهم شخصيّات المشهد الثقافي المغربي بمختلف شرائحه وأصنافه، فضلا عن السّياسي الممثَّل في شخص وزير الشّباب والثّقافة والتّواصل، وقد جاءت فترات الاحتفاء ولحظاته وفق مراحل أهمها:
شهادات الشركاء
تواترت الشّهادات في مستهل الاحتفاء بدءا بمدير المكتبة الوطنية محمد الفران الذي اعتزّ باحتضان ردهات الفضاء لأهم الأحداث الثّقافيّة المغربية، لاسيما أنّ جائزة الأركانة العالميّة تصطفّ إلى جانب الجوائز العالمية الثقيلة والعتيدة والمتفرد، مُكيلاً مديحه للأشعري الذي يعتبره الفران أيقونة من أيقونات الشّعر المغربي الحديث.
في حين نثر وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد عبارات التهنئة على الأشعري في ظل نيله للاستحقاق بجدارة، في سياق كشفه عن فخامة الجائزة وفجوتها الفنية والرّمزية التي تكرّس للمسار الإبداعي الرّاقي، كاشفاً عن دعمه للتجربة، وكذا طبيعة المناسبة التي تخلق دينامية في المشهد الثّقافي المغربي، لاسيما وأنّ الوزارة تسهر على مواصلة انشدادها لمثل هذه المشاريع الثّقافيّة الأصيلة.
كما تفضّلت دينا النّاصري المديرة العامة لمؤسسة رعاية لصندوق الإيداع والتديير باعتبارها أحد الشّركاء والرّعاة الرسميين للجائزة بإلقاء كلمات المباركة في ظلّ حيازة الأشعري للجائزة، مع التعبير عن استمرار فعل الإعانة واحتضان الجائزة كاستمرار للعرف الذي استهل برسم سنة 2008، مبرزة في ذات الآن الخصال الأدبية للفائز، وممتدحة منجزه الشّعري والرّوائي المُلهم.
ليأتي الدور بعد ذلك على رئيس بيت الشعر مراد القادري الذي ثمّن المنجز الشعري للأشعري، معرباً عن افتخار البيت بأن يتزيّن كناشها باسم المبدع الألمعي محمد الأشعري، مستعرضا أهم الأسماء العربيّة التي تعاقبت على نيل الجائزة منذ تأسيسها برسم سنة 2002، ونبّه في سياق الجرد إلى كل من: محمود درويش الفلسطيني، والعراقي سعدي يوسف، والطّاهر بن جلون المغربي، والفرنسي إيف بونفوا، واللّبناني وديع سعادة.. باسطا في الصّدد نفسه حرص الجائزة على رصد أهمّ التّجارب الشّعرية العربية والغربية السّامية بالأفق الكونيّ بما ينضوي في إطار الاختلاف المكرّس للقيم الإنسانية.
كلمة باسم لجنة التحكيم
في سياق عرض تقرير اللّجنة أورد رئيسها نجيب خداري وجود حرصٍ بالغٍ على صعيد تحصين القصيدة وصون ديناميّتها استنادا على نبض اليوميّ ومتغيّرات الواقع، ومشاغل وشواغل الإنسان وقلقه في خضمّ الهاجس الشّعري العالميّ، وأَيقنَ في رصد معنى المنجز أنّه تجاوز المباشر، وأقام توازناً وتعالقاً فنّيا مع المعمار واللّوحة والفنون الأخرى، علاوة على التّفاعلات الحيويّة التي يقيمها الشّاعر مع الشّعر نفسه ومع السّرد بغية تخليق الدّلالة الشّعريّة برؤية حداثيّة تنتصر للقيم والإنسان وكذا الفكر الحرّ، واستطرد بأنّ تضافر هذه المُمكنات أفضى إلى حيازته الجائزة، وعبر خداري بعد طرحه لجبّة رئيس اللّجنة الصارم عن سروره البالغ والكبير لتتويج التّجربة الشّعريّة المغربيّة الممثَّلة في محمد الأشعري، بعد تكريم عدد من الشعراء المغاربة من قبيل السرغيني والطّاهر بنجلون ومحمد بنطلحة كأبرز الشعراء الذين واكبوا أفق القصيدة العالميّة.
كلمة الفائز بالدورة 15 من الأركانة
التّجربة المغربيّة التي أنتمي إليها تولّدت مع قصيدة الاحتجاج، تلك التي لم تكن مراهنة سياسيّة ولا مراهنة أدبية بقدر ما تحاول العثور على معنى للحياة في نظام قمعي يقمع رسائل التّعبير الجماعيّة.
افتتح الشّاعر الأشعري الذي أُفْردت له اللّحظة كلمته بنصّ شعريّ للشاعر اليوناني كتافي وهو يبتغي منه إثارة علاقة الشّعر بالزمن وعلاقة الجسد بالشّعر، وقد أعربَ الشاعر في سياق تتويجه بالجائزة عن منظوره للشعر والحياة بالقول: «إن الشّعر اسم آخر للأبدية تتولّد في امتداده الكلمات وتندثر وتبدأ الأشياء أو تنتهي، في هذا التدفّق الدّائم نبحث مسارات الشعر في الحياة وفي الكتابة، مسارات نكون فيها مشدودين للأثر الذي نتلقاه وللأثر الذي نبعثه، وعند ذلك تصبح أجسادنا معبرا للكلمات أكثر ممّا هي معبرٌ للأسئلة. إنّ تلك الالتماعة التي تشعّ من عيني منشد بعيد فعليّ أو محتمل، هي الضّوء الذي تبعث به المجرات لتقول به المسافات التي تفصل بين تشكل القول الشعري وانطفائه، ولذلك فإنّ الغرفة التي ندخلها لنتستّر فيها على تحلّلنا في ماء الأبديّة هي الفرصة التي يمنحها لنا صمت اللّغة سفرا من أسفار الكون».
وانتقل المتوّج لوقد فلسفة الصّمت التي يجعل منها سحراً لغويّا، مبدياً ردّة السقوط من العش الشّفوي في طبيعة العلاقة التي تربط الشّاعر باللّغة على مستوى الانكسار والانبعاث المشتبك والمستقل، وإيراده للنّدم العميق في فقدان الصّوت، والإفصاح عن تشكّلات اللّغة بالكتابة الوالجة لفضاء الجماعة والمربكة للفعل الشّخصي الباعث على الشكّ، مصرحا بأنّ اللّغة لا تتأتى إلّا بما يُجَزّ من جغرافيا اللّغة، سيما أنّ الشعر يتشكل في مجال أرحب في الحدود التّرابية التي يحتلها الغرباء في القصيدة، وأنّ الشعر هو مدد اللغة، ومانح الحياة خارج الحدود.. وأورد الأشعري أنّ التّجربة المغربيّة التي ينتمي إليها تولّدت مع قصيدة الاحتجاج، تلك التي لم تكن مراهنة سياسيّة ولا مراهنة أدبية بقدر ما تحاول العثور على معنى للحياة في نظام قمعي يقمع رسائل التّعبير الجماعيّة، ويشير في الآن نفسه أنّ نقد التّجربة تمّ وصلهُ بالاندفاع الذي لا يمتّ للشعر بصلة، دون أن يُغفل في إطار الردّ أنّ أفضل التّجارب والنّماذج الشّعرية لا تنفكّ عن القضايا المجترحة لهموم الجماعة قياساً بالنّموذج القومي الفلسطيني، باعتبار أنّ هاته التّجارب قد رسّخت اللّغة داخل اللّغة، بل وأفضت إلى تحريرها.. وفي إطار الدّفاع عن القصيدة آمن الشّاعر بأنّ القصيدة لا تولد صمّاء مادامت وثيقة الصّلة بهموم المجتمع ومعذبي الأرض، ويراها الأشعري سبيلا للانعتاق وضمان الحريّة، وكذا التّحرر من أقفال الجنس واللّغة، وقد أفصح الشاعر عن بليغ امتنانه العميق لشجرة الأركانة، مختتما كلمته بقطفٍ شعريّة في جوّ الشّعر والقصيد من مخطوطه الشّعريّ “أوراق سقطت حية”.
نسجِّل في الأخير أنّ لجنة تحكيم هذه الدّورة من الجائزة ترأسها نجيب خداري، وحكّمها كل من النّاقد عبد الرحمان طنكول، والنّاقد خالد بلقاسم، إلى جانب الشّعراء حسن نجمي الأمين العام للجائزة، ورشيد المومني، وعبد السّلام المساوي، ونبيل منصر، ومراد القادري، وقد تم تسليم الجائزة للفائز بالدّورة في لحظة من قِبل وزير الشّباب والثّقافة والتّواصل في لحظة مشحونة بالعواطف ستشم الذّاكرة الوجدانيّة للشّاعر، وتفضّلت دينا الناصري بتقديم القيمة المالية للأشعري، واستمر مسلسل الاعتراف بالتّجربة الشّعرية بتقديم شهادة تقديرية سلمها رئيس بيت الشعر، ليُختتم الاحتفاء بالبورتريه أو الصورة الرّمزية المهداة للمحتفى به من طرف الفنان التّشكيليّ أحمد جريد.