جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

جمالية الأحلام والروائح في رواية «رؤيا العين» لـِ مصطفى موسى | د. علياء الداية

تتميز رواية «رؤيا العين» للروائي المصري مصطفى موسى(1) بالحضور الجمالي للروائح، وبمحورية الأحلام والرؤى في أحداثها. وتستند الرواية في ذلك إلى شخصيتها الرئيسية «عبلاء بنت العطار»، ولاسيما أن أحداثها تدور في مصر في العصر العباسي. إن شعبية المكان ظاهرة منذ السطور الأولى للرواية، وتحتفظ بخصوصيتها حتى النهاية، إذ يصمم قاطنو «درب العطار» على البقاء في حيهم الشعبي، ويرفضون مرتين على مدى بضع عشرات من السنين عروضاً سخية للانتقال إلى أحياء جديدة فخمة ترحب بهم. تمتد الرواية على مدى سنوات حياة بطلتها “عبلاء”، فتنطلق الأحداث من مسكنها مع زوجها مالك، لتسترجع بعضاً من طفولتها مع مالك وأخيه داوود، ثم تكمل الأحداث تتبُّع ما يجري في الدرب والمدينة من تقلبات وتغيرات، بين القحط والرخاء، والخوف والأمن، والحذر والاستكانة، أما استباق الأحداث فهو ما يتحقق بخصوصية شديدة لدى عبلاء من خلال الرؤى أو ما تسميه «سر الليل»(2).

إن للروائح دوراً جمالياً في إدراك الواقع، وفي تصنيف هذا الإدراك فـ«حاسة الشم خير عون للإنسان على اتخاذ القرارات السريعة. وعادة ما لا ينتظر الشم حكم قوانا العقلية التأملية الذكية، بل يتحول في التو إلى المراكز المخية التي تتحكم في السلوك. وغالباً ما ترتبط ردود الأفعال السلوكية تلك بمصالحنا الانفعالية»(3). أما الأحلام فهي وجه آخر من وجوه الواقع المعيش، فيها يجد الإنسان مسرحاً لمشاعره وانفعالاته، وبعداً آخر لأمنياته يدخل ضمنها الحدس بمسارات حياته، «إن الحلم الليلي، في أعماقه، هو معجزة أنطولوجية. ماذا يمكن أن تكون كينونة حالم يعتقد، في أعماق ليله، أنه يعيش أيضاً، أنه مازال كائن أشباه الأحياء؟»(4) والأحلام بما فيها من جمال أو قبح حاضنة للإمكانيات اللامتناهية للحياة، وهي مدخل لتحقيق التصورات وخروجها من وهم الخيال إلى حقيقة الواقع: «إن فهم الجمال هو عملية معرفية في طابعها»(5)، كما أنّ «للفن هدفاً مشتركاً بينه وبين العديد من تظاهرات الروح، يتمثل في مخاطبة الحواس وإيقاظ المشاعر وإثارتها. ولمزيد من الدقة، يضاف القول بأن الفن وُجِد كي يوقظ فينا شعور الجمال»(6).

1 جمالية الأحلام:

ترتبط أحلام شخصية المرأة عبلاء ارتباطاً وثيقاً بقيمة الأمان، فهي ذات طابع تحذيري، وبقدر خطورة الموقف القادم الذي تحذر منه الرؤيا، يكون تعب عبلاء وإحساسها بالإنهاك والألم، وتكون صعوبة خروجها إلى الواقع المباشر وفهم معطياته. والرواية تبرع في ترك الفرصة للمتلقي كي يعيش دهشة عبلاء، وغموض الحلم، فهو يُلمّح ولا يُصرّح، لغته الرموز، وعبلاء لا تلجأ إلى مُعبّر أو مُفسّر، بل تكتفي بالحدس، فتجاهد لتتجنب ما يوحي به الحلم، أو تنتظر وينتظر المتلقي معها ليرى ما سيحصل.

أ- الحلم واتخاذ القرار:

كان على عبلاء في مرات عدة اتخاذ قرار، مبني على ما أتاها من رؤيا، والدافع إلى ذلك هو الرغبة في أمان من تحب، أو في أمانها الشخصي وحرصها على الارتباط ببيتها وأهلها وجيرانها في المقام الأول. ففي الصفحات الأولى من الرواية تسير الأحداث في إطار من التشويق حين يخطط مالك للذهاب إلى الحج، مع زوجته عبلاء، وزوجته كوثر وابنيها إسماعيل وهارون، غير أن حدثاً آخر يغير هذه الخطط. فالرؤيا المفزعة العصية على التفسير التي رأتها عبلاء، تدفع بها إلى رفض السفر، وترجو مالكاً أن يعدل عن خطته! ثم تفلح أخيراً في استبقاء ولديه الأثيرين عندها، ليقضي مالك لاحقاً مع زوجته ضحايا لحوادث مؤسفة جرت في الحرم المكي في ذلك الموسم، «مالك وهو يرى حد السيف يهوي عليه، فتذكـّر عبلاء قبل أن يخبو ضوء عينيه قائلاً: صدقت يا عبلاء، صدقت يا بنت العم!»(7).

مصطفى موسى (صفحة الكاتب على فيسبوك)

ثمة رؤيا ثانية بقيت مجهولة، لأن عبلاء سقطت إثرها طريحة الفراش، ولكنها أدت بإسماعيل إلى اتخاذ قرار بإنقاذها، وتطلّب ذلك رحلة قاسية وشاقة قام بها إلى حيث دير بعيد لرهبان أشمين الذين قيل إنهم يملكون سر الشفاء. لقد فقدت عبلاء ابنها رضوان ولم تحتمل فكرة هربه بعد أن قتل نفساً، فكان لا بد من جهد جبار لإعادتها إلى الواقع: «كان صوت الرهبان يعلو حيناً إلى حد أن كل من في الدرب يسمعهم، ثم يخفت ثانية كأنهم يتهامسون، استمروا لساعات»(8).

وهناك حلمان أكثر وضوحاً مما سبق، الأول منهما تحذير لعبلاء من أن الطبيب ابن عبدون الذي جاء يطلب يدها ينوي السفر عائداً بها إلى بلاده «إن تركتِه هنا لن يطوله الحزن، سيرحل يا عبلاء»(9). والحلم الثاني قبيل وفاة عبلاء، كان نوعاً من الطمأنينة ودعوة لها إلى عالم آخر حيث سدرة المنتهى وهي ترتدي رداء أبيض، «سمعت صوتاً لم تألفه قائلاً: إنها سدرة المنتهى. فتحت عينيها حين خرجت شهقة قوية من صدرها، خشيت على من في الدار من سماعها. مذاق الشهد في فمها ورائحة المسك تراود أنفها»(10). لقد أخبرت عبلاء كل من حولها بأنها راحلة، وكأنها تطوي صفحة حياتها بما فيها وباتت راضية وآمنة بعد كل ما شهدته من فراق أحباب، وفرح بتحقيق الخير الذي رغبت به لأحباب آخرين.

ب- الحلم والحيرة:

تتسم معظم الأحلام المحيرة لدى عبلاء بالعنف والأهوال، مما يقلق راحتها ويشغل بالها طويلاً من دون تفسير، ولعلّ الرواية هي التي توضح للمتلقي محتوى الحلم بعد عشرات الصفحات، كما هي رؤيا عبلاء حيث رأت ما يشبه يوم القيامة والناس يحاولون أن يمسكوا كتبهم بيمينهم، من دون أن يستطيعوا ذلك، ومن بينهم هارون وإسماعيل ابنا زوجها مالك، وإلى جانب إسماعيل زوجته، وهو لم يكن قد تزوج بعد وقت الرؤيا: «فوجئت بما هو قاسٍ، تتحول زرقة السماء إلى اللون الرمادي، تخبط السحب الحبلى بالمطر بعضها ببعض، فتنطق بالرعد ويظهر الرعد، ثم تمطر وحْلاً عوضاً عن الماء. تنشقّ الأرض فتعلم عبلاء أنه يوم الحشر الأعظم»(11).

أما الحلم المزعج المحير الآخر فهو حلم إسماعيل، إنه يبدو كمن ينوب عن عبلاء في تلقّي الرؤيا، ويحصل ذلك لسبب يسوّغه السرد الروائي، فقد اقتيدت عبلاء إلى البيمارستان، بعد أن هامت على وجهها في شوارع المدينة عقب مقتل ابنها رضوان. وفي قاعتها الأثيرة في البيت يفتقدها إسماعيل وهو عاجز الحيلة عن إنقاذها، فيأتيه حلم غريب يعكس حالة التيه والحيرة التي تسكنه: «سقطت عبلاء فاقدة الوعي. فزع وهو يراها لأول مرة تتشنج، ثم يصيبها الرجفان، عزا الأمر إلى رؤياها التي تأتيها، كثيراً ما خشي عليها من أسرار الليل»(12).

