تُخصص مجلة «قناص» هذه الزاوية، بشكلٍ دوريّ، حيثُ تستضيف أحد الكتّاب للحديث عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر، الشائك والمُتعب في الآنِ معاً.
أخبرني الصديق الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، وكان في زيارة قصيرة لبغداد عام 1971 على ما أذكر، إنه سيذهب إلى بيروت بعد أسبوع. وكان لديّ مجموعة من القصائد المنشورة في عدد من الجرائد والمجلات العراقية، كتبتها في الفترة 1969-1971. وكنت قد جمعتها، مع زميلة عزيزة عليّ، كانت، وما تزال، مولعة بشعري. وقد تأخرت المجموعة عند دار العودة، أكثر من سنتين تقريباً، قبل أن تظهر، عام 1973 في طبعة تفتقر إلى الدقة.
بعد فترة قصيرة من اتصالي به، فاجأني الفنان ضياء العزاوي بلوحة جميلة لغلاف المجموعة. فرحت بلوحته كثيراً، مساحة ذهبية كأنها حقل من حنطة يدنو من حصاده الأخير. وفي الجزء الأسفل من اللوحة، عناق حميم بين مساحات لونية عديدة تتفاوت في انتظامها وسعتها، وتتشكل من الأخضر، والأحمر، والأبيض، والأسود بطريقة لافتة. وكان هناك خط أسود يخترق المساحة الذهبية عمودياً حتي حافتها العليا، وعلى يمينه وردة حمراء.
شارك في غلاف مجموعتي الأولى، أربعة من أجمل الأصدقاء وأكثرهم رهافة: اللوحة للفنان ضياء العزاوي. وتصميم الغلاف وخط العنوان للشاعر صادق الصائغ، وقام الشاعر محمد سعيد الصكار بخط عناوين القصائد بطريقته الرشيقة. أما الغلاف الخلفي فقد حمل مقطعاً جميلاً وشديد الدلالة من كلمة للشاعر فوزي كريم.
وصلتني حصتي من النسخ إلى بغداد. وكان فرحي بها كبيراً. ردة فعل طبيعية، وشديدة الصدق لكل من يرى مشاعره وتخيلاته وأوهامه تتنفس على الورق. بعد ساعات لم يكن المولود معافى تماما. جملة من الأخطاء المطبعية، وقد انعكس ذلك على لقائي بصاحب دار العودة خلال زيارتي لبيروت.
وحين أقدمت على إرسال مجموعتي تلك للنشر، كان الشاعر وديوانه الأول ينصهران في فاعلية شعرية أولى، أو كأنهما كذلك، يبنيان الضفة الأولى لنهر الكلام، الذي سيتضاعف، ويتعقد، وترتفع مناسيبه، مجموعة بعد أخرى.
ربما بدت مجموعة «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء»، وكأنها محاولةٌ للتعامل، بطريقةٍ خاصة، مع اللغة والصورة والايقاع. أو مغامرة دفعت بي إلى الظن، واهماً أو عن ثقة مشكوك فيها، أن باستطاعتي أن أربك إيقاع الموج الشعري. ولم يكن أيضاً مبالغة في تقدير الصورة الشعرية في حد ذاتها. بل كان وليد رغبة مشوبة بقدر لا بأس به من الوعي الغائم أحياناً. تمكنت مني، منذ البداية، رغبةٌ ملحّةٌ في أن أكون مختلفاً عن جيلي.
كانت اللغة شاغلي الأول في تلك المجموعة، حتى أنني كنت أبالغ أحياناً في العناية بها، وتنقيتها من حَسَكِ الطريق وما يتساقط من ثياب المارة. ولأنني شديد النفور من الثرثرة الشعرية والتعبير المطوّل، حدّ التخمة، عن معنىً ما، كنت أتمادى في العمل أحياناً على أن يكون النصّ الذي أكتبه موجزاً أو خالياً إلى أقصى حد ممكن، من النتوءات والاستطالات والباروكات اللغوية الفائضة عن الحاجة.
وحتى هذه اللحظة لا أجد مبتغاي في القصيدة التي تهرول إلى معناها مباشرة، دون جهدٍ يضبّب المعنى ويخفف من ملامحه الحادة.. وقد أشار فوزي كريم، في كلمته الملحقة بالديوان، إلى هذا المنحى حين قال إن «العلاق مولد صور بارع، لا يلتفت إلى الآخرين، بل يعيد الصياغة لتكون اللغةُ أكثر براءةً وأشدّ بدائية». وكانت غرابة الصور أحياناً أو عبثيتها لا تحتاج الى جهد كبير لاكتشافها:
– رحيلكِ طيرٌ من القشِّ يقتادُني
صوبَ أرضِ البكاءْ..
– بكائيَ شيخٌ من الحبرِ
في جبهتي يستريحُ..
– يختبئءُ الحنينُ تحت جفنيْ
جزيرةً من جثث النعاسْ
أمدُّ كفّيْ نافضاً عن صوتكِ الماءَ
وعن شفاهكِ الأجراسْ..
ولم تكن تخلو حتى تجاربي في القصيدة العمودية من هذه المغالاة في الصورة والإيقاع خصلة في معظم ما كتبت من قصائد في تلك الفترة المبكرة :
– حقائبي حطبٌ يبكي، وحنجرتي
سفينةٌ شبَّ في أعشابها الصدأُ..
وكنت أرى أن الإيقاع كان وسيظل، ولكن بدوافع جماليةٍ ودلاليةٍ جديدة، مكوناً شعرياً مُهمّاً. وقد حاولت، في هذه المجموعة، عرقلةَ بعض الأوزان الشعرية وتهدئة لهاثها المتسارع. ولم أكن أبالي أحياناً حتى بارتكاب بعض الوقفات الوزنية من أجل تحقيق هذا الغرض.
دخلتُ بمجموعتي الأولى تلك، إلى مشهدٍ شعريٍّ صاخب، دخولَ اليتيم الذاهل، إلى سوق يضج بالباعة الفرحين بما لديهم. قبائل أيدولوجية تتصايح على بعضها بعضاً. وتعرض بضاعتها بإغراءات مدروسة بعناية. كان هناك شعراء موهوبون حقاً، وشعراء أقلّ موهبة لكنهم أكثر ذكاءً. أما البعض الآخر، فشعراء دفعتهم إلى الواجهة رافعاتٌ نقديةٌ مؤدلجةٌ، تحتفي باليقين الماركسيّ أو القوميّ.
ومع أنني لم أجد، في بغداد، مثلاً، إلاّ تغطياتٍ صحفيةً عابرة لهذه المجموعة، لم يتملكني شعور المحبط، بل أحساس المجروح في اعتداده بذاته. وفي الوقت الذي لم تجد القبائل الأيدولوجية ضالتها السياسية أو الفكرية في مجموعة تنتمي إلى نبرتها الفردية بقوة، كان الروائي المغربي محمد شكري يحتفي بها، في جريدة المحرر المغربية، بحماسة استثنائية : “صادمةٌ جِدّةُ هذا الشعر”.
يمكنني القول ربما إن مجموعة “لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء” كانت تمريناً شعرياً جريئاً، أمدّني بالكثير من الافتتان الطفوليّ باللغة والإيقاع. وكان فيها من الصور ما يندرج في غرابة تعبيرية أجدها، آنذاك، عامرةً بالترف اللغويّ والذهاب إلى المعنى بطرق شديدة التخفّي.
د. علي جعفر العلاق: شاعر وناقد عراقي مقيم في أبو ظبي.