مساراتملفات

سماء عيسى: لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر | حاوره: عماد الدين موسى

سماء عيسى قيثارة الشعر.. ملف خاص

حوار مع الشاعر سماء عيسى: لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر

يمكننا أن ننعت سماء عيسى، الشاعر العُماني البارز، بقيثارة الشِعر وكمنجته أيضاً، فهو الصوت الشِعريّ الأكثر فرادةً وذات خصوصيّة جليّة على الخارطة الشِعريّة العربيّة منذ عقود.

ضيفنا المولود في سلطنة عُمان- مسقط عام 1954م، أكمل تعليمه في دولة البحرين ثم واصل دراسته الجامعية وتخرج من جامعة القاهرة عام 1974م. أصدر مجموعة من الدواوين الشعرية والكتب السردية، نذكر منها: ماء لجسد الخرافة 1985، نذير بفجيعة ما 1987، مناحة على أرواح عابدات الفرفارة 1990، منفى سلالات الليل 1999، درب التبانة 2001، ولقد نظرتك هالة من نور2006، أبواب أغلقتها الريح، دار الفرقد للطباعة والنشر 2008، الجلاد 2010، دم العاشق 2011، “غنية حب إلى ليلى فخرو2012، الجبل البعيد 2013، شرفة على أرواح أمهاتنا 2014، صوت سمع في الرامة 2015، الأشجار لا تفارق مواطنها الأولى 2016، واستيقظي أيتها الحديقة 2018. كما اختارته إدارة معرض مسقط للكتاب في دورة العام الفائت 2022، بصفته الشخصية الثقافية.

هنا حوار مع سماء عيسى:

– نلاحظ أن «الشعر الكلاسيكي» يتجاوز العقلنة، فنرى صوراً ساحرة، ونسمع موسيقى ما تزال حية إلى الآن، برأيك هل حققت قصيدة النثر الراهنة، ما حققه الشعر سابقا؟

أعتقد أن المقارنة غير عادلة في التوهج والتأثير، حيث إن الشعر الكلاسيكي تجربة جذورها تعود إلى قرون بعيدة، وليس هناك منا من هو بعيد عن التأثر به وقراءة رموز تجاربه بين فترة وأخرى. يكفي قصيدة النثر الحضور الطليعي في الثقافة العربية، أنها ورغم حداثة حضورها الذي يمتد الى نصف قرن فقط، أو أكثر قليلاً، إلا أنها تستقبل مواهب الشعراء العرب القادمين بصدق ومحبة من أجل تطوير تجربة الشعر العربي الكلاسيكي، ووضع الشعر العربي في تواصل دائم مع التجارب الشعرية العالمية في تجددها، مع تجدد الحياة وتجدد الدماء البشرية في مجالات الإبداع الإنساني عامة. ودائماً يحدث تأثير التجارب الإبداعية الكبرى في التاريخ، عبر مسيرة إبداعية طويلة، أُنظر مثلاً إلى ريادة والت ويتمان لقصيدة النثر الأمريكية، منذ القرن الثامن عشر، وكيف أنها أعطت ثمار إبداعها في أجيال شعرية خلقت التحولات الكبرى في الشعر الأمريكي كجيل مدرسة البيت ستينيات القرن الماضي. فضلا عن أن التحولات الثقافية عموما لا تسير بمفردها، إنها ترتبط حتما بالتحولات السياسية والاجتماعية في المجتمع البشري، هكذا نقرأ الأرض الخراب وأربعاء الرماد لإليوت، التجربة الشعرية الإبداعية المنطلقة من جحيم الحروب العالمية في أوروبا وآثار دمارها الكبرى.

– قصيدة النثر لا تنغيم فيها، هناك صور حسيّة ذات معنى، كما في أغلب قصائدك، فصورك متهكمة وتستنكر ما تراه، وما تراه أنت هو كمن يرى في اللامرئي المرئي، تقدم فجائع، تعري الخيالي الذي بات واقعا، بصور رقيقة متوارية، تبين ولا تبين، ولكنها صور تتغير وتتنوع للكشف؟

من يقودك إلى اللامرئي، وهو لب التجربة وجوهرها، هو المرئي إياه، والوصول إلى اللب البعيد الغائر في الأعماق، يفشل التنغيم في ارتياد طرقه الوعرة، هنا يأتي دور الصورة الشعرية، التي حقا مثلما جاء في السؤال، تلعب دور الكشف عن البعيد اللامرئي، وهي أي الصورة التي تختار دلالاتها دون وعي منك، قد تأتي متهكمة، حسية، فجائعية، لا أحد يفرض عليها هذا التواشج مع نص هي خالقة إياه، هي عذوبته وجماله وسلاحه الأقوى في الوصول إلى الينابيع المجهولة للشعر. اللامرئي الذي كان قبل تواريه عبر الزمن والمكان، ابتسامة طفل أو ذبول وردة أو جمجمة محارب ذرفها موج البحر. ها نحن نعيد اكتشافه عبر الشعر، الشعر من يقودنا إلى غموض السحر.

– قصائدك حسية، والحس من صور، وفي صورك نرى فكرا، هل الفكر وهو كما يبين في قصائدك ثوري ومعتق، وهو ما يعطي للخيال عندك القوة؟

بالطبع لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر، بذلك يكتسب الخيال خصوصية قدرته على الخلق والإبداع، ليس بعيدا عن الواقع الذي جاء من ترابه، بل من أسرار خلقه وخبايا ألمه وأحلامه، التي لا يستطيع كشفها وتقديمها إلى لغة الشعر ورموزه وغرابة صوره، غير جناحي طائر الإبداع معا الخيال والفكر، دون شك مثلما جاء في السؤال، يكون الخيال محدود الأفق، محدود القدرة على التنبؤ، دون الفكر الثوري بالمعنى الثقافي وليس غير، ما يجعل الفكر العدمي والوجودي والميتافيزيقي مندرجا في فضائه الخلاق. والذي ألاحظه هو بداية كل شيء من ماديات الواقع وحسية كائناته، متجهة بالنص الإبداعي إلى ذرى الرمز والتجريد، هذا ما تضيفه قصيدة النثر إلينا، الحديث عما يعيش معنا وبنا، ممازحا ذلك بالفكر الذي يمنح الرؤى والطاقة للخيال.

– للخيال سلطة، خاصة في القصيد شعرا ونثرا، فهو من يحطم قيود الرق، ويذهب بك إلى سماوات الحماسة، فتتحقق بذلك النشوة الدرامية، أنا لمست مثل هذه النشوة في قصائدك، أ تقصد ذلك، أم أنها تجيء من حدسك المفعم حماسة للحرية؟

مع بدايات شغفي بالكتابة، كنت أسعى لأن أترك النص يخلق قوانين تشكله الخاصة، دون سيطرة مسبقة من وعي الشاعر ومما يحيط بالشاعر من سلطات متعددة، تعيق حرية تشكل النص وبلوغه ذرى رفيعة من الخيال الشعري الخلاق. ما زلت على ما كنت في بداياتي، أبعد أثناء الكتابة كل ما يقيد انطلاق النص، تاركا للخيال حرية تشكيله، لذلك تكون الدراما مثلما لاحظت أوج نص ما في حالات متعددة، حيث أن حرية الخيال تخلق صراعا متوهجا للأضداد، وبالتالي فإن ذلك يقود إلى حضور مباغت ومفاجئ للدراما في النص، لأن الأضداد في حضورها وصراعها وجدليتها، تقود النص إليها، بالطبع مثلما جاء في خاتمة سؤالك، الحماس لحرية الإبداع يضيء للشاعر الطرق المجهولة إلى حيث لا يدرك خاتمة النص وبدايته، بقاءه وزواله، الرحيل به إلى النار أو انطفائه مثلما هو مصير أي كائن وجد نفسه فجأة حيا أو ميتا، أو حيا وميتا في آن.

– حدس وهو يكتب حدوده، قصائده وبيديه قوس وسهم وقيثارة، فلا يعود للموت- وهو حاضر في قصائدك، أي سلطة على الحياة كما تذكر في قصيدة لك «وعندما توقفت أمواج البحر عن الغناء، وقفت الملائكة في ذهول تنصت إلى نداء الله، وقتها دخل العشاق الموتى إلى قلبي»، هو موت، ولكن لتغيب فيه الأنا في نشوة الانخطاف، فنعيش في صيرورة تزامنية الآن وغدا؟

في حالات كثيرة من سير كائنات الكون وتوهج علاقتها مع الطبيعة خاصة، يتراجع الحدس بالموت إلى ما هو أقوى في العطاء وأعمق في المحبة، أي إلى محبة الحياة وطلب خلودها، الأنا التي عليها التآلف أثناء انصاتها لصوت الله العذب، مانح الحياة وخالق ألفة المحبة بين كائناتها، الأنا التي تغيب أمام وهج النور الذي تخلقه في أرواحنا حضور الملائكة وعبور العشاق الموتى. الأنا التي لا تغدو أكثر من ذرة رمل في سديم الفضاء الغامض. حقا نحن جميعا أبناء صيرورة الحياة في مضيها عبر الزمن إلى المجهول. أعتقد أن هذا الحدس الشاعري الخلاق به غنى ما يبعدنا عن التشظي والتفتت أمام مشاعر الضياع الكوني والشعور المباغت بالعدم بين فينة وأخرى. ذلك ما أفضى شعراء كبار إلى العزلة في الأودية والجبال والصحراء، أبرزهم أخيرا الشاعر الأمريكي ستانلي ميرون الذي عاش حتى مماته بغابة منحازا للعناية بالأشجار والنباتات حماية لها من فؤوس البشر التي تهدف لمصالح تجارية بغيضة القضاء عليها نهائياً.

– هي روحانيات، في اتصال وانفصال، ودائما أنت في حالة عروج، معان، دلالات، إشارات ذات منشأ عقلاني، ولكنك تذهب بها من النوم إلى اليقظة، فتمزق حجاب الحس، هل من شدة الآلام التي تحدق بالإنسان؟

نعم كل ما يرتبط ببعضه ينفصل عن بعضه أيضا، كل ما هو نائم يستيقظ، كل ما هو مستيقظ ينتظره النوم، وصولا إلى كل ما هو حي سيموت حتما، وكل ما سيموت سيبعث حتما، خاصة الرؤى والأفكار الوثيقة الارتباط بالشعر، وما يحاول أن يفعله الشعر هو هذا التمزق الضروري لغلاف الحياة الخارجي، والرحيل بالشاعر والقارئ معا إلى جذر الفجيعة البشرية، التي هي ينابيع الحياة الأولى. دون شك ذلك ما هو محدق بنا دوما الليل والنهار، إلا أنه لامرئي لنا جميعا، وما يفعله الشعر فينا هو محاولة اليقظة والانصات لصوت النذير الدائم لما هو قادم من الألم مشبع بالمآسي، هل حقا يكون على الشعر الذهاب بالإنسانية إلى ما هو أبعد من ذلك، كلا ذلك يكفي، لأننا إذا ما أنصتنا للحجر وهو يتدحرج بأنين مخيف من قمم الجبال إلى الأودية، وذلك هو صوت الشعر وجوهره، نكون قد انتبهنا وأخذنا الحذر من كوارث قادمة اليوم، غدا، وحتى أفول الحياة بالكون.

– قصائدك في معظم أعمالك، التي بلغت حوالي ثمانية عشر مجموعة، تبدو مسكونا بالاغتراب، تحاول التخلص منه فلا ثبات، ونحو الانخطاف في الإشراق، أهي فلسفتك في مواجهة اللحظة المغلفة للوعي الإنساني، فيعي الإنسان حريته؟

حقا كل الشعراء وعلى امتداد العصور، أسرى الاغتراب المأساوي، عما يحيط بالبشرية من كراهية وأحقاد تصل الى القتل وسفك دماء الأبرياء، وكأن الإنسان منذ قدومه إلى الأرض، حاملا جينات قتل الإنسان والطير والحيوان، والخلاص من هذا الشعور إلى أي مدى يقدر الشعر على زواله! ذلك محال بالطبع، حتى والشاعر يحتمي بالإشراق، الإشراق الذي يفتح لك أبواب الشمس في حلكة ظلام الليل، حاملا الشاعر نحو تحقيق خلاصه بإعادة الحرية المفقودة إليه، أعي استحالة كل ما قادر على منحي شروق الحرية البعيدة، أعي نهاية رأسي المتدحرج المحمول على طبق من فضة إلى هيرودس، ذلك المصير هو ما ينتظرنا جميعا، الأرض تميل لا لتعانق البحر بل لتغرق في لججه العميقة، ويغدو ذات يوم كل شيء الإنسان وكل ما شيده نسيا منسيا. إنها الأنقاض إذن ما يحتفي بأطفالنا وليس رطب النخيل وينابيع الأودية ومرضعة الرسول في الصحراء العربية.

***

حوار مع الشاعر سماء عيسى: لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر؛ حاوره: عماد الدين موسى

الشاعر والأديب الكردي السوري عماد الدين موسى

حوار سماء عيسى

خاص قنّاص – ملفات

اقرأ أيضا في هذا الملف:

ملف خاص.. سماء عيسى قيثارة الشعر، وقراءة شعرية مصورة لقصيدة «سورية»

عوالم الانغلاق والانفتاح في سرديات سماء عيسى | د. عزيزة الطائي

سماء عيسى خارج التصنيف | د. فهد حسين

البحث عن طفولة العالم في ديوان «استيقظي أيتها الحديقة» | حامد بن عقيل

الحزن وإيقاع الشِّعر عند سماء عيسى | د. يوسف المعمري

البعد الجمالي في شعر سماء عيسى | هاشم الشامسي

قصائد جديدة لِـ سماء عيسى خصّ بها مجلة قناص

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى