عيسى الشيخ حسن خلق أسطورة عربية لها ملامحها الخاصة وبنيتها المخالفة للأسطورة التراجيدية اليونانية.
“يا صديقي
أيها الباحثُ مثلي عن إجابةْ
في الطريقِ؛
ضلّ أصحاب المغنّي
وانحنى ظهر الربابةْ”
واحدة من عبقرية الإحكام في بناء السرد في هذه الرواية تلك الإشارة للواقع المأساوي للسوريين ونزوحهم من أرضهم التي عمروها وكيف أجبروا على هجرة تاريخهم الطويل ما جاء على لسان الصوفي عند بناء الخربة: “مرّ رجل درويش، فآنس القوم في تعليلة، نصحهم ووعظهم من دون أن يجد أذنًا صاغية، وفي نوبة إحباطٍ شتمهم لأنّهم لم يعيروه جلّ اهتمامهم. في صباح اليوم التالي غادر الدرويش. قال لهم وهو واقفٌ:
– يا أهل الخربة، لا تحسّْبون انكم ملكتوها، الـ گبلكم، هذولَ همّ .. شايفين؟ (وأشار بيده إلى تلّة صغيرة.. طلل قديم يكاد يتساوى بالأرض).
وحين ابتعد، التفت وصاح بصوت عالٍ:
– يا شيخ أحمد، هذ خربة، الـ عمّروها .. راحـ(ـم)، وانتم راح تعمرونها، وراح تروحون. ص 29،. : “وما جاء على لسان حسنة وهي تقرأ القرءان ودعت وهي تتمّ الآيات الأخيرة من الجزء: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” أن ينساها ياسين، وأن يسامح أمّها التي طعنت كرامته بكلمات مسمومة. ص 259. قد يكون هذا هو هدف الرواية عند الشاعر والروائي عيسى الشيخ حسن، على مستوى الشعور. ولذا وجدناه يؤكد على أزمة الشباب في مطلع الثمانينيات والهجرة من أجل العيش: “كان الشرق في مطلع الثمانينات تلك، يتعرّض لموجاتٍ من الاحتجاجات الشعبية، والحروب الأهلية، والحروب بين الدول، ثمّ جاءت موجة قحط بليدة، ظلّت سنين طويلة، وعرفت الدروبُ إلى دمشق شبابًا في عمر الورد، هجروا الأرض ومقاعد الدراسة نحو بيروت أو عمّان أو حتّى السعوديّة للعمل، وهاجرت شرائح جديدة نحو المدن. ص 71. وعلاقة ذلك بالحرب العراقية الايرانية وربطها ببداية هجرة عائلة الفواز من موطنها الأصلي ومجيئها الى الخربة: “وجلس الضيوف والمعازيب معًا يشربون الشاي، وجهّز ابن منصور تلفزيون السيرونيكس الكبير، ليتابعوا مسلسلًا بدويًّا “متعب الشگاوي” في محطة التلفزيون العراقية، ولكنّ بيانًا عسكريًّا، فاجأ الجميع، يتحدّث عن بدء الحرب العراقية الإيرانية.ص 40، و: “كان التلفزيون العراقي يعرض بياناته العسكرية، جانب الأغاني، والـ”هوسات” والموسيقا التي تجذب المستمعين، وقد استأثرت كلمات الأغاني بحديث الأطفال الصغار، بعدما انتشرت مقدّمات الهوسات العراقية، فيصرخ طفل “ها اخوتي ها” فيردّ عليه زملاؤه “ها ها ها”. ص 49.، – الله يستر يا محسن. هذي الحرب ما راح تخلّي وراها حطب. ص 50.
ولكن على مستوى اللاشعور كتب لنا درساً أكاديمياً أنثروبولوجياً اجتماعياً وثقافياً ولغوياً بامتياز. مثل عادات المأكل والمشرب: “كانت أمّ ياسين قد اقترحت أن تطبخ لضيوفها “الكبّة” ولكنّ الحاج استبعد هذه الفكرة، فالكبّة لا يمكن أن تكون طعامًا رسميًّا يدعى إليه ضيف من وجهاء قبيلة أخرى، ويعدّ “ضيف” القبيلة كلّها، وليس ضيف الشيخ أحمد فحسب، ولهذا طلب منهم أن يذبحوا نعجتين من الأغنام الحيل التي لم تحمل هذا العام، وأن يصنعوا ثريدًا، حتى إنّ العجوز طلبت منهم أن يقدّموا الرزّ بدل الثريد، ولكنّ الحاجّ أبى. ولكن كيف تحتال لتشعر ضيوفها أنّهم متحضّرون؟ وفكّرت العجوز أن تضع “شجيج الباميا” أو “حبّ الفاصوليا” ولكنّ الحاجّ رفض، لاعتبارات قبلية، فأي تعديل في وليمة الثريد، سينال من قيمته القبليّة، الثريد الذي عهدوه منذ سنين بعيدة، بل منذ قرون. ص 67. ، وأنواع الطعام مثل المجدرة والكشك وشجيج الباميا والثريد واللحم والعدس وشرب الشاي بكثرة …الخ. و: “وتوجّه الجميع إلى الأوضة، ومُدّت أمامهم صحون واسعة مغطّاة بالخبز الفائض عن أطرافها، وقد توسّطه لحمٌ وافر. ذبح الشيخ أربع نعجات حيل، وأضاف إليها منصور ثنيّة سمينة. خبزت النساء عشر عجنات، تسابق الشباب في سلخ جلود الذبائح، وألبس الفائزون المهزومين الجلود المسلوخة بمرحٍ ظاهر، وقف إسماعيل الحسّون فوق القدور، موجّهًا تعليماته إلى كتيبة الطبخ الصغيرة بزيادة الحطب، أو المجيء بالملح، أو برمي القدر عن الأثافيّ. لا يرغب الشيخ أحمد في الولائم الرسميّة أن يقدّم الرزّ، ويرى أن وليمة الثريد هي الأفضل”، ص 39.
عيسى الشيخ حسن في نصه الروائي مليء بالدلالات النفسية العميقة سواء كتعبير عن تماهي المبدع مع قضايا نصه الروائي وأزمة غربته وانشغاله بهويته الذاتية وهوية قومه عن الوطن أو الشخصيات الموجودة في الرواية أو ازاحة الهوية الذاتية للبحث عن هوية القبيلة أو الدلالات النفسية للغة الشعرية حيناً واللغة المحلية حيناً آخر.
الصورة: orient.net
ولكن على مستوى اللاشعور كتب لنا درساً أكاديمياً أنثروبولوجياً اجتماعياً وثقافياً ولغوياً بامتياز. مثل عادات المأكل والمشرب: “كانت أمّ ياسين قد اقترحت أن تطبخ لضيوفها “الكبّة” ولكنّ الحاج استبعد هذه الفكرة، فالكبّة لا يمكن أن تكون طعامًا رسميًّا يدعى إليه ضيف من وجهاء قبيلة أخرى، ويعدّ “ضيف” القبيلة كلّها، وليس ضيف الشيخ أحمد فحسب، ولهذا طلب منهم أن يذبحوا نعجتين من الأغنام الحيل التي لم تحمل هذا العام، وأن يصنعوا ثريدًا، حتى إنّ العجوز طلبت منهم أن يقدّموا الرزّ بدل الثريد، ولكنّ الحاجّ أبى. ولكن كيف تحتال لتشعر ضيوفها أنّهم متحضّرون؟ وفكّرت العجوز أن تضع “شجيج الباميا” أو “حبّ الفاصوليا” ولكنّ الحاجّ رفض، لاعتبارات قبلية، فأي تعديل في وليمة الثريد، سينال من قيمته القبليّة، الثريد الذي عهدوه منذ سنين بعيدة، بل منذ قرون. ص 67. ، وأنواع الطعام مثل المجدرة والكشك وشجيج الباميا والثريد واللحم والعدس وشرب الشاي بكثرة …الخ. و:” وتوجّه الجميع إلى الأوضة، ومُدّت أمامهم صحون واسعة مغطّاة بالخبز الفائض عن أطرافها، وقد توسّطه لحمٌ وافر. ذبح الشيخ أربع نعجات حيل، وأضاف إليها منصور ثنيّة سمينة. خبزت النساء عشر عجنات، تسابق الشباب في سلخ جلود الذبائح، وألبس الفائزون المهزومين الجلود المسلوخة بمرحٍ ظاهر، وقف إسماعيل الحسّون فوق القدور، موجّهًا تعليماته إلى كتيبة الطبخ الصغيرة بزيادة الحطب، أو المجيء بالملح، أو برمي القدر عن الأثافيّ. لا يرغب الشيخ أحمد في الولائم الرسميّة أن يقدّم الرزّ، ويرى أن وليمة الثريد هي الأفضل”، ص 39.
على مستوى اللاشعور كتب لنا الروائي درساً أكاديمياً أنثروبولوجياً اجتماعياً وثقافياً ولغوياً بامتياز.
ولذا لن أقف من عيسى الشيخ حسن ولا من “خربة الشيخ أحمد” موقف الناقد التحليلي النفسي بالرغم من امتلاء النص الروائي بالدلالات النفسية العميقة سواء كتعبير عن تماهي المبدع مع قضايا نصه الروائي وأزمة غربته وانشغاله بهويته الذاتية وهوية قومه عن الوطن أو الشخصيات الموجودة في الرواية أو ازاحة الهوية الذاتية للبحث عن هوية القبيلة أو الدلالات النفسية للغة الشعرية حيناً واللغة المحلية حيناً آخر وكلها قضايا مهمة مثل تأكيده على أصول الخربة: “ولم يكن أهل الصفرة غريبين عن خربة الشيخ، فهم أقارب من أرومةٍ واحدة، انحشرت مصائرهم في قريتين متجاورتين، كما كانت أيّام الترحال البعيدة. أيام غابرة لم تحصها وثائق مكتوبة، ولكنّها ظلّت مدوّنة في قصائد و”سوالف” أشبه بالأساطير. قبائل ضربت في الشرق والغرب، تجمّعت بعد “خراب البصرة” وطاعون المغول، عمّرت الجزيرة والشاميّة والموصل وحمص وحماة، وصلوا الرها، بين جرحين أبديين وسمتهما الجغرافيا، ظلّا يدرّان ماءً عذبًا “دِجلةْ والفْراه”. وحين تغوّل المحل بسنواته العجاف ربّعوا في سهول الروج وعند بحيرة العمق، وتتابعت قوافلهم من نجد. منهم من ينتسب إلى قحطان وإلى عمرو بن معدي كرب، ومنهم من ينتسب إلى عدنان، وإلى السلالة النبوية الشريفة. يسمّيهم أهل المدن “الشوايا” لأنهم بقايا تلك القبائل الناجية من مذابح هولاكو وتيمور لنك، ومنهم من يسميهم العربان، ولم تبق من كلّ هذا غير سُمرةٍ حلوة، ولغةٍ أضمرت في كلماتها مفردات “الأولين”، ص30. وكذلك فعل في بحث ياسين عن أصوله وذكر جدوده حتى الجد العاشر. ولكنها ليست من أهداف الدراسة الحالية، ذلك أني مثل النص الأدبي الذي يتدخل فيه المحلل أو القارئ فقد كنت شاهداً وعالما ببواطن بعض حوادث الرواية فعلاقتي كآخر موجودة مع علاقتي بأنا المؤلف – عيسى – وأول شيء في الإحساس بأن الوجود البسيط لهذا الآخر يجلب إلى مناقشة المريض النفسي ما يسميه جاك لاكان “طرف الحوار” فالنصوص دائماً سواء كانت ضمنياً أو بوضوح تُعَنوَن إلى شخص ما، فالأنا الذي يتكلم في نص أغنية في أي وقت يفترض “أنت“ وحقا كما أوضح إيميل بينفينيست “الأنا والأنت” من الناحية اللغوية يعتمد كلا الدليلين بدون إفادة ومع الإشارات التي تتغير باستمرار كما يفترض كل متكلم بدوره / الأنا / بخصوص المتحدث والذى من / الأنا تصبح الأنت. هذا الوضع يمتزج بالإثارة كثيراً فى النصوص القصصية. فيما نطلق عليه “حكايات مشكلة” التى تنظم وجود المستمع أو المحكي له، حيث تكون ردود فعله لما أخبر غالباً ما تكون أكثر أهمية في الرواية – كما فى حالة ساراساين فيما كتبه بلزاك وأصبحت مرحلة كلاسيكية منذ أن جعلها رولاند بارثيس نموذجاً لأعمال العقد القصصى. أو كما فى فرانكنشتاين كما يقول ذلك مارى شيلى. حيث يكون كل مستمع للروايات المغمورة مفترضاً أن يتصرف على ما هو قد أخبر به فى الحالات الأخرى. الوجود البسيط المُحكى له، حتى عندما يكون صامتا، يحول حديثاً لراوٍ إلى محادثة. كما أوضح ميخائيل باختين بدقة فى حالة حوارات ديستيوفسكي.
فمن المعروف يقينا أن النقد التحليلي النفسي بدأ على الأقل منذ عام 1908 عندما نشر فرويد مقالته عن الشعراء وأحلام اليقظة، ولو أن المشروع قد جدد في الطرق الدقيقة حدياً بروايات ما بعد البنيوية، ويستمر التراخي بالرغم من الوعود القائمة حول اتحاد كل من الأدب والتحليل النفسي. وربما تكون المشكلة الأولى والأكثر جوهرية هي أن التحليل النفسي للأدب قد أخطأ مراراً وتكراراً في هدف التحليل لذلك كان الاستبصار يخبرنا بالقليل جدا عن البنيوية وبلاغة النصوص الأدبية.
من المعروف أن النقد التحليلي النفسي بدأ على الأقل منذ عام 1908 عندما نشر فرويد مقالته عن الشعراء وأحلام اليقظة، وربما تكون المشكلة الأكثر جوهرية هي أن التحليل النفسي للأدب قد أخطأ مراراً وتكراراً في هدف التحليل لذلك كان الاستبصار يخبرنا بالقليل جدا عن البنيوية وبلاغة النصوص الأدبية.
يظهر – لنا – النقد التحليلي النفسي التقليدي ينحصر في ثلاث فئات عامة تعتمد على الهدف من التحليل وهي “المؤلف أو القارئ أو الأشخاص الموجودين في النص الأدبي – الأبطال -، على اعتبار أن ذلك الهدف كان الاهتمام الرئيسي في التحليل النفسي الكلاسيكي ويبدو حالياً أنه الأكثر مخالفة للحقيقة ومع ذلك فربما كان الأصعب في تجاوزه، ليجيء بعد ذلك ما يدعى بإلحاح منقطع النظير ألا وهو إعلان موت المؤلف، وستظهر المسوخ المؤلّفة بلا توقف، كما في الأعمال السيكولوجية لهارولد بلوم حول تاريخ الأدب. ولقد مثَّل المؤلف والأبطال في النص الأدبي التي تم تحليلها إلى تأثير نصوص ثابتة وكأنها قوانين نصية، نوع من السراب الموضوعي والدراسة التحليلية للاشعور والأبطال قد سقط في فقدان السمعة الطيبة أيضاً والمجال التقليدي الثالث للدراسة التحليلية النفسية للأدب هو “القارئ”، ويستمر هذا المجال في الازدهار في الكتابات الجديدة منذ أن قام القارئ في إبداع المعنى الجديد للنص، ومنذ أن كانت الدراسة التحليلية النفسية لردود فعل القارئ اختيارياً تصنف ضمن المفهوم الصعب للمؤلف من أجل مفهوم القارئ المقبول وأيضاً الممكن التحقق منه. كما اهتم هولاند بالدراسة التحليلية النفسية للكتاب المبدعين والقارئ كإنسان سيكولوجي، لكن مثل الطرق التحليلية النفسية التقليدية الأخرى، إنه يزيح هدف التحليل من النص إلى شخص ما، والبناء السيكودينامي، وهذه إزاحة أتمنى تجنبها – كما آمل التوضيح بينما أذهب إلى الأمام – أعتقد أن النقد التحليلي النفسي يستطيع ويجب أن يكون في آن “نصي وبلاغي”.
ودراستنا هنا تعنى بالأبعاد الانثروبولوجية داخل الرواية ويمكن تقسيم الانثروبولوجيا إلى قسمين رئيسيين هما: الانثروبولوجيا البيولووجية والانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية التي تهتم بدراسة المجتمعات والثقافات الكثيرة المتنوعة التي تعيش في عالنا المعاصر حيث الاهتمام بأساليب الحياة مثل؛ كيف يُنَّشأ الأفراد على الحياة في مجتمعاتهم وكيف يختار الانسان رفيقه في الحياة الزوجية وكيف يتزوج وكيف يعيش وكيف ينظم علاقاته مع من يعيش معهم من بني جنسه سواء من أبناء نفس مجتمعه أو من أبناء المجتمعات الأخرى؟ هذه اسئلة تعني بها الانثروبولوجية الاجتماعية والثقافية وهي عينها موجودة في الرواية وناقشتها الرواية بأدق تفاصيلها حتى أن الرواية تصلح كدرس اكاديمي انثروبولوجي عربي يكشف عن حياة مجموعة من البشر تسكن منطقة أقصى الشمال الشرقي من سوريا وهي منطقة حدودية بين تركيا والعراق وسوريا تتعدد فيها الاعراق ما بين العرب والاكراد والاتراك وتتعدد اللغات ما بين العربية والكردية والسوريانية ولهذا كان الاندماج الثقافي ضروري لهذه المنطقة وكانت أزمة الهوية مطروحة على الدوام لمثل هذه المناطق الحدودية وهذا ناقشته الرواية بعمق من خلال بحث ياسين عن جذور أبيه وعائلته وكذلك بحث عن عيسى الشيخ حسن عن هوية القبيلة ليقول:”- العرب كلّها عمام يا ابن اخوي.” ص 295. ، و”يتبادلان العتاب القديم، وصور القبيلة الآتية من الجنوب، ويتذكّران وقائع حروب قبلية لم تهملها قصائد الشعر، ولا أسماء الأماكن التي أطلقت على التلال والأودية. ص 137، كدلالة على انتماء المنطقة لأصول عربية قادمة من الجنوب جزيرة العرب أو العراق . ولم ينس المؤلف أن تكون هناك شخصيات من أصول كردية داخل الرواية وهناك من يتكلم أكثر من لغة بل يتكلم كل لغات المنطقة تقريبا.
رواية “خربة الشيخ أحمد” بأدق تفاصيلها تصلح كدرس أكاديمي انثروبولوجي عربي يكشف عن حياة مجموعة من البشر.
كما تهتم الانثروبولوجية الثقافية بدراسة المجتمعات القروية المعاصرة والمجتمعات الحضرية أيضا وتعد اللغويات الانثروولوجية الاجتماعية و الثقافية أحد ميادين الدراسة الهامة حالياً وتهتم بدراسة اللغويات المنطوقة أو اللغات الغريبة وعلاقتها بالتنظيم الاجتماعي والدور الذي تلعبه اللغة في المجتمع في علاقتها بالبيئة الاجتماعية والثافية التي تحتضنها.
واللغة في هذه الرواية تتعدد مستوياتها ما بين فقرات استهلالية في بداية كل فصل وهي على هيئة مثل شعبي قديم أو بيت من الشعر أو حكمة قديمة وهي معبرة عن مضمون الفصل ومحتواها ، من أمثلة “چنّا رفاگة وربع* والعشب طالع زين” “يا رايحين لحلب* ولفي معاكم راح””البارحة عندهم* واليوم كيف أمسيت؟””كــرج الحمامة* لي أگبل المربوع انْ ما انطمْ عمامة* لازم حدانا يموت”،”وناي الـ چتلني وناي الـ غيّر ألواني وناي لفراگ الولف بالظنّ خلّاني”. “چنّا رفاگة وربع* والعشب طالع زين سرحان لمّا حصد* طرد دواب حسين”.
بالاضافة لوجود كثير من الكلمات الكردية بل هناك نص شعري كردي كانت ترجمته “إنّ صوت المطرب مع الأوتار وغناء الطيور قد علا وارتفع حتى وصل إلى أعالي السماء، فتعال أيها الساقي واسقنا من خمرك الأبدي وأحْيِ قلوبنا الميتة بالعشق الرباني، فإلى متى لا نغسل هذه القلوب من الصدأ فلا بدّ من مناداة الساقي بأن يناولنا كأسا من ذاك الشراب”. ص 138. كما عرض المؤلف لواحدة من اللطائف اللغوية حين ذكر الراوي :” فهزّ رأسه وهو يقرأ وردّاً لطيف الكلمات، يختمه بآياتٍ من آل عمران جهر بأوّلها: “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ..” وخفت الصوت قليلًا: “وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ”. فوقف فوق الطاء، ولم يساعفه الهمس في أن يقلقل الطاء، ولم يتأسّف لذلك مثلما كان يصوّب للفتيان، بل راح يقرأ سرًّا بقيّة الآية. ص 135.
جاء في الرواية نص شعري كردي كانت ترجمته “إنّ صوت المطرب مع الأوتار وغناء الطيور قد علا وارتفع حتى وصل إلى أعالي السماء، فتعال أيها الساقي واسقنا من خمرك الأبدي وأحْيِ قلوبنا الميتة بالعشق الرباني، فإلى متى لا نغسل هذه القلوب من الصدأ فلا بدّ من مناداة الساقي بأن يناولنا كأسا من ذاك الشراب”.
وتناولت الرواية المشكلات الاجتماعية الثقافية مثل مشكلة الثأر مثلما حدث لعائلة ياسين وعائلة حسنة الفواز وقانون الاجلاء عن المنطقة تلك العادة القديمة عربياً منذ أيام حرب البسوس وتغريب أو اجلاء قبيلة القاتل وما تزال هذه العادة معمول بها في كل المناطق الريفية بالعامل العربي ومنها مصر بالطبع: “بقي رجال الشرطة يومين يحرسون العائلة الموتورة، وقد اختُصرت الخصومة في العائلة وحدها، ولم يقبلوا إلّا بجلائهم عن الديرة، وها هم يبحثون عن ملاذٍ لهم، في مكانٍ بعيدٍ، آمن، بعدما خرجوا من القرية وباتوا أيّامًا في دير الزور في حارةٍ أقارب لهم، لم تمنع عنهم الخوف من أخذ الثأر”. ص 37.
وذكرت الرواية ملابس المرأة: “خطّطت أن تلبس “صايتها” الشيفون، “المدرّبة” بدربين ذهبيين فوق الردنين، وتلبس درّاعتها السوداء”، ص 91. ، :”وتحيّرت الفتاة ماذا تلبس، صحيح أنّها غادرت قريتها البعيدة في حالةٍ طارئة، ولكنّها جلبت معها صرّة ثيابها، أثواب الحرير والجورسين والكودلي، والعباءة المقصّبة، والدرّاعة المبطّنة بالجوخ الخفيف، وكنزات الصوف، والصاية الشيفون بدربين ذهبيين على الأردان، وفكّرت أن تتزيّن، ولكنها طردت الفكرة فورًا؛ فأخوها نزيل السجن، والعائلة قلقة عليه، ثمّ إنّها لا تريد أن تكون “رخيوة رسن” وحين فاجأتها هذه العبارة انتفضت فجأة، واختارت ثوب الجورسين الأسود، ولبست فوقه الدرّاعة، واختارت ملفعها الأسود المؤطّر بخيوط فضيّة، وزانتها أمّها بعينين قلقتين، وهزّت رأسها موافقة”. ص 65.
وكيفية إعداد المرأة للخبز: “وانصرفت صبحة العايد تحمل كرات العجين الملكوكة بالطحين، ومن تحتها الثِّفال، وتبعتها ابنتها الصغيرة بالغطاوة الخشبية. وهناك، وأمام الحوش، أكبّت بالصاج فوق ثلاث حجرات سوّدَها السخام، وكسرت بضعة أعواد حطب، ثمّ وضعتها تحت الصاج وأضرمت الحطب. ثمّ كشفت عن كرات العجين المفلطحة، ومدّت أمامها غطاوة الخشب القديمة، وأخذت كرة العجين الأولى، وطبطبتها فتمدّدت الكرة وصارت قرصًا في مساحة رغيف الطابونة الذي يأتيهم من المدينة أحيانًا، ثمّ وضعت القرص بين يديها، وبحركة غريبة أعجبت البنت ذات التاسعة، كانت المرأة “تلوف” العجينة المدوّرة، وتنقّلها بين ذراعيها بحركة شبه دائرة، حتى قاربت مساحته مساحة الصاج، فهدأ الرغيف الطائر، وحطّ فوق الصاج، والأمّ مهتمّة، عابسة، تنظر إلى الغيم، وحانت منها التفاتة إلى الصغيرة، وهي تقلّد حركة يديها في مطّ الرغيف.
– شـ جاعد تسوّين ولي، تعالي وزّي لي.
فتراجعت البنت قليلًا، جاءت بأعواد حطب، عانت في كسرها ورميها في الثغرة الصغيرة، التي ارتفع فيها الصاج فوق الأثافي، وجلست تراقب أمّها، وقد اعتدل مزاجها، وهي تخبز رغيفًا بعد رغيف، وترميه فوق الثفال، وقد سرّتهما رائحة الخبز الناضج، ومرأى الأرغفة وقد ملأتها هالات سوداء وشقراء، ص 75.
ومشكلة الطلاق وكيفية تربية الأبناء كما حالة صديق ياسين وكيف يتزوج الناس في هذه المنطقة وكيف يقيمون الأعراس ويتفقون على المهر والخطبة وغير ذلك وهذا مشهد خطبة ياسين لحسنة: “-والنعم من ياسين، ومن تربيتك يا حجّ.. آني أگول أنت أبوها وانت أبو ياسين، أنت فصّل واحنا نلبس”.
– ما دامك گلت.. راح أعيل على ياسين.
– يا حجّي احنا سياگنا 150 ألف، وكرامة لحسنة، أني من عندي زود عشرة. صار 160.
– بس يا حجّي..
– واني من عندي عشرة قال الحاج عبّود.
– وأنا من عندي خمسي. قال إسماعيل القدّور.
– وإلها عندي خاتم وساعة. قال عادل البيطار.
– والبدلة عليّ. قال إسماعيل القدور.
– يا بو عاصي.. سياگ البنت مية وخمسا وسبعين.. ان شالله تحطّ فوگهن مليون، انشالله تجينا بهدومها اللابستهنّ.
– توكلنا على الله.. اگروا الفاتحة.
وهنالك عادات وتقاليد القبيلة والعشيرة بل وحياتهم اليومية وطقوسهم المعتادة من مأكل ومشرب وملبس سواء للرجال أو للنساء وكيفية ممارسة أعيادهم في بعديها الديني والاجتماعي: ” كبّر الملّا سعيد، والشاب الصغير ابن العلّاص، وكبّر شباب بخجل، وكبّر أطفال بحماسة، والملّا سعيد يحفّزهم، ناقلًا “المايكروفون” بين الأفواه، مسترسلًا “الله أكبر الله أكبر الله أكبر” ثمّ يأخذ نفسًا، ويكبّر بطبقة مختلفة، وكأنّها طبقة القرار الهادئة الحنونة، تقابل طبقة الجواب الحماسية العالية: “لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد”. وأعاد “الملّا الزغير” ابن العلّاص التكبيرات، وجذب ألباب المصلّين، وأيقظ البقية الباقية في أرواحهم من النوم، وأجهش بعض الشيّاب وكأنّ صوته الحزين قد أيقظ المواجع التي تنبت عادةً في الأعياد. وامتلأ المسجد الصغير، وظهر قرص الشمس، فقام الملّا للصلاة، وقام الجمع الغفير من أهل الصفرة، وبعض أهل الخربة، وبعض عائلات “الغنّامة” الذين يأتون الديار بعد الحصاد. مدّ الشباب حصائر خارج المسجد استعاروها من الجيران، فصلّى الملّا وكبّر سبع تكبيرات قبل أن يقرأ الفاتحة، ثم كبّر خمسًا في الركعة الثانية، وبعدما سلّم ناشد الحاضرين أن يسمعوا الخطبة، غير أنّ كثيرًا منهم انسلّ خارج المسجد. ص 291.
“كبّر الملّا سعيد، والشاب الصغير ابن العلّاص، وكبّر شباب بخجل، وكبّر أطفال بحماسة، والملّا سعيد يحفّزهم، ناقلًا “المايكروفون” بين الأفواه، مسترسلًا “الله أكبر الله أكبر الله أكبر” ثمّ يأخذ نفسًا، ويكبّر بطبقة مختلفة، وكأنّها طبقة القرار الهادئة الحنونة، تقابل طبقة الجواب الحماسية العالية: “لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد”.
ويظهر لي بوضوح أن النص الروائي الحالي “خربة الشيخ أحمد” لعيسى الشيخ الذي آثرت ألا أكون محللاً نفسياً فتداخل عمل المحلل النفسي مع القارئ والناقد فكان هذا النص مفعم بتجربة استحداث نمط اسطوري عربي يقف على النقيض من النمط الأسطوري التراجديي اليوناني حيث البطل يكتشف من خلال سعيه لمعرفة جذوره أنه وقع في الفناء والدمار مثلما كان مع أوديب، ولكن ياسين هذا النمط العربي الذي سعى للكشف عن جذوره وجد كل الخير حيث الثراء والأملاك والنفوذ والتاريخ العريق للعائلة بل كان الوعد حين يبحث عن “قرعة أبية” بوجود الهناء والسرور ولعل هذا هو فعل الشعور لدى مؤلفنا الحالي. ولكني أتصور النص كما يجب أن يكون يسمح لنا ويساعدنا الطرح على أن نعمل خلال ذلك المثار الجدلي في وضع المتكلم أو حكاية الراوي، فالطرح والتفسير متكاملان في الحقيقة ولا يمكن أن نخصص أولوية واحد على الآخر. ولو أنه من الواضح أن الطرح يستدعي التفسير، وأقترح أن يحدث في عملية القراءة والتفسير مناقشة الأدوار الملعوبة من قبل المؤلف والقارئ والمحلل في خلق قصة الحياة ومعناها الأسطوري. وهذا هو ما فعله عيسى الشيخ حسن حين خلق أسطورة عربية لها ملامحها الخاصة وبنيتها المخالفة للأسطورة التراجيدية اليونانية كما سبق وأوضحنا.
خاص مجلة قنآص
د. خالد عبد الغني؛ دكتوراه في علم النفس الاكلينيكي والتحليل النفسي، وله العديد من المؤلفات النفسية والنقدية، ومنها: نجيب محفوظ وسردياته العجائبية. (الصورة: alantologia.com).