صدرت هذه الأيام وعلى هامش معرض الكتاب الدولي في مدينة غوادلاخارا المكسيكية، كتاب أنطلوجيا شعرية جديد عن الشعر العراقي المعاصر (1990 ـ 2020) انتخبها وترجمها وقدم لها بمقدمة وافية عن أثر الشعر العراقي في الوسط العربي والعالمي، أستاذ مادة الادب واللغة العربية في جامعة مدريد المركزية، الكاتب العراقي د. عبدالهادي سعدون. ومما يذكر أن هذه الأنطلوجيا التي جاءت بعنوان موحي هو (حقل معارك) في إشارة لقيمة وحال الشعر في أزمنة العراق المربكة في زمن الدكتوتورية حتى زمن الحكومات الضعيفة بعد الغزو الأمريكي وسقوط بغداد عام 2003. وهذه الأنطلوجيا تضم أغلب الشعراء الذي برزوا ما بعد جيل التسعينيات وحتى آخر الأصوات الجديدة الحالية بواقع 34 شاعراً ولدوا بعد عام 1950 ولكل شاعر نبذة مختصرة عن حياته مع منتخب لثلاث قصائد لكل شاعر، أي أن الكتاب بصفحاته الـ152 تضم أكثر من مائة قصيدة لأفضل ممثلي الشعر العراقي في الثلاثة عقود الأخيرة.
والمعروف عن المترجم الكاتب العراقي د. عبدالهادي سعدون انشغاله الأدبي بالرواية والقصة والشعر في كتاباته باللغة العربية والإسبانية، وكذلك ترجمة النتاج الأدبي الإسباني والأميركي لاتيني إلى اللغة العربية والتي فاقت الأربعين إصداراً حتى اليوم لأهم الأسماء مثل ثربانتس ولوركا وبورخيس، فهو من جانب آخر لا يغفل التعريف بالأدب العربي عامة والعربي على وجه الخصوص للقارئ الإسباني المختص والهاوي منهما، أي الترجمة من العربية إلى الإسبانية. وفي هذا المجال سبق وأن أصدر ثلاث أنطلوجيات عن الشعر العراقي المعاصر والتي أمتدت من شعراء ما بعد مدرسة الشعر الحر مثل سعدي يوسف وحتى آخر أسماء الأجيال الجديدة التي ظهرت بعد حرب الخليج الأولى مثل الراحلين محمد الحمراني وعبدالأمير جرص وغيرهما. وتلك الأنطلوجيات التي صدرت في الأعوام 2004 و 2006 و2009 جاءت بالعناوين التالية: لعنة كلكامش وعلى ضفاف دجلة وعراقيون غرباء آخرون.
أما الأنطلوجيا الجديدة (حقل معارك) التي أصدرتها دار النشر المختصة بالشعر العالمي (الحلقة الشعرية) التي يديرها الشاعران المكسيكيان علي كالديرو وماريو بوخوركيث، فقد ضمت مقدمة مطولة عن أثر الحياة والواقع العراقي على النتاج الشعري من مواضيع وظواهر ومحفزات مع الأإشارة إلى مفردات الموت والمنفى والحروب كمقابل للحياة والأمل والجنة الموعودة في ميزان المقاربات والتجاذب والصراع. والنماذج الشعرية لأسماء مثل هاتف جنابي وجمال جمعة وحسين علي يونس وزهير كريم ومحمد الأمين وغريب إسكندر وخالد كاكي والحمراني وباسم فرات ونجاة عبدالله وجمال الحلاق وكاظم خنجر وصفاء إسكندر وأحمد ضياء وصالح رحيم من بين أسماء أخرى عديدة شكلت وماتزال المشهد العراقي القوي والمتفرد والمتنوع بنتاجه وظواهره الأدبية.
نماذج شِعرية من الأنطلوجيا المترجمة
هاتف جنابي: تطريز الصمت
عوّدتُ نفسي ألا تُصدّق نفسَها
في الحلم ولا في اليقظة
أمس كنتُ أعْلكُ ما تبقّى من عشب الكلمات
حتى نسيتُ مذاقَ ما مضغتُ
وفي عجلٍ قد بلعتُ
لكنّ ما يرعبُ الأحياءَ
وما إليه يصفّقُ الأمواتُ
هو الهبوطُ لسهمِ الكلام
في مقبرة العدم
عوّدتُ نفسي
أنْ تسيرَ على حواف الطرقات
بين الشوكِ والهاوية
ثمة مَنْ يمشي على الماء والريح
دَوّنَني الوجهُ من هذا وذاك
ومازال يَنحتهُ الوقتُ وتحفره الكدمات
جبلٌ يعلو جبلا سفحٌ يتباهى بالنفس
نهرٌ يتلاشى في أعماق نهر
والصمت
هو العازفُ الأزليُّ الفريد.
***
منال الشيخ: اسمي
سمعتهم ينادون باسمي
قبل أن أُجيبهم،
تريثتُ قليلاً
وتساءلت:
للعالمِ بابٌ واحد
ووجهةٌ واحدة
إنْ أجبت،
هل سأعود؟!..
***
ميثم راضي: أنا من قريةٍ بعيدةٍ
أنا من قريةٍ بعيدةٍ …
كلَّما يموتُ واحدٌ فيها، تختفي كلمةٌ من أحاديثها للأبد
في البداية، اختفتْ الكلماتُ الجيدةُ …
مرَّةً .. ماتتْ طفلةٌ من الجفاف: فاختفتْ كلمةُ نهر
ولمَّا ماتتْ أمها من الحسرةِ عليها اختفتْ كلمةُ مطر
ومرَّةً ماتَ نازحٌ من البرد: فاختفتْ كلمة ُ نار
ومرَّةً ماتَ صغيرٌ من الجوع: فاختفتْ كلمةُ طعام
وماتَ شيخٌ كبيرٌ في وحدتِهِ: واختفتْ كلمةُ عائلة …
آخرُ كلمةٍ جيدةٍ بقيتْ عندنا كانت: الله
لكنها اختفتْ عندما سقَطَ أحدُ الأطفالِ في الشارع
جنازةٌ بعد أخرى: حتى اختفتْ الكلماتُ الجيدةُ كلَّها
وصِرنا نستخدمُ طرقاً معقَّدةً للكلام ..
سمعتُ أحدهم يصرخ: يا الطفل الذي ماتَ في الانفجار .. وكان يقصدُ: يا الله
ورأيتُهمْ في الدكاكين: يطلبون من الباعة صغيراً ماتَ من الجوع …
ويفهم الباعةُ أنهم يريدون طعاماً
وفي ليالي الشتاء نقولُ النازح الذي مات من البرد بدلَ مفردةِ نار
وهكذا …
لا يوجد في القرية الآن سوى الكلمات الرديئة والناس الذين لم يموتوا بعد
أنا ما زلتُ أعيشُ هناك
وكلُّ يومٍ أحاولُ النجاة: ككلمةٍ جيدة.
المعروف عن المترجم الكاتب العراقي د. عبدالهادي سعدون انشغاله الأدبي بالرواية والقصة والشعر في كتاباته باللغة العربية والإسبانية، وكذلك ترجمة النتاج الأدبي الإسباني والأميركي لاتيني إلى اللغة العربية.
الصورة: عبدالهادي سعدون | fb.com/abdulhadi.sadoun
عبدالهادي سعدون: ولد في بغداد عام 1968. مقيم في إسبانيا منذ عام 1993. كاتب وأكاديمي ومترجم. أستاذ مادة اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد المركزية. دكتوراه في الآداب والفلسفة من جامعة مدريد.
من بين كتبه الأدبية: اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر 1996، تأطير الضحك 1998، انتحالات عائلة 2002، عصفور الفم 2006، حقول الغريب 2010، مذكرات كلب عراقي 2012، توستالا 2014، تقرير عن السرقة 2020، و متنزه الحريم 2022. يضاف لها عشرات الإصدارات باللغة الإسبانية من شعر ورواية وترجمات وأعمال نقدية وأنطولوجيات عربية منتخبة. حاز عام 2009 على جائزة الإبداع الأدبي (جائزة أنطونيو ماتشادو العالمية في إسبانيا)، جائزة مدينة سلمنكا عام 2016 عن مجمل أعماله الأدبية، وجائزة صندوق الشعر العالمي في مدريد 2016. كما سبق وحاز على جائزتين عربيتين في قصة الأطفال ورواية الخيال العلمي.
كمترجم نقل من الإسبانية إلى العربية أكثر من ثلاثين كتاباً لأهم أداء إسبانيا وأميركا اللاتينية مثل ثربانتس، بورخس، أنطونيو ماتشادو، رامون خمينث، لوركا، ألبرتي وغيرهم.