2- جمالية الروائح:

تكتسب الروائح أهمية واضحة في رواية «رؤيا العين»، فبطلة الرواية هي ابنة عطار اشتهر في مدينته، وقد ورثت عنه خبرته في إعداد مختلف الخلطات بهدف العلاج وتَنْكِيه الطعام. إن هذين المحورين وثيقا الصلة بمفهوم الأمان، من ناحيتَي الأمان الصحي والأمان الغذائي المتعارف عليهما بمصطلحات اليوم، وعبلاء كانت مثلاً أعلى جمالياً وملجأ لسكان الدرب والمدينة لمد يد المساعدة للناس وإنقاذهم. فقد افتتحت الرواية بمشهد إنقاذ عبلاء ضرتها كوثر أثناء ولادتها ابنيها بواسطة مهارتها في مزج الأعشاب الشافية، وكانت عبلاء دائماً هي المرجع في مقادير التوابل والأعشاب الملائمة لكل نوع من الطعام المطهو، وعلى مدار الرواية تأثر بموهبتها كل من إسماعيل وخضر ابن أخيه هارون، ووردة. إن الألفاظ الدالة على الروائح ترد مرات عدة في الرواية، مقترنة بكل من العلاج والطعام.

أ- الروائح والعلاج والسلامة:

حين يقترن الحديث عن الروائح بالهدف العلاجي، فهو يؤدي وظيفة اجتماعية حيث تتوجب سرعة اتخاذ القرار، أو البراعة في تقديم ما يلزم كما هي الحال في دكان العطار. ففي البيت هناك حاجة عاجلة لإتاحة قيمة الجمال فتقوم عبلاء بإنقاذ أرواح قادمة إلى الحياة، «أشارت للقابلة أن تتبعها، تحمل في يدها قناني وأوعية وأخراجاً، فيها أعشاب وزيوت وسوائل نفاذة الرائحة. دلفت إلى الحجرة الدافئة بروائحها المختلطة القابضة، أمرت إحدى النساء أن تخفي المرآة المعلقة على الحائط برداء أسود»(13)، ومن هنا فإنّ «ثمة روابط بين الانفعالات وبين سائر أنواع الروائح. فالروائح يمكنها خفض التوتر والقلق، إجادة الأداء أو إساءته، تخفيف الآلام الناتجة عن الإصابات كما أنها تستخدم كوسائل مساعدة في العلاج النفسي… وبعض الحالات، كأنواع الرهاب والاكتئاب ومشكلات النوم وأنواع الإدمان يمكن علاجها إن استخدمنا بعض الروائح المعينة كجزء من العلاج.»(14).

أما دكان العطار فهو مكان أثير له قيمة جمالية حيث تاريخ عائلة عبلاء وذكرياتها في المكان الذي اكتسبت منه براعتها ونمت موهبتها في تعلم أسرار العلاج وتقديم العون للناس: «هَبّت نسمة عتيقة مختلطة الروائح، ملأت بها صدرها كما فعل إسماعيل. تتطلع إلى الأرفف المخفية خلف غبار منثور على بيوت العنكبوت»(15). ومن اللافت جداً حساسية عبلاء الشديدة، فهي تستشعر النفور تجاه قُرْص غريب عثرت عليه في أغراض ابنها الراحل، فيمتزج الحزن بالريبة والفضول: «يسرق بصرها ذلك القرص المستدير الصلب، قرص أخضر صغير كحبة الجوز، يجاور الدينار الغريب. قربته من أنفها فانزعجت من رائحته النفاذة، رائحة مُرة بخليط من الهيل والحناء وزيت الكافور»(16).

ب- الروائح والطعام والشراب:

طول حياة عبلاء كانت تجمع أهل الدرب على موائدها التي تجيد إعدادها، وتُوجه زوجتي هارون وإسماعيل لضبط مقادير التوابل، «لم ترجع الجارات إلى بيوتهن، بل تجمعن في صحن الدار يتناولن وليمة العروس، أعدتها فتيحة وعبلاء بتوابلها ووصفاتها، تفوح القدور برائحة اللحم المطبوخ بأعشاب تعرف سرَّها عبلاء»(17). ومن الروائح التي تترافق مع إحساس الدعة والهدوء والطمأنينة رائحة الورد التي يعبق بها درب العطار وتنشر الألفة فيما بينهم لتتكرر جلساتهم اليومية، «يجلسون أمام باب دار العطار، يتحدثون في ليالي الشتاء حول راكية النار، أو في أيام الصيف يشربون الماء البارد برائحة الورد وطعم العسل. تستمع إليهم النسوة المتحلقات حول عبلاء من خلف الباب»(18).

