بيير زاوي: دعونا نعيد للرغبة خفتها
ترجمة عن الفرنسية: هدى حمودة
بمناسبة صدور كتابه الأخير «الجمال العابر، مديح فقاعات الصابون» أجرت مجلة Philosophie Magazine هذا الحوار مع الفيلسوف الفرنسي بيير زاوي. حاورته: آن صوفي مورو Anne-Sophie Moreau.
***
# منْ أينَ جاءتكَ رغبة الكتابة عن فقاعات الصابون؟
بيير زاوي: لطالما أدهشتني طاقة الفرح التي تُحدثها مجموعةٌ صغيرة من فقاعات الصابون، على أطفالي وأطفال الآخرين. بهجة غَامرةٌ من لا شيء تقريبا. فانجذبتُ لهذا السر. لقد خصصت الكاتبة والمصورة Suzanne Doppelt كتابا رائعاً عن فقاعات الصابون للرّسام شاردان (1699-1779) «لا شيء لهذا السحر2018». عنوانٌ مَأخوذٌ عن ديدرو الذي قال مُتحدثا عن معاصريه: «لا نفهم شيئا عن هذا السّحر». وأنتج عددٌ منَ المُفكرين-من اللاهوتيين إلى لاكان- نصوصا مُهمة للغاية عن امتلاء العَدم؛ ما كان يجذبني شخصيٌّا هو ما تُحدثه بهجةٌ ما بالقليل جدا. هناك شيءٌ من الخِفة المُتناهية في تَشكُّل الفقاعة، كما في اختفاءها.
# حتى أنَّك تقول في كتابك: يا لها من فِكرة، في زمن الحروب والمَآسي، أن تَكتب عن مسألة بهذه الخِفّة!
أردتُ، في زمن الفظائع هذا، أن أكتب عن الخفَّة، ومن النّاحية الميتافيزيقية، أن أرى الحياة والعالم رهافةً وجمالا طفيفا عابرا. جوهرُ الفلسفة عند هايدغر هو أن ترَفع الكائن، لتعيده لوزنه الحقيقي. بالمقابل، أعتقد أنها تبسيط الأشياءِ، لأن جوهر الحياة سَطحي. لسنَا سوَى عابرين على هذه الأرض. لذا أردت استعادة مسألة الغرور بالمعنى اللاهوتي والأخلاقي –كفراغ الكائن وكحب ذاتي- تحمل الفقاعة هذان المعنيان: مغرورة، بكيان فارغ، وتبدي فرقعة لا تملكها. من العبث أن تنفجر بوجه الخفة: في الواقع من الجيد أن تكون الأشياء فارغة. وإلا ستصير الميتات والجراح والمظالم أكثر قسوةً.
# الغرور عيب بالمعنى الأخلاقي…
النرجسية ليست سيئة لذاتها، فهي حالة حبٍّ للذَّات؛ تنحرف حين تَجعلنا ننسى عُمق ذَاواتنا الوُجودي وبأن كل شيءٍ عابرٌ. تُعجبني قُدرة الأطفال على الانفلات من صورهم الخاصة أو عالمهم. الكثير منهم يحب التّألقَ، والاستعراض. فالطفل كالطّاووس، يتوقُ لفَردِ جناحيه !وهذا رائع، لأنه لا يَدوم مطلقا، على الأقل عند أغلبهم. بينما يُثير الشفقة، البالغ الذي يفعل ذلك. لِمَ؟ لأنه يفردهما دائماً، فحين نرغب بأن نكون نُجوماً طوال الوقت، يصبح ذلك منفّرا قليلا. حين نكبر، نفقد هذا الحسّ الطفولي. فالغرور لا يكون جميلا إلا إذا كان عابرًا.
# خصَّصت للصمت كتابا، ما يتناقضُ معَ كونك مُشاركاً في تأسيسِ مجلةٍ باسمِ «صَخب»!
الصّمت فن التَّواري أحيانا، ليس أبديا ولا اختفاءً دائما. هو ببساطة الامتناع عن الظهور من وقت لآخر. وقد يكون في هذا الانسحاب شيء مُثمر للغاية. لقد أنتجَ عصرنا هذا مبالغةً في عَرض الذات: هي عادة السياسيين لكن الكثير من الناس العاديين أيضا يتحدثون عن ذاتهم باستمرار يوميا. ولا شيء أكثرُ تنفيرا من هذا. حين كتبت هذا الكتاب، كنا نخرج من سنوات الساركوزية -ولم يتغير شيء من يومها. إن كنتَ داخل ثقافة الصُّراخ، بالكامل، سوف تجن. على الصخب أن يفسحَ المجال للصمت. من وقت لآخر.
