عين قناصموسيقا

ثنائية الأبنودي وبليغ حمدي والنهوض بفن الغناء العربي | راسم المدهون

في بدايات مرحلة الدراسة الثانوية انتبهت لأغان مختلفة تماما في كلماتها التي تغنت بالحب برؤى جديدة وحملت تغيرا لافتا في “موضوعاتها” التي بدت لي أكثر انتماء للحياة، وبالطبع أجمل في تعبيرها عن الحب، بل إن تلك الأغاني صيغت بقوالب موسيقية بالغة البساطة واليسر، أليفة في ملامستها للروح والمشاعر معا. كان اللافت في تلك الأغاني أنها للشاعر عبد الرحمن الأبنودي وأن من لحنها هو بليغ حمدي الذي كنت مأخوذا بتجاربه اللحنية الأولى مع عبد الحليم حافظ (تخونوه، خسارة خسارة وخايف مرة أحب) ومع فايزة أحمد (ما تحبنيش بالشكل ده) وبالطبع ألحانه لأم كلثوم في تلك المرحلة (حب إيه، أنساك، بعيد عنك وسيرة الحب) ومأخوذا أيضا بفكرة أن شابا في السنوات الأولى من عقده الثالث يصل لأم كلثوم وتختاره هو بالذات ليكون بتجربته وموهبته الموسيقية جسر تواصلها مع الأجيال الجديدة.

كل شيء كان هادئا على جبهة الموسيقى والغناء العربي: الموضوعات ذاتها وفي الغالب الأعم الألحان ذاتها أو على الأقل مناخاتها وأجواءها حتى أتتني هذه “الموجة” الجديدة وكان لافتا أن أول من شدوا بها كانوا عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة ومحمد رشدي: انتبهت كثيرا لأغان مثل “مسير الشمس من تاني” و”حتسافر” لنجاة، ثم “على حسب وداد قلبي” لعبد الحليم فكانت عندي (ولم تزل) مذاقا غنائيا جديدا يطوي صفحة العشق المبلل بالدموع والشكوى من العواذل ويفتح “سيرة الحب” بطريقة مختلفة بل بأفق مختلف.

كُتب «موال النهار» في الأيام الأولى التي أعقبت هزيمة الخامس من يونيو 1967 أي تماما في مرحلة الإحباط واليأس، ولكنه “الحزن الشرس” المقاوم، وبلحن غنائي يشتعل بدراما موسيقية نادرة وبالغة التأثير .

الصورة: عبد الرحمن الأبنودي | wikipedia.org

تلك سنوات الستينات كان عمالقة الموسيقى فريد الأطرش وعبد الوهاب ورياض السنباطي ومعهم من جاء بعدهم من الملحنين الكبار (محمد الموجي، كمال الطويل، منير مراد، حلمي بكر ومحمد سلطان) حاضرين ومنتجين ومع ذلك كان لون بليغ شيئا آخر فكيف وقد حملت موسيقاه كلام الجمال بابداع الأبنودي وموهبته أولا، ثم أيضا وهذا هو الأهم بروحه الشعبية التي نهلت من مخيلة تتبع خطوات العشاق والمحبين في القرى البسيطة والمدن على حد سواء.

هكذا نشأت ثنائية الأبنودي– بليغ حمدي فضمت دائرة واسعة من المطربين لا أبالغ أن أقول أنها شملت كل مطربي ومطربات مصر والعرب (شادية، محرم فؤاد، شهرزاد، محمد رشدي، شريفة فاضل، فايزة أحمد، محمد العزبي، عزيزة جلال، سميرة سعيد، وردة الجزائرية، ميادة حناوي، ذكرى، نهاد طربيه، وبالطبع عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة)

فكانت حصيلة ألحانه لشادية 80 أغنية ولنجاة 60 أغنية ولعبد الحليم حافظ 30 أغنية وهي أرقام تحمل دلالات خاصة إذ هي تؤشر إلى دلالات كبرى على مفهوم مختلف للطرب خصوصا أن عبقرية بليغ حمدي تمثلت في ركنها الأهم في فهمه العميق للأصوات الغنائية التي تعامل معها وقدرته على قراءة إمكاناتها ومساحاتها الصوتية على نحو لم نعرفه مع ملحن آخر والواضح أن سمة تلك الأغاني مغايرة لنهج الغناء السابق ابتداء من الأغنيات التي أبدعها ثنائي الأبنودي– بليغ حمدي، وامتدادها للحالة الغنائية عموما التي وجدت نفسها تنجذب لهذا التجديد وتتبع خطاه. سنلاحظ في هذا السياق أن اللغة الشعرية الأبنودية ساعدت بليغ حمدي على تقديم جمل لحنية تتكئ على الروح الشعبية المصرية وسنرى أن بليغ حقق ذلك بطريقة غير تقليدية ولم تتبع المألوف سابقا إذ لم يقدم أغاني الفلكلور المصري الشهيرة بألحانها المعروفة والتي يرددها الناس عادة بل أخذ الكلمات واجترح لها ألحانا جديدة تماما ما دفع ملحنا كبيرا ومرموقا ككمال الطويل للقول أن بليغ بذلك دفع تلك الأغاني الفلكلورية للذهاب بعيدا في خلودها في حياة الناس لنصف قرن قادم.

من اللافت هنا ونحن نتحدث عن الروح الشعبية في موسيقى بليغ حمدي أن نلاحظ ندرة الألحان التي قدمها بالفصحى وانحيازه الكاسح لتلك التي كتبت باللغة المحكية في دلالة على المكانة العالية التي تحتلها الروح الشعبية في مشروعه الموسيقي– الغنائي والذي تكامل مع تجربة عبد الرحمن الأبنودي وحلق معها. نقول ذلك ولا ننسى الإشارة أن روح الأغنية الأبنودية البليغية قد امتدت لمعظم الأغاني التي كتبها شعراء آخرون ولحنها لهم ملحنون غير بليغ أي أن تلك التجربة نجحت في أن تكون في قلب الفعل الموسيقي– الغنائي وسنلحظ بقليل من التدقيق أنها لم تكن موجة تنسحب وتخفت بل تفاعلت وتحولت إلى واقع الأغنية المصرية الذي لم يعد كما كان من قبل. ذلك وقع في السياق ذاته الذي تخلت فيه الأغنية عن عاداتها القديمة بما فيها من رتابة.

شغف بليغ حمدي الأبرز كان في إبداع موسيقى تقارب روح الناس وتعبر عن مشاعرهم البسيطة وهو حقق الكثير من هذا بتحقيقه “لغة موسيقية” تبدو للسامع أليفة وربما سمعها ولكنها مع ذلك جديدة تماما كما أشار لذلك بذكاء وخبرة الراحل محمد عبد الوهاب، ثم أن بليغ كان يختزن في روحه موهبة غزيرة الانتاج تجعله قادرا دوما على تحقيق ألحان لكل الأصوات الغنائية الموجودة: سنرى بالاستماع كيف فهم بليغ صوت محمد رشدي ونجح معه في رفع الأغنية الشعبية إلى مقام الغناء الرفيع بعد دهر من اعتبارها فنا “أدنى” يمارسه من يفشلون في تقديم “الغناء العاطفي الصافي” وسنجد أن عظمة الغناء تتحقق بتحقيق التوليفة الناجحة بين عناصر الأغنية الثلاث في سياقات متناغمة وتلامس القلوب والمشاعر: كتب عبد الرحمن الأبنودي “موال النهار” في الأيام الأولى التي أعقبت هزيمة الخامس من يونيو 1967 أي تماما في مرحلة الإحباط واليأس ولكنه قدم من خلالها “الحزن الشرس”، المقاوم والذي تشيع فيه روح التفاؤل العميق ونجح بليغ حمدي في تقديم لحن غنائي يشتعل بدراما موسيقية نادرة وبالغة التأثير في روح المستمع وفكره. “موال النهار” هي إلى اليوم الأبرز والأهم بين كل الأغاني التي تحققت بعد 1967 وهي حكت قصة الهزيمة دون انكسار وأشاعت روح التصميم ولكن دون السقوط في إثم الإنشاد الساذج وما يحمله من رنين خارجي سرعان ما يذوب وينتهي.

سنرى هذه الموجة من الأغاني الوطنية بعد ذلك في أغنيات لا تنسى مثل “خلي السلاح صاحي” و”المسيح” وكلها غناها عبد الحليم حافظ، ثم “ابنك يقول لك يا بطل” التي جاءت مثل صرخة تحذير ساطعة تخاطب الجميع وبالذات الجنود. تلك أيام البحث عن الضوء وقد فهم الشاعر الأبنودي والموسيقار المبدع بليغ حمدي مسؤولية تحقيق غناء وطني يترفع عن سطحية الغناء الوطني الحماسي وما فيه من إدعاءات لا ترقى للواقع غالبا فلا تحقق سوى الوهم, والأهم  هو الإنطلاق من سواد الهزيمة ذاته والاعتراف به ولكن دون التسليم بوجوده كحقيقة ثابتة بل أكد بصيغة موسيقية بارعة على “الحزن المقاوم” الذي قد يفشل ويعيش المعاناة ولكنه لا يستسلم . هي أيضا أغنيات الحرب: كانت الحرب في تلك الأيام بدايات الرد على الهزيمة وكان منطقيا أن تطوي صفحة زمن طويل من الغناء في مديح الحاكم والانطلاق من نظرة جديدة تجتهد للتعبير عن الروح الوطنية للناس وعن تطور سبل وأشكال المواجهة في زمن “حرب الاستنزاف” التي استمرت حتى حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973.

رهان الأبنودي وبليغ حمدي في الأغاني الوطنية كان على تقديم أغنيات تتحرر من الهتاف والخطابة، وتقوم على التعبير عن الشعب البسيط في المدن والقرى، ثم أيضا على مفارقة الرغبة المسبقة في إثارة حماسة المستمعين بل استقطاب وعيهم ومخاطبة عقولهم واحترامها.

كثير من تلك الأغاني التي حققها بليغ والأبنودي نلاحظ إقبال هواة الغناء على تقديمها بأصواتهم خلال برامج المسابقات الغنائية في القنوات التلفزيونية الكبرى، دلالة ساطعة على خلود تلك الأغاني وبقائها حية ومهمة حتى اليوم، والثنائية التي شكلها الراحلان الكبيران نجحت في أن تكون متجددة من خلال التحديق الواعي في الواقع ومن خلال الإنتباه إلى تلازم هدفي التطور الذاتي الذي يخص المبدع والتطور العام الذي يخص الفن ومنه بالذات فن الموسيقى والغناء وأعتقد أنه ما من ناقد موضوعي عادل يمكنه أن يمر بسهولة على تجربة كبرى حفرت عميقا في مجرى الفن كما في أرواح الناس كتلك التجربة التي حققها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والملحن الاستثنائي بليغ حمدي.

راسم المدهون: شاعر وكاتب فلسطيني | fb.com/rasem.almadhoun

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى