رواية نفسية لا تنشغل بالأحداث الكبرى، بقدر ما تنشغل بتصوير ما يشغل إنسان أحبّ الوحدة والصمت
«وأنا في هذا العمر أبدو مثل جبل مهجور لا أكاد أشعر أن لي ملامح، لكن رغبة عارمة تسيطر علي كلما فكرت بتلك اللحظة التي سأقتنص تيس الوعل، ما زلت رغم جهدي ومشقتي أبحث عنه، أعرف أنه في مكان ما يقف الآن ينظر إليّ. أعرف أنه هنا، أنه لن يموت ما دام هنالك قنّاص يترصد به»
هكذا حلم القناص منذ أن كان صغيرا وقد علمه أبوه وعمه القنص والصيد، وحتى وصل إلى سن الستين وهو يحلم باقتناص الوعل الجبلي. ظل يطارد حلمه ويترصد له لكي يتمكن من اقتناصه، وبعدها جلس وحيدا تعيسا يشعر بالفراغ العظيم داخله، فقد هوى حلمه مع رصاص بندقيته في رأس الوعل. لم يعد لديه ما يعيش من أجله، لم يعد ثمة أمل فقد حقق أقصى ما يتمنى: «لقد اصطدت الوعل أخيراً، لكنني لم اكن أعلم بأنني كنت أنهي كل شيء». إنها حالة فلسفية وجودية معقدة التي يعانيها صالح الشيخان بطل رواية «القناص» للروائي والشاعر العماني زهران القاسمي.
منذ أن كان صغيرا وهو يحلم أن يكون قناصا، لا يقتنص الطرائد الصغيرة أو السهلة، إنما وقر في وعيه أنه لن يصير قناصا حقيقيا إلا باصطياد تيس الوعل: «قضيت جلّ حياتي أحاول أن أقتنص التيس ولكن بلا فائدة، فبرغم القنائص التي سقطت أمامي، وبرغم الذاكرة التي أكتنزها عن كل شبر في هذه الجبال إلا أنني ما زلت غير مكتمل، لقد رسخت مقولة عمي في ذهني عندما قال ذات يوم:
ـ ما تكون قناص إلا يوم تقتنص التيس العود.
هكذا كانت أعراف قناصي القرية، الطرائد السهلة لا تمنحهم الألقاب العظمى، وتيس الوعل الذي راهن عليه صالح الشيخان بطل الرواية كان ينتظر صياده أيضا، على مرّ السنين والصياد والطريدة يراقبان بعضهما البعض، ثمة تحد غير معلن، والأساطير تحاك حول الوعول الجبلية، فالوعي الشعبي يعتقد أنها تحرسها كائنات من الجن وتمكنها طوال الوقت من أن تفلت من يد القناصين، وربما هذا ما جعل الرهان يأخذ مدىً أكبر في نفس صالح، وبمجرد لحظة سقوط وعله المرتجى، تراه يقول: «يا أبي، يا عمي سيف، يا ود مفتاح، يا أيّها الناس، ها أنا أخيراً قد صرت قنّاصاً. ها قد سقط تيس الوعل برمية واحدة من بندقيتي، دون أن تحرسه مخلوقات الأرض كلّها أو الجن، أو حتى أهلنا الصالحين. أين أنتم تعالوا اشهدوا أنني صرت قناصاً».
إذن الحدث الرئيس في الرواية هو قصة هذا القناص الذي اعتزل الحياة والناس يفكر ليل نهار في وعل نشأت بينهما علاقة جدلية، فكلاهما يحرص على الحياة لوجود الآخر. يتبادلان النظرات من مسافات هائلة يتحديان بعضهما البعض: «كان فوقي مباشرة يقف أمام شجرة لقم كبيرة. تيس الوعل بقرنيه المقوسين، يراقبني من الأعلى.. وضعته في دائرة التصويب.. سمعت من داخلي صوت عمي يقول: لا تشوف عليه كله، شوف ع راسه والا فواده».
الصورة: زهران القاسمي (qannaass.com)
إنها رواية نفسية لا تنشغل بالأحداث الكبرى، بقدر ما تنشغل بتصوير ما يشغل إنسان أحب الوحدة والصمت، وانعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية، توحّد مع حلم وحيد، أن يصطاد الوعل الذي سيؤكد على جدارته كقناص «كنت في كل صعود إلى عقبة وهبوط إلى واد أفقد جزءا مني، أشعر بالضعف يحتلني، أشعر بالسنين تتدفق وأجدني رجلا عجوزا يحتله الفراغ والوهن. كنت أستريح بين مسافة وأخرى وأنا أحاول جاهدا التنفس بعمق، لقد اصطدت الوعل أخيرا، لكنني لم أكن أعلم أنني أنهي كل شيء. هل حقا كنت أريد أن أصطادك؟ هل كنت حقا أحلم أن أمتلك رأسك وأمسك قرنيك؟ هل حقا تلك كانت غايتي؟ أم أنني كنت طوال تلك السنين أطارد وعلا آخر يركض في داخلي، إنه وعل الذات، الوعل الذي طارده أبي في داخله وطارده عمي دون أن يصلا إليه؟».
فلسفة المكان وبلاغة الوصف:
رغم أن الرواية أقرب إلى الرواية النفسية الفلسفية إلا أن الكاتب تمكن عبر الوصف وعبر جماليات المكان التي تمثلها في روايته المكتنزة أن يؤسس لجمالية تتحمل هذا السرد الفلسفي المتأمل في ذاته، فللوصف الفني في السرد الروائي وظائف متعددة، منها التصوير الفني الجميل للمكان، ومنها التمجيد للشخصية التي ستخترق المكان، فمن خلال وصف المكان يتم التمهيد لمزاج الشخصية وطبعها، فيصبح المكان «تعبيرات مجازية عن الشخصية، لأن بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان. كما أن وظيفة الوصف، وخاصة عندما يقف عند التفاصيل الصغيرة، هي وظيفة إيهامية، إذ يدخل العالم الخارجي بتفاصيله الصغيرة في عالم الرواية التخييلي، فيشعر القارئ أنه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال، ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع؛ لذا راهن القاسمي على الوصف بلغة لها طاقات شعرية خاصة ليحقق تلك الوظائف السردية من خلال وصف المكان، يقول في مدخل الرواية:
«عند مدخل كهف كبير في قمة الجبل البعيد يربض تيس الوعل، محنيا رأسه، مغمضا عينيه، داخلا في سبات عميق. كانت شجرة ظَفَر تقف أسفل المدخل، تحيط بها نباتات القضب ذات الزهور اللؤلؤية الصفر، بعيدانها الخضر الدقيقة التي تتشعب ممتدة مثل سهام خارجة من كنانة قناص قديم…فتح التيس النائم أمام مدخل الكهف عينيه، يقف ملقيا نظرة على القرية، تهب النسمات، فتصدر أعشاب القضب صلصلة ناعمة مثل أجراس صغيرة يتردد صداها في السفح المقابل، يصعد التيس بتأنّ وكأنه لا يود أن يفارق المكان، يقف أعلى الكهف، يصوب نظرته إلى بطن الوادي، العميق، الشاسع، حيث الريح تؤرجح أغصان أشجار الحبن المزهرة، وحيث يتمايل زور النخل، بينما تطلق أشجار الإثل صفيرها في تلك الساعة من آخر النهار، حيث كانت الشمس قد بدأت في الهبوط تدريجيا لتغيب خلف الجبال الأبعد».
ولعل من المهم القول إن الوصف لا ينقل الأشكال والألوان كما تراها العين، بل ينقلها وفق منظور نفسى فنى جمالي، يخدم الرواية، ومن خلال اللغة، وبشكل يساعد على خلق فضاء تتحرك فيه الشخصيات، وتعبر عن طبعها ومزاجها وأفكارها، ويكون المكان جزءاً من بنيتها الكلية؛ لذا تمكن زهران القاسمي من استخدام الوصف، وصف المكان ليرصد التشكلات النفسية التي تؤسس لمواقف صالح الشيخان :«رفع منظاره المقرب إلى عينيه، حرّك بإصبعه ضبط الرؤية، صوّبه على قمم الجبال، نظر ناحية قمة جبل عتاب، تلك القمة الأقرب إلى القرية. كانت الدرب التي تقود إلى وادي مقدسي واضحة، شجرة قطف تتمايل أغصانها مع الريح، المكان هادئ، ربما بعض من رشات الهواء الخفيفة، في هذا الوقت تبدأ الريح بترحالها على القمم. نظر ناحية الجبل الطايح، تحرّك قليلا، ثبّت نظره متأملا الشلال، أثر الماء والطحالب أعطى في البعد لونا داكنا للحجر. صار رأسه والمنظار المثبت على عينيه كأنه آلة واحدة تتحرك يمينا ويسارا الآن هو يبدو متسمرا باتجاه قمة أخرى”.
ومن خلال تلك اللغة التي حمّلها الكاتب بطاقات بلاغية ووصفية كبيرة ينهي الصراع الوجودي بين الوعل المعتد بذاته والإنسان الأكثر اعتدادا، لكن بسقوط أحدهما يسقط الآخر، سقوط الوعل فيزيائيا بمقتله، وسقوط صالح الشيخان معنويا :«تيس الوعل سقط، ومع سقوطه قام في داخلي عمود كبير من الفراغ، ونثر غباره في ذاتي، شعرت بذلك الثقل العجيب، الفراغ الذي سيفرّخ في القلب وسيكتسح كلّ الأشياء الجميلة». كما أجاد الكاتب توظيف الكرنفالية في تعدد الأصوات السردية من خلال تعدد الضمائر، ما بين الراوي كلي العلم الذي استخدمه وهو يصف جماليات المكان، وضمير الأنا بصوت السارد الرئيس، صوت صالح الشيخان، مما منح السرد حيوية ودهشة. ورغم أن الرواية لا تعالج قضايا كبرى أو تحولات كلية في حياة الجماعة الشعبية، إنما تمكن الكاتب فيها من أن يرصد التغيرات السوسيولوجية التي مرّت بهذه الشرائح المجتمعية التي كانت تعيش يوما على القنص والطرائد قبل أن تدخل الشكل الحداثي المدني، وقبل أن تُجرّم الدولة صيد الوعول الجبلية باعتبارها ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها حتى لا تفنى سلالتها.