# لطالما كنت مرتبطا، خاصة بجماعة Act Up . أتحتاج حاليا للانعزال بفقاعتك الخاصة؟
كنت بين 24 و 28 سنة حين دَخلتها، لأغادِرها مُبكرا. وقتهاكنّا نُعتبر فاشيين! لم يتَحمل الكثيرون رؤيتنا، نذروا الرَّماد على الأفران الصغيرة لشركة الأدوية…. حتى عام 1995، كان الأمر بمنتهى القسوة، كنا نفقد الكثير من الأصدقاء. وما لمحته داخل المجموعة، وخارجها، هو أن المناضلين الأكثر صلابةً يملكون جميعا فقاعات، مخابئ وجحورًا- حتى لا يحترقوا. بعد هجمات 7 أكتوبر، كدتُ أجنُّ، كنت أقضي وقتي بقراءة الأخبار، عليك أن تعرف كيف تَنقطعُ. أقول لكل المشاركين بالنضالات المصيرية: من لا يملك فقاعات، ينفجر. تحتاج لأوقات عزلةٍ، لتتألم…
# حاليا أنت مُشاركٌ بالسياسة، أم تفضل البَقاء صامتا؟
أنا مُدركٌ لمسألة العالم، لكنِّي أفضلُ أن يكون بصمتٍ، أن أختلطَ كمجهولٍ في زحام مَسيرة. ما يؤلمنِي هو فَشلُناَ في التَّواصل مع الأجيال الشّابة. هناك ارتيابٌ مُريعٌ اتجاهنا نحن الكُهول ما لا يبدو لي عبثيا بالنَّظرِ للعالم الذي خلفناه لهم؛ من الأفضل أن نصمتَ، لقد تَكلَّمنا كثيرا !يصف سارتر الاستغراق مستعينا بكلمات وظفها باسكال عن الإيمان :«لقد أبحرنا» لا أحب نموذج الانخراط الكلِّي هذا؛ أفضل المنفتح واللامُقيدَ. الوُجود حركة إبحارٍ وإنزالٍ أبدية، والفلسفة ليست هنا لوضعِ نظريةٍ أو تَعريفٍ شاملٍ للعالم.
# تُأكِّدُ بأن كل رغبة هي رغبة من فقاعة…
هناك رغبة من فقاعة، من شرنقة. نحن نرغب بامتلاك الشَّيء لرغبته، كما جعل راوي مارسيل بروست من ألبرتين سجينته. لكننا نختنق داخل هذه الفقاعة حين ينعدم الهواء والخارج. سِحرُ فقاعة الصابون هو أنها تُمحى قبل أن تَصيرَ مُميتةً. في الحقيقة، جوهر الرغبة مراوغ. نميل اليوم للاعتقاد بأنه يمكننا الإدمان على نيتفلكس، مواقع التواصل والجنس… لكن المَرء لا يرغب دائما. يتحدث لاكان عن «لا زمن» الرغبة: تجيء وتذهب. فنحن لعبتها. تمكننا فقاعة الصابون من تأمل طبيعتها العابرة. وتسمح لنا بالخروج من تناقضها واعتبارها إمّا كحاجة أو امتلاء، قوة أو طاقة. الرغبة هي لعبة الإثنين: في الميثولوجيا الإغريقية ، إيروس هو ابن الآلهة بوروس وبينيا- الوفرة والفاقةُ. علينا أن نعيد للرغبة خفتها. وسيكون على الأزواج أن يردّدوا: لا يُهم إِنْ خفتَتْ الرّغبة فستشتعلُ من جديد.
# كثيرا ما ألهمك سبينوزا، فما الذي أغراك في كتابه؟
أنا عاشقٌ لسبينوزا فلطالما شَغلني. وما لفتني عنده بداية، هو هذا التأكيد بأن كل الأشياء التي تمنحنا البهجة جيدة. بالتأكيد هناك مباهج سيئة، وأخرى مسمومة قد تؤدي لتدمير الذَّات. لكنَّ القوة تُجاور الفرح. هذه الفكرة تخاطب القلوب الحزينة كقلبي. لكنها لا تقنعهم دائما. فعند سبينوزا ضمان بدوام المباهج الحية، يسميه النَّعيم الذي لم أصله. فهو يفكر بأسلوب عقلاني: كتابه «الأخلاق» بحسب عنوانه الكامل، ينقلُ القارئ إلى النَّعيم لكنْ بشرط أن يُنصت لفكرهِ -وإن أفلت سَأجِدُنِي عندَ البَدء. إنّها السيزيفية. لذا أنا قارئ أكثر شراسةً وبراغماتية: إن لم ينفعني سبينوزا أدعه فورا وأبحث خارجا. يبحثُ سبينوزا عن تصوّر للحياة حيث يمكن لقدرته على المعرفة أن تنمو بلا حدود كامنةٍ، كنذر برحلة أبدية في الحياة الرُّوحية. بالإضافة إلى أنّه لا يمكننا أن نكون راضين دائما. على أية حال، أنا لا أستطيع. لذا أعتقد بأنّي أشْبَه بالمشهد المُتقطع: على العَرْضِ أنْ يتوقف. وأن نتعلم التّخلي، ونكفّ عن رغبة شرح كل شيء.
# في«مَعبر الكوارث» تروي مِحنة موت الآخر. أنستطيع حقاً مواجهة الأسى بخفة؟
لست متأكدا من مقدرتنا على ذلك، لكن تحقيقه سيكون رائعا. إنها قوة التّوافق التي يوظفها جيل دولوز بين حالتين متناقضتين: قيمة الحياة المطلقة، من جهة، وسُخريتها التامة من جهة أخرى. الموت هو«الخفة ذاتها»، لنستعيد عبارة موريس بلانشو السّاخرة، ما الذي تعنيه؟ سؤال يشغلني منذ ثلاثين سنة. موتنا لا يعني شيئا، لكنَّ موت الآخر مرعب.«الإنسان الحرُّ لا يُفكر بشيءٍ أَقلَّ منَ الموتِ»، يقول سبينوزا. من الواضح أنه يفكر بموته؛ لكن حين فقد صَديقُه Pierre Balling طفله، كتب له رسالة بمنتهى الرّقة. عليك أن تكون هنا من أجل موت الآخرين: وهذا ما كنت أحاول شرحه في هذا الكتاب السّوداوي. يقترح كتابي عن الفقاعات علاقة مغايرة بالموت، علاقة طُفولية. خذ مثلا تغير المناخ: ربما ستنقرض البشرية. هذا مأساوي بمعنى ما، وبمنتهى الخفة بمعنى آخر. لا يمنعنا من الاشتغال والحب، لحسن الحظ! حين صادفت مشردا ميتا في الشارع، تذكرت قصيدة «موت الفقراء» لبودلير، وقد أثر فيّ ذلك كثيرا. مسألة «وفيات الشارع» بلا دفن، تَهزُّ سُمعة الإنسانية. لكن في عمق هذه المحنة هناك درس: أن تقبلَ الموت بخفته. الأطفال أكثر حكمة منّا بكثير: فهم يتأثرون جدا بالموت، لكنهم يعرفون أيضا بأن له شيئا من الخفة. بإمكانهم أن يبكوا كل دموع أجسادهم بعد رؤية جدتهم ميتة وفي الغد، يعودون إلى جنونهم المُحبب. كراوي البحث عن الزمن المفقود. فهم يفكرون بتقطُّعٍ، الدموع فالضحك فالحزن فالفرح. لذا لا ينبغي حمايتهم من الموت: منتهى العنف أن نكذب عليهم أو نحرمهم من مراسم الدّفن بذريعة أنّها تصدمهم. إن ابتكرت الإنسانية الجنازات، فلأن لها وظيفة اجتماعية. علينا إذن السّماح للطفل بالمُشاركة في هذا التّشافي، وبالبكاء والتَّهريج.
# تقول بأن علينا «تسييس الطفولة» ماذا تعني بذلك؟
هذه العبارة مأخوذة من كتاب مشترك صَدر بإشراف Vincent Romagny. علاقتنا بالطفل مُشوشة. فالبعض يقول بأنه لا ينبغي إنجاب الأطفال لحماية المناخ. هذا جنون: إن كنَّا آخر جيل على الأرض، نحرق كل شيء هكذا! من جهة أخرى، من لهم أطفال يسعون لامتلاكهم باعتبار أنهم وحدهم المعنيون بتربيتهم، مصادرين حريتهم. سابقا كان الأطفال يلعبون بتشكيلِ فقاعات الصابون في الشارع؛ اليوم نربيهم داخل فقاعة. يبدو لي بأن مكانهم وسط المجتمع. علينا أن نرتبط بالأطفال، ما لا يعني بالضَّرورة بامتلاك ذواتهم، بل لنؤمن لهم مكانة بالفضاء العام، حتى لا يُختزل الأمر بمسألة النسل كما يدافع عنها اليمين. نتجاهل مدى فكر Hans Jonas، الذي يدعونا للالتفات إلى الأجيال القادمة. كما يقول التلموذ: «الإنسان أبُ كل الأطفال»، جلّ مآسي البشر تَحدث حين يقتلون الطفل داخلهم؛ عندها تَصير الفظائع كالحروب في أوكرانيا أو غزة مُمكنةً.
# أحد أهداف كتابك الجديد،إعادة تأمل الفقر، كيف؟
كل الأديان وحركات التحرر في القرن 19 احتفت بالفقر. والآن هو يثيرُ النّفور. هناك فوبيا صريحة منه. فيما هناك جمال في الفقر الإنجيلي، التّشاؤمي أو الشيوعي، مثلا يمكن للرّضا أن يكون محرّرا. هناك هدف جمالي وسياسي في إعادة تأمل الفقر. جزء من الفن الحديث يتمحور حول فكرة التوقف عن خلق الأعمال العظيمة، وتجريدها حتى لا تُولّدَ سوى أفكارٍ أو حركات بسيطة. هذا الهًاجس مرتبط حتما بمقاومتهم للرأسمالية أكثرَ من حماسة الاشتراك بها. علينا حاليا استعادة مُتعة التَّخلي. فكونك فقيرا ليس معناه أن لا تملك شيئا، بل أن تمتلك القليل. لا حاجة لشراء عربات إطفاء كبيرة لأطفالنا: يمكننا تدبر الأمر بالأشغال اليدوية، وبالقليل. أي مسيحي، ماركسي مقتنع بأن الفقر كان حالة سُموّ. ليس لدينا أدنى فكرة اليوم، عدى جماعات قليلة، وهذا يقول مِحنةَ العصرِ أكثرَ.
# تدعو بأن الشّر ليس حتمية،أأنت متفائل؟
أنا أمارسُ سبينوزيتي: ليس هناك شرٌّ، في النهاية. إن رحلنا ستنعَم الأرض لزمن طويل. قد تكون الشُّعوب الناجية، أو جنس آخر أكثرَ حكمةً، وأتمنى لهم مستقبلا أفضل! المحزنُ هو أننا لم نبذل جهدنا اليوم لمعالجة نظامنا البيئي. لأن الشّر لم يكن حتمية: هذا يعني المرض والحرب. الإيدز والصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو الروسي الأوكراني. قد يسود السلام يوما ما. ليس ما تقوله الجغرافيا السياسية بل الفلسفة. من السّهل أن تكون متشائما، عليك أن تتعلم كيف تُفلتُ من الزّمن، أن تجد مَكمنَ الحقيقة هذا حيث لا مكان للشّر. سبينوزا نقيض العدمية: يحاول أن يثبتَ الفرح المطلق.لا ليخطف الأنظار، بل ليتذكر بأنه لا يستطيعُ العيش داخل حتمية يأسه. السؤال الحقيقي هو لم هناك القليل من الجراحِ: حتى بعد الحرب الكثير يأكل بشهية مفتوحة. إنه جانبا الطفولي من يعلمنا ويساعدنا هكذا على تأمل الموت بخفته: كل من يولد عليه أن يفنى، كفقاعة صابون.
هدى حمودة؛ كاتبة جزائرية. خريجة قسم الإعلام بجامعة سطيف، ترجمت لمجموعة من الكتاب والشعراء الفرنسيين، وقد نشرت بعدد من المجلات والجرائد العربية منها نزوى العُمانية، القبس الكويتي، الصباح العراقي، الأخبار اللبنانية وغيرها.
