فضاءاتمقالات

خطوة على طريق النشر | عيسى الشيخ حسن

عن ابني البِكر «أناشيد مبللة بالحزن»

 

تواصل مجلة «قناص» في زاوية «خطوة على طريق النشر» نشر شهادات الكُتّاب عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر. هنا شهادة الزميل عيسى الشيخ حسن، وهو شاعر سوري مقيم في قطر:

 

تأخّر كتابي الأوّل، تأخّر بعض الوقت. كان النشر مرهقًا ماديًّا، يكلّف خمسة وعشرين ألف ليرة تقريبًا (نحو 500 دولار)، وقد تحصل على دعم من اتّحاد الكتاب، كان التفكير في النشر رفاهيّة غير متاحة لمعظم الشعراء المنحدرين من بيئات فقيرة، فعّلت في ذواتهم “تطبيق الشعر” ولم أملك حتى التفكير بدفع ربع هذا المبلغ، على أنّني استلطفت فكرة إنجاز مخطوطات مكتوبة بخطّ اليد، أصمّمها، ثمّ أضع عنوانًا وتحته اسمي، ثمّ أكتب، وكنت بهذا أعزّي نفسي، أو أعوّض الحلم البعيد، وكنت قد نجوت مبكّرًا من صخب قصيدة التفعيلة المأخوذ بنشوة نصوص درويش المحلّقة في فضاء المتعة والألم، وتتبّعت صوتًا في الداخل يأخذني إلى عوالمي الخاصّة.

كنت في الثالثة والثلاثين، وقد انصرف جلّ اهتمامي إلى أعمال “الفلاحة”، فأساعد عائلتي في البذار والسقي وتسويق الخضار، ويمكن القول إنّني كنت أعمل مدرّسًا في فراغي. ولكنّي كنت أكتب من حين إلى آخر، حين قرأت إعلان جائزة البيّاتي. كان الراحل عبد الوهّاب البيّاتي قد قضى أعوامه الأخيرة في دمشق، وهناك احتفى به أصدقاؤه ومريدوه وأعلنوا عن جائزةٍ تحمل اسمه، مخصّصة للشعراء الشباب. يومذاك انتشرت ظاهرة الجوائز الأدبيّة “سعاد الصباح- الشارقة- الناقد.. وغيرها” تحتفي بالشعر الشاب.

جمعت نصوصًا كتبتها في نحو عشرة أعوام، واستفتيت فيها بعض أصدقائي: “محمود الحديد- مروان كلش- صالح الشيخ” واخترت النصوص التي استحسنوها. وقبل إرساله بيوم، كتبت النصّ الأخير “بيان متأخّر” ليكون ردًّا على “بيان” مفتتح الديوان، ثمّ أسميته “أناشيد مبلّلة بالحزن”.   

في السنوات التي سبقت شاغبت قليلًا في النشر، نُشر لي نصّان في جريدة تشرين، ونصّ في ملحق الثورة الثقافي، ومقطع في مجلة الكويت، وآخر في مجلة العربي في القسم التشجيعي “وتريّات”، ولم يغرِني ذلك بمغامرة النشر؛ فلا أحد ينشر الشعر مجّانًا. وكنت شاهدًا في أعوامٍ سابقة على مغامرات نشر لشعراء كثر تحمّلوا أعباء كبيرة في نشر كتبهم.

كان بريق الشعر قد بدأ يخفت، في خضمّ تحوّلات اجتماعية سياسية وثقافية تراجع فيها الهمّ الإبداعي والشعري على وجه الخصوص، ومن هذا الباب جاءت الجوائز الأدبيّة منقذًا لحالة الركود الأدبي في ربع القرن الأخير، وغير ذلك؛ فهي شهادة واضحة على جدارة الفائز بلقب الشاعر، وبنشر كتابه.

وكنت مستغرقًا في أعمال السقاية “سقي القطن” صيف 1998، كان بئر الماء قد نشف تمامًا، واضطررنا لطلب الماء من جيراننا، نتناوب على السقي، حين جاءني محمود الحديد وأخي موسى يبشّراني بفوزي بالجائزة، وكانت واحدة من اللحظات السعيدة “العنيفة” التي مرّت بي، بوصفها قطرة ندى منعشة في حياة فلّاح يوشك أن يخسر موسمه، نعم، لقد منحني (بل منحنا) ذلك الفوز طاقة جديدة على العمل.

انتشر الخبر في الصحافة العربيّة وقدّمني إلى المشهد الأدبي خير تقديم ممكن لشاعر مغمور يكتب بعيدًا عن الصحافة والمنابر الأدبيّة، كما جاء في تقرير اللجنة “تعد المجموعة الشعرية محاولة أخرى في محاورة نشيد الانسان الخالد، الحزن بلغة بسيطة لا تسرف في أوهام الاكتشاف، بل تنطوي على دلالات واضحة تكشف بها عن إرهاصات الروح بإيقاعات يقارب بها صوت الشاعر أصوات وأشياء العالم”.

بعد أشهر قليلة، وصلتني 15 نسخة من الديوان، كتاب أو “كُتيّب” بتصميم بسيط ورصين، وقد كتب العنوان بخطّ مذهّب نافر. ولا أدري كم من المرّات قلّبت ورق الديوان، أقرأ النصوص التي كانت أوراقًا مبعثرة قبل أشهر، لأعيش النصوص مرّة بعد أخرى، وأستذكّر مناخات كتاباتها السالفة. ولأعيش أيضًا نشوة النجاح والفوز، في مدينة عامرة بأسماء كبيرة وكثيرة لها نصيبها من الضوء والأثر الإبداعي الواضح، ثمّ قدّمني إلى صاحب الجائزة “عبد الوهاب البيّاتي” رحمه الله، وقد التقيته مرّتين قبيل وفاته في دمشق.

ساهمت الجوائز الشعريّة تسعينات القرن الماضي، في تقديم عشرات الأسماء المغمورة إلى المشهد الأدبيّ، وأظنّ أنّها في الوقت ذاته كرّست نمطيّة شعريّة تناسب أهواء النقّاد، ولكنّ كتب تلك الجوائز يشبه إلى حدّ كبير “أفلام الجوائز” حبيسة العلب، والبعيدة عن العروض الجماهيرية، ولكنّ كلمة “فاز بجائزة …” ظلّت تداعب غرورنا، كأننا رياضيون أحرزوا ميداليات في الألعاب الأولمبية.

ربّما كنت محظوظًا، في نشر كتابي الأوّل، وقد قدّمني الكتاب وجائزته إلى المشغل الأدبي، شاعرًا “موهوبًا”، وقد كتب عنه كثير من المقالات، كما ساعدني ذلك في النشر في كثير من الصحف العربيّة. وقد أمدّني بدفعة معنوية كلّما عرّفت بنفسي، بدايات الكتابة، وحظي كذلك بكتابات لامست أشياء كثيرة كانت خفيّة عنّي، وما زال في البال بعضٌ من أثرها كقراءة الشاعر اليمني الكبير للديوان في جريدة الثورة اليمنية، وقراءة الشاعر إبراهيم يوسف في الكفاح العربي البيروتية. والآن؛ وبعد خمسة دواوين، وروايتين، ولكلّ من هذه المؤلّفات قصّته، وغصّته، فإنّ لـ “أناشيد مبلّلة بالحزن” معزّة الولد البكر، الذي أنجبته شابًّا، وما زال حتى الآن يزاحم إخوته، على حضن أبيه.

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى