أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

مقدمة رواية «ذات مرة في هوليوود» لـِ كوينتن تارانتينو

ترجمة مروان عثمان

هوليوود كوينتن تارانتينو

مقدمة رواية «ذات مرة في هوليوود»، ترجمة مروان عثمان

رواية «ذات مرة في هوليوود» لمؤلفها كوينتن تارانتينو، كتب مقدمتها الروائي والناقد الأدبي الأمريكي والتر كيرن. الرواية عدا أنها ممتعة وهي لواحد من أشهر مخرجي الأفلام الأمريكية كوينتن تارانتينو، إلا أن أهمية المقدمة تكمن في تعريفها القارئ على جنس من الروايات غير موجود تقريبًا في الأدب العربي، وهو تحويل سيناريوهات الأفلام -من قِبل صُناعها- إلى نسخ روائية. والتر كيرن بحسه النقدي، وباستطراده في حكي تفاصيل من ذكريات طفولته، يتتبع هذا الجنس من الروايات ويقدمه بصورة بسيطة للقارئ(1).

***

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات في بلدة مينيسوتا الصغيرة حيثُ نشأت، لم تكن لدينا قاعة سينما محلية. يوجد فقط حانة، محطة وقود، ومتجر عمومي.

في ذلك المتجر العمومي، وُضعت مجموعة من الكتب الورقية رخيصة السعر على رفٍ من السلك المعدني الدوار. العديد من هذه الكتب، كما كُتب على أغلفتها “Major Motion Pictures”(2) وأذكر من بين هذه الكتب ذات المظهر المرعب التي كنتُ أخشى ألا أرى نسخها السينمائية أبدًا كما كنتُ أفتقر إلى النقود لشرائها: “The pirate life of Sherlock Holmes، “Love Story”، “Dr.Phibes”، “The Exorcist” ، و “The day of the Jackal”. وكصبي فُتنتُ بتلك الروايات. خصوصًا تلك التي تحتوي على صور بالأبيض والأسود من الأفلام. وبعد إلقائي نظرة خاطفة للتأكد من عدم تجسس البالغين من حولي عليّ، أقرأ قدر المُستطاع من تلك الكتب حتى تنتهي أمي من تسوقها.

الأجزاء الجيدة من تلك الكتب، أعني تلك الأجزاء الغنية بمشاهد العنف والجنس صدمتني وأذهلتني بشدة، مما ساعدني على تكوين تخمينات حول طبيعة تلك الأفلام الممنوعة عليّ. وهي عملية تخيلية تستمر لبقية اليوم، وبعد ذهابي إلى الفراش، خلال نومي، تستمر في سينما المخيلة الطفولية عبر عينيّ النائمتين.

فقط لاحقًا عندما كبرتُ، وبعد ظهور أجهزة الفيديو، كنتُ قادرًا على مقارنة أحلامي المبنية على الكتب بالأفلام الحقيقية نفسها. وهو ما سبب لي الإحباط أحيانًا، فقد ظننتُ أن فيلم “Love Story” أقذر مما شاهدته، وظننتُ “Dr.Phibes” أكثر رعبًا. بينما جاء فيلم “The day of the Jackal” أفضل من النسخة التي نسجتها في مخيلتي. أو بالأحرى، كان مختلفًا عنها بطريقة جيدة. فكان الفيلم أكثر هدوءًا، منطقيًا بشكل أكثر قسوة، وبدا القاتل المأجور (البطل المضاد في الفيلم) أكثر بؤسًا -مما تخيلته- كضحية لقوى عظيمة تفوق تقديره. هذه الاكتشافات هي ما دعتني إلى إعادة قراءة الرواية لإعادة التعرف على انطباعاتي الأولى عنها داخل ذهني، لكن المثير للدهشة أنني اكتشفتُ تغيرها. التفاعل بين الفيلم والكتاب استدعى نسخة ثالثة من القصة كانت مختلفة عن مصدريها، بينما يتشاركان نفس الشخصيات الرئيسية والإعداد، ومعظم، إن لم يكن كل، نقاط القصة المهمة.

نوعٌ من التفاعل الكيميائي حدث وأنتج تحولًا في العناصر الفنية. والمنتَج السحري الناتج عن تحريك المرجل، أو هذه السردية الثالثة الغامضة بشكل شبحي، كانت لي وحدي. لأني وحدي من استحضرها. أو على الأقل هذا ما شعرتُ به حينها.

ما كنتُ أجهله حينذاك عن الكتب والأفلام المقتبسة عنها، أن تلك العملية تحدث أحيانًا بشكل معاكس.

على سبيل المثال فيلم “Dr.Phibes” و”The pirate life of Sherlock Holmes”، الذي لم أشاهده ربما لأن الكتاب لم يجذبني وأنا طفل من الغرب الأمريكي الأوسط في العاشرة أبحث عن الإثارة! كان كلا الكتابين مُشتقين من سيناريو الفيلم. عرفتُ ذلك في أثناء دراستي الجامعية حين تخصصتُ في الأدب الإنجليزي، وتعلمتُ أن أنظر باحتقار إلى الأدب التجاري الفوضوي. ولا يوجد أدب أكثر تجارية أو فوضوية، بالنسبة إلى عقلي كشاب متعلم متكبر، من النسخة المطبوعة المُحولة من فيلم، ومكتوبة بدافع من اليأس والجشع من قِبل متسللين على الأدب لا يمتلكون أفكارهم الخاصة (أو هذا ما اعتقدته قبل أن أغدو روائيًا فيما بعد)، وأن هذه الكتب التي تحول الصورة إلى نثر هي كُتب مقلدة، مزيفة، ومصطنعة.

أحيانًا يكون هذا التحويل بشكل جيد، مثلما هو الحال مع “Dr.Phibes”، لكنني كنتُ اعتبرها من قبيل الاستثناءات التي تؤكد صحة القاعدة. أما تحويل الأفلام إلى كتب، بالنسبة إلى السرد الخيالي، كان كجبن شيدر فيلفيتا بالنسبة إلى بقية أنواع الجبن.

“ذات مرة في هوليوود”:

شاهدتُ الفيلم قبل قراءة الرواية، بل قبل علمي بأنه ستصبح هنالك رواية.

ولمَ حقًا قد أتوقع واحدة؟!

بالتأكيد بدا لي العنوان للوهلة الأولى كعنوان روائي. وبالتأكيد إنها قصة عن الأخوية والفروسية وتحقيق الخلاص من خلال الاجتهاد في العمل تقع في عام 1969م. وهو العام نفسه الذي نمت فيه شعبية الروايات المأخوذة عن الأفلام والمسلسلات بعد ظهورها في المتاجر العامة للبلدات الصغيرة. لكن فاتني الربط بين هذه الدلائل. كما فاتني أيضًا الدليل الموجود داخل فيلم ذات مرة في هوليوود، مع ممثل رعاة البقر السكير ريك دالتون، الذي كان يقتل الوقت الطويل في موقع التصوير بقراءة كتاب ورقي عن الغرب الأمريكي، يبدو من خلال وصفه أنه مرتبط بمسلسل تلفزيوني.

 لقد اعتبرتُ تلك التفاصيل تفاصيل مُحبٍ آخر لذكرى ثقافية تفيض بالغرام والألم، في فيلم غارق بالحنين إلى الماضي السعيد. لقد وجدته فيلمًا أدبيًا للغاية، حتى في أكثر صوره السينمائية البحتة.

خذ مثلًا أحد المشاهد من الفيلم؛ المشهد الخاص باليوم الذي قضته الممثلة شارون تايت في الخارج. عندما تغامر الفاتنة المضيئة بالذهاب إلى المدينة لمشاهدة نفسها في أحدث أفلامها. الوجه، المُحيّا، العينان، الشفاه، والشعر، إنها بالكاد تنطق في خلال هذا التسلسل الطويل. بينما يُدعى المشاهدون من خلال ما يرونه على الشاشة لتخيل وإبداع المونولوج الداخلي الممتد الذي يدور بداخلها. خصوصًا، عندما تتخذ مقعدها الوحيد في قاعة السينما شبه الفارغة وتتطلع إلى صورتها على الشاشة. حبيبتي، لقد جاءت من مسافة بعيدة. لكن من أين؟! لا يُخبرنا الفيلم. إنه فقط يخبرنا أنها ليست من هنا، ليست من هوليوود. لذا بدا منعشًا جدًا تقدير النجمة المذهل لصعودها المميز لتحتل نصف الإطار. نعرفُ أن ذلك حدث مؤخرًا، لأنها عندما ذهبت لشراء التذاكر، لم تتعرف عليها البائعة. إننا في هذه اللحظات نكتبُ بداخلنا أفكارها الخاصة حين تمتص هذه اللحظة من الإثارة المتراكمة والاستياء. نتوقع أنفسنا -في مواقف كتلك- من خلال إسقاط موقف من نوع آخر على أنفسنا، من النوع الذي يحول الناس العاديين إلى أطفال غير عاديين من النور.

فيلم ذات مرة في هوليوود حامل بكل هذه الفرص من أجل ولادة عرض أدبي متمهل. بعضها يمر بسرعة شديدة، قد تعلق واحدة منها بماصة الصودا الخاصة بك وسرعان ما تنتهي من شفطها، على الرغم من أنك قد تشرب كأسًا كاملًا من النبيذ في أثناء قراءتها إذا ما تحولت إلى رواية يومًا ما.

إنني أفكر تحديدًا في الفلاش باك المختصر الذي يتخيله بطل الحرب الهَرِم كليف بوث (الدوبلير السابق لدالتون، وحاليًا اللبيس الخاص به) حين يتذكر مكوثه على متن قارب مع زوجته الشابة، التي انتشرت شائعات عن قتله إياها، ومشاعره حولها مختبئة تحت قناع مظهره الجيد، وأنتَ عليكَ أن تتأمله عن قرب بعناية لتتمكن من تخمين كنه تلك المشاعر، لكن حينذاك ينتهي المشهد مُعلقًا معه كل الاحتمالات. لا جريمة قتل، فقط فرصة مثالية للإقدام على ذلك. طلقة واحدة من قاذفة الحربة تُنجز المهمة.

إنها نبذة فقط على الشاشة من خلال المشهد القصير المشاكس. لكنها في الرواية، احتمالاتٌ مروعة ربما تتطلب سردًا تفصيليًا. وأرجو ألا أكون أقدمتُ على حرق بعض الأجزاء وكشفتُ وجودها ها هنا في الرواية، كالكثير من اللحظات في نسخة الفيلم من ذات مرة في هوليوود.

بالطبع، إذا كنتُ قد شاهدت الفيلم عند صدوره، فإنه لم يكن نسخة ثانية من أي شيء، أليس كذلك؟ كانت القصة المكتملة، القصة الوحيدة. لكن الآن بات هنالكَ الكثير من النسخ والقليل منها أيضًا بشكلٍ باعثٍ على الدهشة. والعديد من الأجزاء من منظور أولئك الذين شاهدوا الفيلم أولًا تختلف عن وجهات نظر نظرائهم ممن قرأوا الكتاب أولًا. لأن كل ذلك سيحدث في المستقبل، وأنا أُذكركَ بذلك. ولا بد من حدوثه لأن كلا من الكتاب والفيلم موجودان الآن في حالة من الخلود الرقمي، كنُتف من الأثير موجودة في أي لحظة وبأي ترتيب. تذكر أنه ليس عام 1969، حينما كانت الكتب والأفلام تميل إلى تكوين علاقة أكثر استقرارًا. إننا الآن، في عصر مزج ومطابقة الاختيار المُدوخ المذهل للمستهلك (وهو السبب الذي يُفسر اشتياق بعض الناس لعام 1969).

والتحويل الروائي الذي اضطلع به تارانتينو ليس مجرد نسخ جاف للفيلم، وإنما أساس خيالي له. كليف بوث الذي تجده في السيناريو رواقيًا، ذو حياة غامضة، تجده في الرواية ناقدًا هاويًا للأفلام، ذو معرفة مكثفة بالسينما الأجنبية. من بين مخرجيه المفضلين؛ المخرج الياباني الأسطوري أكيرا كوروساوا، والمعروف بملاحمه عن السامواري، والتي لدى بوث حولها آراء مستنيرة شرسة. يُعبر عن أفكاره حول تطور كوروساوا الفني ويُثير الجدل بآرائه حوله عن كثب لن يبدو في غير محله إذا سُمع في الردهة خارج قاعة محاضرات مدرسة السينما.

لديه أيضًا آراء وجيهة حول مدى جاذبية أبطال عصره من توشيرو ميفوني وحتى آلان لا (4,3). هل يتداخل ذوقه في تلك الأشياء مع الذوق الخاص بتارانتينو؟

ربما أكون مخطئًا، لكنني أشتبه أنه كذلك. لقد صدموني بكونهم –الشخصيات- شغوفين ومحددين للغاية بحيث لا يمكن أن يتجسدوا من فراغ. وقد تكون تأملات شخصية بوث المبهجة حول صناعة الأفلام هي طريقة تارانتينو المبدعة في توقيع أفلامه.

الاستطراد بعيدًا عن القصة الرئيسية في الأفلام قد يكون قاسيًا، مدمرًا، وغير ملائم. لكنه في الكتب سهل، وغالبًا مُحبذ. والنسخة الروائية من الفيلم تحقق الاستفادة الكاملة من هذه الحقيقة.

بالنظر إلى معالجته الخاصة برومان بولانسكي، الشخصية التي أظهرها على الشاشة في صورة خاطفة بينما يتعمق في سيرته على الورق، مع تركيز خاص على اشتغال بولانسكي على فيلمه “Rosemary`s baby” عام 1968. والذي جعل منه “أول مخرج روك ستار في هوليوود” كما يُطلق عليه تارانتينو. نعرف أن رومان بولانسكي كان ملحدًا، وفي تحويله لرواية إيرا ليڨين القصيرة إلى الشاشة حول سيدة تحمل في بطنها طفلًا من الشيطان، قمع العناصر الميتافيزيقية الخارقة للعادة، لصالح إظهار الفيلم في إطار نفسي. قلل من دور الشيطان في الفيلم، لصالح إبراز موضوع المرض العقلي.

إنه أمر مثير للسخرية. لأن الشر سوف يظهر له في صورة تلاميذ تشارلز مانسون الشيطانيون الذين سيطرقون بابه قريبًا. لم يكن رومان بولانسكي بالمنزل حينذاك، لكن زوجته الحامل شارون تايت هي من فتحت لهم، على الأقل بالنسبة للنسخة الحقيقية من الأحداث (6).

إذن لماذا تأخذ الرواية هذا المنعطف الصغير إلى تاريخ رومان بولانسكي الفني؟ ربما ليُلمح تارانتينو إلى تجاربه الثقافية والاجتماعية، الخاصة والعامة، كمخرج “روك ستار” للمواد المزعجة. أو ربما لأن ذلك المغرم بأفلام رومان بولانسكي لا يستطيع كبح مشاركة تفاصيل يعرفها عن فنه خلال فترة يعشقها كما يعشق بطله ريك دالتون الكتب الورقية التي تدور حول قصص الغرب الأمريكي.

لقد سبق واستخدمتُ كلمة “فروسية” من قبل. وبالنسبة إليّ إنها المفتاح لهذه القصة بكلا وجهيها. فقد قرأتُ سابقًا في مكان ما، أن شخصية الكاوبوي، على الأقل كما تفسره هوليوود، تنحدر من فرسان العصور الوسطى، الذين أيضًا يركبون الأحصنة، ويساعدون السيدات المعرضات للخطر، ويعيشون وفق ميثاق صارم للشرف.

ذات مرة في هوليوود، والموجودة الآن كقصة خيالية رُويت مرتين، وكُتبت مرتين بالضوء والحبر، يبدو دالتون وبوث كرجلين مليئين بالعيوب وغير مثاليين يسعيان جاهدين للتغلب على الإغواء. بالنسبة إلى دالتون، إنه إغواء الكسل هو ما يحاول التغلب عليه. بينما عدو بوث الأخلاقي هو إغواء الشهوة الجامحة. كلاهما يلتقيان مع نساء أصغر سنًا –أطفال إن صح التعبير- يتحدون روحيهما ويختبرون إرادتهما.

نرى في الفيلم معاركهما من الخارج ضد واجهة ذهبية وجارفة للحنين تبدأ في التعتيم من عند الحواف. بينما في الكتاب، نتتبع صراعهما من الداخل؛ طريقان، ممران، وهدف واحد مقدس: أن ينقذا نفسيهما، وبينما هما هناك، الآخران, فقط لو تصادف وجودهم مع أحلامهم في كاليفورنيا.

المراجع والهوامش

1  روائي وناقد أدبي أمريكي، له ثمانية كتب من بينها رواية “UP in the air” التي تحولت فيما بعد لفيلم يحمل نفس الاسم.

2 Major Motion Pictures: مصطلح دارج يستخدم على أغلفة الكتب الأمريكية التي تحولت إلى أفلام.

3 توشيرو ميفوني ممثل ياياني شهير، اشتهر بتمثيل أفلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا مثل راشومون والساموراي السبعة.

4 آلان لادممثل أمريكي اشتهر بتقديم أفلام الكاوبوي في فترة الأربعينيات والخمسينيات.

5 تشارلز مانسون مؤسس طائفة من الهيبيز تُعرف بعائلة (مانسون) ومتورط في جرائم قتل عدة من بينها جريمة قتل الممثلة الأمريكية شارون تايت.

مروان عثمان؛ قاص وروائي مصري. صدر له في الرواية:حكاية سقطت من الزمن، والحزب 101. كتب سيناريو وحوار الفيلم الوثائقي (تروكاج).

خاص قنّاص – أحبار الترجمان

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى