يسرد صالح الغزال في كتابه «ذاكرة معتقل» (منشورات مجموعة الوسط – 2021)، أعوام اعتقاله التي قاربت العقدين من الأعوام (1970 – 1988) في سجون القذافي٬ تجربته الذاتية ويعرضها كشهادة حية للتاريخ٬ خشية من تكرارها٬ وما أصعب من أن نقع في التجربة المأساوية ذاتها مرتين.
يكتب المؤلف في الإهداء: «إلى والدي ووالدتي.. اللذين رحلا عن هذه الدنيا بحسرتهما، وهما يتشوقان إلى رؤيتي..إلى زوجتي وأبنائي واخوتي الذين تجرعوا معي مرارة الفراق..
إلى كل من قاسمنا قهر الاعتقال ووحشة الزنزانة..
أهدي ما استطعت تدوينه من ذاكرة المعتقل»
كتب المؤرخ الليبي سالم الكبتي مقدمة الكتاب وجاءت بعنوان: “طريق نحو الشمس”. يقول فيها: «هذه صفحات ليست عادية.. لقد كتبت بدم القلب، وهي قطعة من تاريخ المعاناة وتجربة سنوات الاعتقال التي حاولت تدمير النفوس لكنها عجزت عجزاً كاملاً عن هزيمة روح الرجال».
ويتابع الكبتي: «مضى السجان إلى ظلام التاريخ، وبقيت التجربة ماثلة في الضوء والنور، وظل صاحب التجربة والمعاناة شاهداً يروي بأمانة وينقل الصور والظلال والألوان لكي تبقى واضحة تحت توهج الشمس ولا تزول من تفاصيل التاريخ».
وتنتهي المقدمة بفكرة إن ذاكرة المعتقل موازية تماما لذاكرة وطن بكامله٬ وستبقى قطعة ثمينة من تاريخه على الدوام.
في مقدمته يكتب الغزال: «طلب مني العديد من الأصدقاء والأقارب ضرورة تدوين ما علق بذاكرتي من أحداث عشتها وعايشتها خلال فترة اعتقالي التي امتدت لثماني عشرة سنة بسجون القذافي، والتي كانت أشبه بكابوس مفزع مخيف، ولا أخفي عنكم ترددي في البداية للتصدي لهذه المهمة، ولم أجد في نفسي القدرة والجرأة على الكتابة التي لم يسبق لي أن مارستها أو فكرت فيها، ونزولاً عند رغبة هؤلاء الأحبة، قلت في نفسي، وما الضير في ذلك، فأنا لا أود الكتابة في عمل فني إبداعي يتطلب أدوات لا املكها وأخشى الخوض فيها، ولكني فقط سأتناول استرجاع بعض الأحداث الحقيقية، التي تمت معي أو مع غيري خلال فترة زمنية محددة، وبواسطة أطراف معروفة ومحددة».
ويضيف المؤلف: «أذكر إني عثرت على كتاب بعد صدور الحكم لكاتب سوري، لا يحضرني اسمه، بعنوان (حصاد السجن) شدني العنوان فقرأته بنهم، إلا أني فوجئت بعد الفراغ منه، أن تجربته العظيمة تلك، التي عاني فيها ما عانى، وقاسى فيها ما قاسى، كانت لمدة شهر واحد، إبان عهد الانتداب الفرنسي، فكان من ضمن ما شجعني على خوض هذه التجربة، فإذا كان هذا الرجل لم يتردد في الكتابة عن تجربته التي لم تتعد الشهر، فكيف أتردد في الكتابة عن تجربة طالت مدة ثماني عشرة سنة كاملة».
يبدأ المؤلف في الفصل الأول من الكتاب في سرد الأحداث بطريقة “الفلاش باك” أي أن المفتتح يبدأ من اليوم التالي لعودته إلى البيت بعد ما يقارب عشرين سنة من الاعتقال. ثم يعود بنا بالذاكرة إلى يوم الاثنين٬ الأول من سبتمبر من عام 1969 وهو اليوم الذي وقع فيه الانقلاب على النظام الملكي في ليبيا، موصلاً سيره في مسار الحياة عبر سنوات الطفولة وإعلان الاستقلال والدراسة في بلدة الأبيار والانتقال إلى بنغازي، ثم الانقلابات العسكرية.
الفصل الثاني جاء بعنوان: “مفاجأة غير متوقعة” يستعرض فيه عن التنظيمات داخل الجيش الملكي ليلة وقوع الانقلاب، أولى المحاولات الانقلابية ضد القذافي، ثم تشكيل الحكومة برئاسة القذافي لتكشف بعدها القضية وتبدأ الاعتقالات، والتحقيقات المرافقة لها والزنزانة الانفرادية، والمثول أمام المحكمة، لتشن السلطة تالياً حملة اعتقالات جديدة، ثم يعرج على الخروج من زنزانة الحبس الانفرادي.
في الفصل الثالث يتابع المؤلف سرد تفاصيل أخرى منها، صدور الأحكام، النقل للسجن المدني في مدينة بنغازي، العودة إلى سجن طرابلس العسكري، وانطباعات وروايات عن شخصيات عديدة داخل وخارج السجن، محاولة انقلابية أخرى على نظام القذافي عرفت بمحاولة “ضباط 1975” أحوال سجن الحصان الأسود، والهجوم على باب العزيزية.
يعدد الغزال في الفصل الرابع من الكتاب تنفيذ حكم الإعدام بقادة الانقلاب على نظام القذافي “آدم الحواز وعمر الواحدي” والنقل إلى سجن أبو سليم، ابن أخي بجواري بالمعتقل، المعاملة بالسجن، الرضيع المعتقل، قضية اغتيال أحمد مصباح، تفشي الأمراض ووفاة البعض.
يروي المؤلف في هذا الفصل عن اعتقال طفل رضيع: “ضحى ذات يوم من شهر السابع من عام 1986، وبينما كنا بالغرفة الثامنة بالقسم السادس بسجن بوسليم، المطلة على ساحة القسم الرابع، وإذا بنا نسمع صوت بكاء طفل رضيع، ويمكنك تصور وقع هذا الصوت على نفوسنا، والذي نكاد نكون قد نسيناه فلم يشنف آذاننا منذ زمن طويل. كانت الكوة المطلة على الساحة عالية لدرجة لا يمكن الوصول إليها لمعرفة مصدر الصوت، أوقفنا أحد الأسرة وصعد أحدنا يصل بالكاد إلى تلك الكوة، ويا لهول ما أخبرنا به، كانت هناك سيدة مرضعة تجلس بالساحة تحت نافذة الغرفة التي نقطنها، يظهر أنها معتقلة لأمر ما وبحجرها طفلها الرضيع. صاح صاحبنا: “يا جماعة، رأيت أصغر سجين سياسي على وجه الكرة الأرضية”. تأثرنا كثيراً لهذا المشهد الذي لم نتعود رؤيته في ليبيا من قبل، ولم نعد نرى تلك السيدة أو نسمع عنها شيئا ولكن هذه الحادثة ظلت محفورة في الذاكرة.
في الفصل الخامس يتناول المؤلف عملية الإفراج عنه ومغادرة السجن، والظروف التي مر بها بعد زيارته مدينته لأول مرة، ثم الاستدعاء مجدداً للأمن الخارجي٬ وسفره للعمرة.
خاتمة الكتاب كانت تحت عنوان: “لن تخرس التاريخ” كتب المؤلف: “سبق أن ذكرت أنني كنت من بين من عارضوا القذافي منذ ساعاته الأولى وكانت معارضتي لنمط الحكم الذي أعلن عنه، والطريق الذي سلكه للوصول للسلطة، وليس لشخصه الذي لم يتضح بعد لاختفائه خلف إدعاء الفضيلة والبساطة والورع والتقوى، وما أن تمكن حتى كشر عن أنيابه وأسفر عن وجهه الحقيقي ورغبته الجامحة في التسلط واختزال الوطن في شخصه فبدا عهده بتعطيل الدستور والقوانين وحل كافة المؤسسات التشريعية والرقابية ليطلق ليده العنان في اتخاذ ما يراه من إجراءات ظالمة تعسفية، تأميم الشركات والممتلكات الخاصة، ومصادرة الحريات وإغلاق الصحف وتكميم الأفواه”.
ويختتم الكتاب بخلاصة ما تعرض له المعتقلون خلال تلك الفترة، والتركيز على الأهم دون المهم، مشدداً على إنه كفى ووفى ولم يترك شاردة ولا واردة ألا وذكرها وتطرق إليها.
يضم الكتاب أيضاً ملحق صور يحوي بعض الصور الشخصية للمؤلف وعائلته، وكذلك صور وقصاصات صحف ليبية تحمل عناوين وصور المتهمين في قضايا المؤامرات٬ وتتطرق للتحقيقات والمحاكمات والنطق بالحكم في تلك القضايا.
لم يكن المؤلف بعيداً عما حدث، لم يكن مجرد متفرج صامت، كان في قلب الحدث وجزء رئيسياً من معاناة صعبة استمرت سنوات ثقيلة بطيئة، في تجربة تجعل المتلقي يتعاطف معه بشكل كبير، بعد أن سردها بطريقة جعلت من الكتاب وثيقة دامغة لسنوات داخل السجون الليبية لأصحاب رأي، ولآخرين حاولوا تغيير النظام بنفس الطريقة التي قفز بها للسلطة.
هنا يبرز سؤال ملح، وهو: هل كان ضرورياً ممارسة كل هذا العنف والتعذيب لأشخاص عزل، ليس في قدرتهم فعل شيء وهم في داخل معتقل عالي الأسوار؟
مع نهاية قراءة هذا الكتاب – الوثيقة، الذي يدوّن فيه المعتقل السابق في سجون القذافي٬ صالح الغزال مذكراته، نكتشف الواقع الأليم، والحياة داخل المعتقل القريبة من الموت. يمضي القارئ متتبعاً الأحداث من دون أن يغيب عن ذهنه بأن ما يقرأ ليس خيالاً٬ بل هو واقع مأساوي ليس في السجون والمعتقلات الليبية فحسب٬ بل في جميع السجون العربية.
