برحيل الذهبي تغيب رؤية مميزة لكاتب عاش مسكونا بعوالم روائية «شعبية» ارتقت بالتصوير الأدبي الشعبي إلى مقام عال
رحيل الكاتب السوري خيري الذهبي قبل أيام خسارة كبرى لواحد من كبار كتاب أدب الرواية والسرد عموما. خيري الذهبي خلال حياته ( 1946 – 2022 ) قدم مساهمات هامة في الرواية والقصة وأيضا في الدراما بشقيها التلفزيوني والسينمائي وظل حاضرا بحيوية في المشهد الثقافي والأدبي السوري على مدار عقود طويلة.
الذهبي، المولود في دمشق في عام الجلاء وبدايات «العهد الوطني» في الحياة السياسية السورية؛ درس الأدب العربي في جامعة القاهرة في مرحلة ستينات القرن الماضي بما تعنيه تلك المسألة من اقتراب ومعايشة لواحدة من أغنى مراحل ازدهار الأدب والفن في مصر والوطن العربي في كافة المجالات أفادته كثيرا خصوصا في بدايات انطلاقته الإبداعية وبالذات قراءته العميقة والجدية لروايات نجيب محفوظ وأيضا متابعته لتطور الأدب والحياة الثقافية والسياسية في مصر وتأثيراتها في محيطها العربي الذي كان يعيش مرحلة الأحلام الكبرى والأهداف والغايات التي كانت عناوين التحرر والوحدة والتنمية الاقتصادية وكانت بسبب ذلك سببا مباشرا لما واجهه المشرق العربي بعد ذلك من مواجهات مصيرية مع محطات عاصفة من تاريخنا كان أبرزها هزيمة الخامس من حزيران / يونيو 1967. تلك الأحداث الكبرى ستحضر بقوة في حياة الكاتب الراحل الذي وقع في أسر القوات الإسرائيلية خلال حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 حين اختطفته دورية لجيش الإحتلال من نقطة مراقبة للأمم المتحدة التي كان يقوم بمراقب معها ليظل في الأسر 300 يوما ويعود بعدها إلى وطنه.
سنرى بعد ذلك انخراط الكاتب الراحل في الحياة الأدبية بروافدها المتعددة، وسيلحظ دارس تجربته التصاقه بالقضايا الوطنية بسمة هامة لم تفارقه ونعني اعتناءه بالروح الشعبية خصوصا عن الفئات الشعبية الدنيا، بل لا نبالغ حين نقول أن هذا الالتصاق جاء منذ بداياته الأدبية الأولى، فلم تكن صدفة أن تحمل روايته الأولى (1975) عنوان «ملكوت البسطاء» في إشارة واضحة ومباشرة للعوالم الاجتماعية التي انشغل بالتأمل في تفاصيل حياتها ومن ثم التعبير عنها ليس من خلال الأحداث والعناوين وحسب، ولكن من خلال الشخصيات الأدبية والدرامية واستحضار الروح الشعبية التي تؤلف حياة أولئك البشر وتميزهم.
عرفت خيري الذهبي مطلع سبعينيات القرن الماضي حاضرا في «المقاهي الثقافية» الدمشقية، لكن لقائي الأول والأبرز معه من خلال سهرة جمعتنا عام 1975 في منزل الفنان التشكيلي الراحل مصطفى الحلاج مع الشاعر محمود درويش وفي حضور عدد من الشعراء والكتاب كان بينهم الشاعر الراحل أحمد دحبور والشاعر الشعبي السوري الراحل حسين حمزة وبعد ذلك لقاءاتي معه من خلال صداقة مباشرة ومتصلة استمرت عقودا طويلة من السنوات.
في ذاكرتي رواياته وأبرزها برأيي «حسيبة»، «صبوات ياسين»، «فخ الأسماء»، و«رقصة البهلوان الأخيرة»؛ وهي روايات تنقلت بين الراحل وبين أزمنة أخرى متباعدة لكنها حملت جميعا سمات اهتمامه الأبرز بتفاصيل حياة أبطاله وبدقة أكبر خلفيات تلك التفاصيل التي ساهمت في تكوينهم كبشر أولا ثم كأبطال روائيين يستحضرهم الكاتب ويقدمهم لقراء رواياته ببساطة مميزة. هي روايات الفئات الاجتماعية الشعبية وذات الملامح الأبرز والأشد حضورا في المجتمع وسأشير إلى شخصيتي «حسيبة» في روايته الأشهر والتي تحمل اسمها، وشخصية «ياسين» في «صبوات ياسين» إذ نحن أمام روائي «شامي» بامتياز باعتباره نجح ليس فقط في مقاربة مجتمع الشام كمدينة وتاريخ بل كمدينة تختصر تاريخ سوريا وتحمله في أسفارها كما في ملامح ناسها وأحداث حياتهم.
سأذكر هنا أيضا تقييم خيري الذهبي الهام لتجربة كبرى أخرى في الرواية السورية هي تجربة الكاتب البارز الراحل هاني الراهب واعتناء الذهبي بتلك التجربة ومكانتها في الرواية السورية عموما خصوصا في روايتي الراهب «الف ليلة وليلتان» و«الوباء». حوارات وسهرات أدبية جادة وعميقة جمعتنا حول الروايتين ولا أنسى أن خيري إذ أشار لأهمية روايات الراحل هاني الراهب ، أن هاني عرَفني على روائي سوري كان شابا في تلك الأيام هو خالد خليفة وقال لي: انه أمل الرواية السورية في حين نبَهني خيري لتجربة روائية أخرى هي تجربة الكاتب فواز حداد. هي كلها خيارات تميزت باهتمام الراحل بالشأن السياسي وبالذات في عقود الخمسينات والستينات أي تماما في تلك المرحلة التي شهدت نشوء وتأسيس الدولة السورية وما عاشته البلاد من أحداث كبرى وعاصفة.
أعتقد أن عالم خيري الذهبي الروائي حقق نقلته الكبرى مع رواية «صبوات ياسين» التي حملت ذروة النضج الفني وتميزت ببراعة بناء الشخصيات الرئيسية والثانوية ونجحت في الوقت ذاته في رسم صورة الحياة الاجتماعية الواقعية في زمنها، وهي رواية لم تلق الاهتمام الذي حظيت به روايات أخرى وبالذات «حسيبة» و«فياض». ذلك يحيلنا أيضا على «تحقيب» الرواية السورية التي شهدت مرحلة التأسيس الحقيقي على يد شيخ الروائيين السوريين الراحل حنا مينا ثم تنوعن فروعها على أسماء أخرى تتابعت في مراحل متعاقبة وكان خيري الذهبي أحد أبرزها وأغناها عطاء.
برحيل خيري الذهبي عن عالمنا تغيب رؤية مميزة لكاتب عاش مسكونا بعوالم روائية «شعبية» ارتقت بالتصوير الأدبي الشعبي إلى مقام عال حمل الكثير من براعة الرسم والتشكيل، وقارب إلى حدود كبرى ذهنية البسطاء والحالمين دون أن يغفل عن ما فيها من رواسب اجتماعية راكمها الزمن بل وأسبغ عليها كثيرا من التشوهات والأخطاء، والذهبي بالمعنى العام فارس الرواية «الدمشقية» التي تجولت في تاريخ الشام وروحها وعايشت أحياءها وناسها باعتناء كبير وهو في تجربته الروائية المرموقة متفوق بالتأكيد على كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى التي أنتج فيها خصوصا السينما والدراما التلفزيونية دون أن يقلل رأينا هذا من أهمية وجمالية ما قدمه في الدراما بشقيها من إنتاج.
مقالة تحليلية جيدة وشاملة للشاعر راسم المدهون. وقد قدم احاطة جيدة شاملة بمؤلفات الذهبي و وابداعه. د.
مقالة وافية أعطت شيئاً من الحق لعملاق الرواية العربية الكبير خيري الذهبي
الشكر كل الشكر للناقد الفذ صاحب القراءة العميقة الأستاذ رسام المدهون