يمارس الشاعر عماد الدين موسى الكتابة الشعرية وهو مدرك لما قد تثيره من آثار وتأثيرات على القارئ، حيث يجتهد كثيرًا في اختيار الكلمات والعبارات الشعرية لترويض اللغة وتحميلها دلالات ومعانٍ قوية ترفض اللغة المسكوكة والمبتذلة في الوقت نفسه. فلغته الشعرية في ديوانه «كسماء أخيرة» لغة جميلة لا هي تنحو نحو الغموض يصعب معها إدراك دلالاتها، ولا هي لغة بسيطة مبتذلة تفرض على القارئ تجاهلها وتركها، وبالتالي ترك قراءة الديوان بأكمله.
يبني عماد الدين موسى لغة قصائد الديوان على أساس معجمي لغوي متين، تارة باستخدام العبارات القصيرة القوية، وتارة أخرى باستخدام الجمل التركيبية الحاملة للدلالات المتعددة التي تسمح بالتأويلات المتعددة؛ حيث يبرز لنا من خلال هذا كله أن الشاعر بمثابة نسّاج ينسج لغته الشعرية بأسلوب فني وحرفي واضح، بل يتأكد لنا أنه يأخذ وقتًا كبيرًا في إخراج القصيدة الواحدة إلى حيز الوجود مهما كان شكلها وطولها. وهو يبحث في ديوانه عن خلق الإثارة الإبداعية لدى متلقيه وجذبه إلى التشبع بلغته الشعرية وأسلوبها الجميل من حيث الصياغة والتركيب. هذه اللغة المثيرة تستدعي بالضرورة من الناقد القارئ قدرة فكرية على تأويلها والبحث في خصائصها ودلالاتها المتعددة.
رؤية الشاعر الجمالية في ديوان «كسماء أخيرة» لـ عماد الدين موسى
إن رؤية اللغة الشعرية في ديوان «كسماء أخيرة» لـ عماد الدين موسى هي رؤية شعورية تصويرية للمواقف والأفكار والأحاسيس بأسلوب فني وجمالي بارز، هذه اللغة المثيرة للمواقف وقدرتها على إثارة المشاعر لدى المتلقي باعتبارها، حسب جوزيف حرب «قنديل الإبداع المضيء الذي يضيء التجربة بقنديل من نور، ويبعث فيها شعاعها النهي الطهور… إنها أداة المبدع الطيعة التي يشكلها ببوح الخيال، وسحر الجمال… باختصار إنها حياة النص، وقبله النابض».
وتتأطر الكتابة الشعرية في هذا الديوان على شكل جمل قصيرة مكثفة تستحضر لغة تصويرية محددة العبارات والكلمات باستخدام تقنيات متحققة دلاليًا وثقافياً وتنظيميًا. إنه يستخدم إيقاعات تصويرية منتظمة وفق أنساق لغوية تركيبية متوازنة:
خرِيفٌ آخرُ
يبترُ قدمَ آخِرَ ورقَةٍ
وآخِرَ عصْفورٍ أيْضًا.
خرِيفٌ أخِيرٌ
كحطَّابٍ ثَمِلٍ
وقَطيعِ حيواناتٍ رماديّةٍ.
تُرَى؟
ما الذِي سيَفْعلُهُ الفَجْرُ
إنْ اسْتيْقظَ غَدًا
دونَ عصافِير أوْ غصْنٍ،
والنّدَى…
ماذَا سيَفْعلُ بغُيُومِهِ؟.
تحضر في هذا المقطع الشعري الجمل القصيرة والعبارات الدالة وفق أنساق لغوية دلالية مثيرة تؤسس لصور شعرية توصل القارئ إلى تحديد المعنى وفق رؤًى فكرية معينة؛ حيث تشكل الصور البلاغية أشكالًا من التعبير عن الفكرة بشكل رمزي، فالخريف يقطع أو يبتر قدم آخر ورقة وآخر عصفور، في حين نجد الخريف الأخير مثل حطاب ثَمِل وقطيع حيوانات رمادية؛ بينما يتساءل عن الفجر وأفعاله حين يستيقظ الفجر دون عصافير أو غصن، وعن الندى الذي بغيومه الكثيفة…
إن رؤية الشاعر الجمالية تتأسس في ديوانه على الإيقاع الدلالي لإثارة القارئ واستفزازه ثقافيًا وشعريًا وإثارة عواطفه وفكره والدفع به إلى تأويل النص وإدراكه بشكل مشرع على العالم والانفتاح على الآخر المختلف معه… الشعر هنا يقتحم عوالم جديدة وفضاءات مختلفة يفتح من خلالها مساحات ممكنة لقارئه لاقتحام فضاءاتها الشاسعة المدهشة.
أفق انتظار المتلقي في ديوان «كسماء أخيرة» لـ عماد الدين موسى
يصطاد الشاعر عماد الدين موسى في ديوان «كسماء أخيرة» الفكرة معتمدًا على الخيال والإبداع، حيث اللغة الدالة بوساطة عبارات مكثفة قوية تقدم فكرة خلاقة ورائعة، من أجل جذب القارئ المتلقي وتوجيهه وفق ما يراه وما يحاول الوصول إليه من معنى شعري وثقافي. إن عماد الدين موسى يحاول أن يبحث عن ذاته، عن وسيلة ليعبر عن أسئلته الحارقة، لأن الشعر بالنسبة إليه في أسرع إجابة عن المتغيرات الذاتية وعن الهواجس الخفية لديه ولدى متلقيه في الآن نفسه.
فالذات الشاعرة لا تكون إلا بوجود المتلقي، فهو الأداة المعبرة عن هذا الوجود وعن إشباع الذات بداخل الشاعر ورفع معنوياتها لإتقان دورها والتمكن من تحقيق انتظارات المتلقي للشعر. نشعر ونحن نقرأ هذا الشعر بمتعة الخلق والإبداع، وبالحماسة الفياضة المثيرة للحواس الجامدة والساكنة، فنكون في لحظة تحول تمكننا من تغيير النظرة إلى الحياة:
لا تدْخلِي الغابَةَ عارِيةً
أوْ دونَ نظارَاتِكِ الشّمْسية-
رأْفةً بالطّائِرِ/ العاشِقِ،
لا تتوَغّلِي بيْنَ الأغْصانِ/ وهِيَ نائِمةٌ…
يا النّاعِمةُ كأُنْشودةٍ صباحِيةٍ
أوْ
كحَدِّ السّكّينِ،
لا تقْطِفِي الثّمارَ
لا تَقْصفِيهَا…
قدْ تشْتهِي الثّمْرةُ
شِفاهِكِ/ النحل.
يرتقي الشاعر هنا بالذائقة الشعرية والفنية لمتلقيه، ويحقق لديه المتعة والسحر؛ بل ويثير وعيه الثقافي تجاه الأنثى/ المرأة. ويستمر في ذلك في كل قصائد الديوان حتى يؤكد للمتلقي أنه شاعر يفكر فيه، ويبدع من أجله، ويكتب في إطار طقوس خيالية يتراءى فيها الجمال والتفكير وعشق القصيدة، بل يقاسمه آراءه ومشاعره ومواقفه تجاه الأشياء والأفكار والآخرين.
يشعر المتلقي وهو بصدد قراءة الديوان أن الشاعر يتشبث بالشعر والكتابة الشعرية لأنها تمثل بالأساس إمكانية لإعادة الاعتبار للذات، الذات الشاعرة التي تعيش صراعًا ثقافيًا وهوياتيًا وجماليًا، الذات الشاعرة المثقفة التي تبحث عن المكان الأمثل للممارسة الحياة بمفهومها الخلاق ومحاربة النفاق السياسي الذي ينتج الألم والحزن والسجن والترهيب والخوف والتعذيب والغربة والقتل والتنكيل؛ بل تبحث عن إمكانية للحلم بالأمل والسعادة والفرح والأمن والأمان:
خُذْ فمي أيُّها الطّائِرُ
ولقّنْهُ ما تَشاءُ منْ تغْريداتِكْ.
خُذْ عيْنيَّ أيُّها الطائِرُ
واطْلقْهما في سَماءِ خيَالِكْ.
أيّها الطّائِرُ
أيّها الطّائِرُ
ليْتنِي أهْتدِي إلَى حيَاةٍ أخْرى/
حيَاتِكْ.
ثمة حلم يتجاوز الواقع وقصور الذات الشاعرة فكريًا وإبداعيًا، حيث توجد لحظة نجاح، لحظة معرفة الآخر، وفهم المتلقي والاستعداد للتأثير فيه، وكأننا بالشاعر في رحلة قراءة ومشاهدة وسفر، في لحظة إقامة علاقة حقيقية تفاجئ متلقيه بشكل غير متوقع لإثارة اهتمامه والوصول به إلى برّ الأمان، إلى الجمال.
ثمة ثقة لدى الشاعر بقدرته على تشكيل قصيدة ممتعة، تعبر عن المشاعر وترفع من معنوياته إلى الحد لا تمنعه من البوح بحرية كبيرة عن كل ما يؤمن به، وإن كانت الرمزية غالبة على لغته الشعرية.
يستدعي شعر عماد الدين موسى متلقيه إلى إدراك أسرار بنياته واشتغالات لغته وأسلوبه عبر قيادته داخل منعطفات متباينة ومتداخلة تتحرك بين الأنساق اللغوية المستخدمة؛ كل هذا يتم ضمن دائرة تحفيز المتلقي للبحث عن عوالم أخرى بديلة لما يعرفه مسبقًا، وذلك بإشراكه في عملية صناعة أفق الانتظار والتوقع وفق محددات تمنح النص الشعري قيمته وإبداعيته وجماليته.
إن خلق التفاعل مع المتلقي على مستوى البنية والشكل والمضمون معًا، وتحقيق التواصل معه بشكل أو بآخر، يتم من خلال إضفاء نوع من المعنى للنص قريبًا من المتلقي، ويعكس الحركة الفكرية لديه ويحتوي مواقفه الإنسانية والعاطفية تجاه العالم والأشياء والأفكار.
فقصيدة الشاعر، خاصة في ديوان «كسماء أخيرة»، تقوم على رؤية الشاعر المتقدمة للعالم، يتخطى بها ومن خلالها حدود النقل المباشر للمواقف والمشاعر والأحداث، والتي تتمحور حوله هو نفسه أو حول العالم:
لكَأنَّ الطّرِيقَ إلى الحَقْلِ
توجِزهَا نظْرة السّنونَوةَ الشَّارِدةْ.
الطّرِيقُ المعبّدةُ
بأغْنيةِ العوْدةِ أوِ الرّحيلِ،
الأغْنية
التِي
صمت هذِي السّنونوة أوْ تلْكَ
لا فَرْقَ
لا فرْقَ،
الصّمْتُ
الذِي
لا يُضاهَى بأغْنيَةْ.
يظهر لنا من خلال هذا المقطع الشعري، وفي الديوان كله، أن لغة الشاعر قد أصبحت عاملًا قويًّا في جعل أجزاء النص الشعري بمثابة أدوات لتوصيل الفكرة والموقف ودلالتهما، واستحضار مستوى اللغة الجمالي والفني للتعبير عن مشاعره الصادقة والعميقة تجاه الأشياء والناس. كل هذه الأشياء تؤكد على فكرة أساسية تتجلى في رغبة الشاعر في منح نصه الشعري هويته الجمالية والفنية والشعرية التي تمثله أفضل تمثيل أمام متلقيه.