ج- الروائح والمكان:

تتنوع علاقة الروائح بالمكان، بحسب ما يحتويه من قيم الجمال والقبح أو الحيادية في مشاعر الشخصيات وإحساسها تجاه العالم الذي تعيش فيه، «فنحن نلتقط الروائح على أنحاء ثلاثة: موجبة وسالبة ومحايدة»(19). هكذا تتيح الرواية الفرصة لتلازم الرائحة بالأحداث الطارئة أو الاعتيادية المألوفة. ولعل من الروائح التي تدل على المكان وارتباطه بحالة شعورية من النفور والتهديد رائحة العطن في السجن، حيث يتم احتجاز الشيخ أبو بكر، من سكان درب العطار، والد زوجة هارون، فتختلط الرائحة بالعزلة والشيخوخة وقبح المكان والألم النفسي والجسدي لدى الشيخ «في زنزانة خانقة مظلمة، يفوح العطن من أركانها كان منكمشاً على نفسه، يستند إلى جدار لم تَتَبيّنه عيناه»(20).

ومن الأماكن المرتبطة بالبهجة السوق، حيث مضت عبلاء مع إسماعيل استعداداً لمناسبة تبعث على الفرح وهي طلب يد راجية ابنة الجعفري، «رائحة الفلفل والزهر والمسك والشيح تتداخل وتختلط مع أعشاب مجففة في أجولة أسفل أرفف تحمل أقداح سوائل وزيوت ودهانات… أدركت قربها من خان الصوَّاغين؛ فهم من يوقدون في المجامر بخوراً يفوح في الطرقات. يتجنبون الحسد ويُسْكِرون الناس فتصيبهم راحة»(21).

*

لقد تضافر مكونا الأحلام والروائح ليصوغا ذاكرة المكان الشعبي، ويقدماه كما يظهر من خلال محورية شخصية عبلاء، فهي من تحافظ على العادات والتقاليد، وتعمل جاهدة على رأب الصدع بين أبناء بيتها حيناً، وتحتفي بأفراح الأجيال المتلاحقة حيناً آخر. فكانت الرائحة من مدركات الحواس الخمس المباشرة، والرؤى والأحلام من مدركات ماوراء هذه الحواس، وامتدت الروائح لتصطبغ بمشاعر الناس ووقائع حياتهم جمالاً وقبحاً وفرحاً وحزناً وحيرة.

*

الهوامش:

1 ـ مصطفى موسى: كاتب مصري معاصر، حصل على ليسانس الحقوق عام 1999، ثم ماجستير في إدارة الأعمال عام 2008، يكتب المقال والقصة القصيرة والرواية، من رواياته: السنغالي (القائمة القصيرة في جائزة ساويرس 2016)، رؤيا العين، فدّان الجنّة.

2 ـ ينظر: رؤيا العين، مصطفى موسى، دار سرد ودار ممدوح عدوان، القاهرة، دمشق، ط1، 2018،: ص17، ص74، 118، 171

3 ـ الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة، بيت فرون، ترجمة: د.صديق محمد جوهر، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط1، 2010، ص335

4 ـ شاعرية أحلام اليقظة، غاستون باشلار، ترجمة: جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1991، ص130

5 ـ معنى الجمال، ولتر ستيس، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص51

6 ـ المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، هيغل، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1988، ص73

7 ـ رؤيا العين، ص22

8 ـ المصدر السابق، ص78

9 ـ  المصدر السابق، ص202

10 ـ  المصدر السابق، ص223

11 ـ المصدر السابق، ص50

12 ـ المصدر السابق، ص73- 74

13 ـ  المصدر السابق، ص8

14 ـ الرائحة، ص273

15 ـ  رؤيا العين، ص44

16 ـ  المصدر السابق، ص177- 178

17 ـ  المصدر السابق، ص58

18 ـ المصدر السابق، ص160

19 ـ الرائحة، ص218

20 ـ رؤيا العين، ص190 21 ـ المصدر السابق، ص88- 89

د. علياء الداية: أكاديمية وكاتبة قصة من سوريا | middle-east-online.com

خاص قناص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى