أرخبيل النصوصجسدُ السرد

خسارة يليها انتصار | حمزة الذهبي

في صبيحة يوم الأحد هذا، ارتديت قميصا أبيض وبنطلونا، وضعت نظارة شمسية سوداء من ماركة «راي بان»، مزيفة طبعا، وحملت كرسي خشبي وخرجت متوجها صوب الملعب الترابي الذي يقع بين الحي الصفيحيّ المعروف بالحي الخانز – والسبب أن هذا الحي مخترق بواد مكشوف من المنتصف تجتمع فيه فضلات الساكنة – وحي الأمل النظامي، حيث ستقام في أرضيته مباراة ستجمع بين فريق حينا وفريق الأمل.  لقاء بين الأعداء ولا شك. فبيننا وبين حي الأمل عداوة كبيرة تعرفها المدينة كلها.  لهذا فاللقاءات بين فريقينا لا تنتهي دوماً على خير.  

في طريقي وجدت أمي وجاراتها جالسات في الزنقة، يقمن بتنقية العدس، وتقطيع البطاطيس والجزر، ويتجاذبْنَ أطراف الحديث عن أسعار الخضر والدجاج، التي هي في ارتفاع دائم،  ويتكلمن عن القيل و القال. لا يتوقفن عن الحديث، لا يصمتن أبداً، دائما هناك ما يتحدثن عنه، إنها طريقتهن في تزجية الوقت، من ينظر إليهن لن يصدق أنهن في الاربعينات، فقد شخن قبل الأوان، عيون ذابلة، ووجوه تعبة. وأجساد متضعضعة، مثلهن، في أماكن أخرى، لا زلن كالزهور، في أوج تفتحهن،  كأستاذتي  الجامعية لبنى التي تتحدث دائما عن ظلم التاريخ للنساء، تبدو وكأنها في العشرينات، هل هناك ظلم أكثر من هذا تحافظين أنت على شبابك في الخمسين، وتشيخ أمهاتنا في الحي الخانز  بعد الاربعين مباشرة. 

 ألقيت عليهن التحية، سألتني أمي أين ذاهب، فخمنت أنها تريد مني شيئا ما، قلت لها سأعود بعد ساعة  وأكملت طريقي عبر الأزقة الضيقة والتي زادت من ضيقها أسلاك الغسيل والنسوة اللواتي يقتعدن عتبات البيوت يُثرثِرن في مواضيع شتى، وعشرات الأطفال الذين يركضون في مكان لا يتسع سوى لمرور شخصين، وأعمدة الإنارة الخشبية المنتشرة هنا وهناك، ذات الضوء الشحيح. والتي توحي للغريب عن الحي بتواجد الكهرباء في البيوت الصفيحيّة .

 بيد أنه في الحقيقة بيوتنا لا تتوفر على الكهرباء، نكتفي فقط بإشعال الشمع من أجل الإضاءة كلما هبط الليل بسطوته وجبروته.  وكم من كوارث وقعت بسبب شمعة نسي أصحابها إطفاء لهيبيها وخلدوا للنوم ولم يستيقظوا إلا بعد أن وقعت الواقعة، فإذا اجتمع الصفيح والشمع فيجب على المرء أن يتوقع حلول الكارثة، وذاكرتي التي هي ذاكرة الساكنة نفسها لن تنسى عدة حرائق أخذت بعض الأرواح، وتركتنا لليالي طوال ننام في الخيام ريثما يعاد بناء أكواخنا من جديد.

لما وصلت إلى الملعب ألفيته مكتظاً بالناس التي تلتف حوله، ليس فقط برجال وشباب وأطفال الحي الخانز وحي الأمل، بل حتى الأحياء المجاورة، فلهذا الحدث شعبية كبيرة، ويجذب الكثير من الناس، يأتون فرادى وجماعات، ويجلبون معهم، طبعا، ما يحمون به رؤوسهم.  إذ لا أحد يعلم متى يبدأ التراشق بالحجارة. بل إني أكاد أجزم، أن هناك من يأتي لا لشيء إلاّ من أجل هذا.  فذلك الركض هارباً من حجر يقصدك ليصيبك له لذة لا يعرف طعمها إلا من جربّها. أما إذا ضربك الحجر فتغيب اللذة ويحضر الدم والألم. ورأسي، المدور، مليء بالبقع التي لا ينبت فيها شعر نتاج قذائف هَوتْ على رأسي وأنا طفل غِرّ دون خبرة، لهذا أضحيت في السنين الأخيرة أجلب معي الكرسي خشبي، فهو يقوم بوظيفتين. الأولى أجلس عليه لأشاهد المباراة بدل مشاهدتها واقفا، والثانية أحمي به رأسي وأنا أهرول مبتعدا عندما تنشب المعركة. 

كان العديد من أطفال حينا، قد تسلقوا السور الذي يحيط بحينا وقعدوا فوقه، إنه مكاني المفضل حينما كنت في مثل أعمارهم. فهو موقع يجعلك قادر على رؤية المباراة بشكل جيد  فتحس كأنك في ملعب حقيقي. وضعتُ الكرسي بجانب روبيو الذي كان يجلس على صندوق خشبي متكئا بظهره على السور. يدخن سيجارته الرخيصة. كانت المباراة قد بدأت، سألت روبيو عن النتيجة، نفث دخان سيجارته التي كان قد سحب منها نفسا، وقال أنها بدأت فقط لحظات قبل وصولي.  

قلت له: «ابتدأت الآن وذلك اللعين يقف في مكانه دون حراك».

 قاصداً بقولي هذا حميد الذي يلعب كرأس حربة. وكأن مدرب فريقنا سمع ما قلته فصرخ عليه أن يحرك مؤخرته قليلاً ويعود إلى الوراء كي يساعد زملائه، بدل الاكتفاء بانتظار الكرة أن تأتي عنده.  

وباستثناء حميد، الذي لا أعرف لماذا يلعب وهناك في حومتنا من هو أفضل منه، فقد كنا نملك فريقاً جيدا، ابتداء من حارس المرمى مروراً بالمدافعين الذين إذا مرّت الكرة لا يمر المهاجم وإذا مرّ المهاجم لا تمر الكرة، وليس انتهاء بالوسط والأجنحة. ولم يكن فقط فريقنا من يلعب جيدا، فأولئك الأوغاد بالرغم من أني لا أريد الاعتراف بهذا، يلعبون جيداً، بل ولديهم لاعب مميز، نسميه «ميسي المغرب» ذو قامة قصيرة، يعرف جيدا كيف يراوغ ببراعة. وله قدم يسرى قوية، سدّد من خلالها بعض التسديدات جعلت  الدم يتجمدُ في عروقنا، لكن لا خوف على مرمانا، لدينا حارس لا يُقهر. حارس يملك موهبة يُحسد عليها، كان يمكن أن يكون في مكان آخر، لكنه أهدر موهبته مثلما أهدر ساكنة الحي الخانز حياتهم في انتظار ما لا يأتي.   

انتهى الشوط الاول بالتعادل السلبي والكثير من الفرص الضائعة. ومع بداية الشوط الثاني سجل جمال هدف ضد مرمانا عن طريق الخطأ.  عَمّ الفرح في جهة الأمل حيث يقف الجميع معهم وخيم صمت قاتل في جهتنا، حيث نقف وحدنا. لكن دائما ما نقف وحدنا  والأمر ليس سرا. عند نهاية الشوط الثاني تَحصّل عزيز على ضربة جزاء بعد أن قام بترقيص الحارس، الذي لم يجد من حل آخر لمنع عزيز من التسديد سوى بإسقاطه. اعترض جمهور الأمل على ضربة الجزاء الواضحة وضوح الشمس، فهم كائنات وُجِدت لتعترض. كائنات متعصبة ولا شك، تتباكى في كل وقت وحين. كائنات فقيرة ومهمشة مثلنا، لكنها تعتقد نفسها متفوقة علينا فقط لأنها تقطن في منازل إسمنتية، بينما نقطن نحن في أكواخ الصفيح.

بيد أن «نوفل» الملقب بـ «خسارة» والذي يمتلئ وجهه بالندوب، وذراعيه عليها آثار عزف موس الحلاقة. وجسده مِنْفَضة،  يطفئ عليها أعقاب سجائره،  تَدخّل حاملاً سكين سبعطاش في يد وبونقشة في اليد الأخرى، وحسم الأمر بعد أن لم يعد هناك أي اعتراض. فمن سيقف معترضا في وجه شخص لم يعد لديه ما يخسره. 

كنت أعتقد أن عزيز الذي قام بالحصول على ضربة الجزاء هو من سيقوم بتسديدها، لكن حميد اللعين، نَطّ وأقسم أن يُسدد ضربة الجزاء، وضع حميد الكرة في مكانها، وتراجع متخذا وضعية التسديد، فتوقف الأطفال الذين فوق السور عن قذفنا بالحصوات الصغيرة، وتوقف الشجار الذي جمع بين ولد الضاوية وولد الشواية بعد أن انفض الذين كانوا يفكونهما من حولهما وانشغلوا بمشاهدة اللحظة الحاسمة في المباراة، فالذين يريدون حل شجار ما أو عراك عنيف، غالبا ما يقومون بتعقيد الأمر، فهناك من أبناء الحي من يفقد أعصابه في اللحظة التي يتدخل فيها أولئك الذين يريدون الدخول بخيط أبيض، ويهدأ عندما لا يبالي به أحد،  وولد الضاوية وولد رابحة، عندما شاهدوا سكان الحي غير مهتمين بشجارهما توقفا بدورهما وبَدآ يشاهدان ضربة الجزاء المصيرية.

 في الحقيقة كنت غير متفائل، فحميد كائن متخاذل، كان يلعب طيلة المباراة بخبث، واقف مثل عمود الإنارة، منتظرا زملائه يلاحقون الكرة، يقتطعونها ويوصلونها له، ليقوم بتضييعها. كان بارعا في تضييع الفرص التي لا تضيع.

 قال بوشعيب السمسار، وهو يشاهد حميد يضيع أغلب الفرص المتاحة أمامه، أنه حتى لو كانت المرمى فارغة لما سَجّل. 

أكّدتُ على كلامه، وأضفت قائلا :

لم يركض ولا مرة واحدة، حتى أن قميصه لم يتبلل. كأنه يلعب ضدنا لا معنا.

 ومع ذلك أردت لأول مرة في حياتي أن أكون مخطئ، فتلك الضربة كانت تعني لنا نحن ساكنة الحي الخانز الكثير، الهزيمة مع حي الأمل أمر غير مقبولة، علينا أن نهزمهم وننتقم لأنفسنا من الخسارة  الماضية، علينا أن ننتصر عليهم مهما كلّف الثمن، فالعشوائي عليه أن يهزم النظامي وإن كان هذا النظامي مهمش، ومبعث للخوف مثل حينا نفسه.

هل فكر حميد في ذلك وهو يقف أمام الكرة، لا أعتقد ذلك وإلا لما أرسلها عاليا .  

 في اللحظة التي ضاعت ضربة الجزاء، انهالت  قذيفة على رأس حميد، لم يتفطن أحد سواي الى أنها انطلقت من ناحية حينا، واعتقدوا أن حي الأمل هم من قذفوه. فكانت تلك هي بداية حرب بالحجارة بيننا وبينهم انتهت بهزيمتهم، مثلما انتهت المباراة بخسارتنا. 

حمزة الذهبي، كاتب من المغرب

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى