عادة ما تكون كتب السيرة والذكريات كتباً مثيرة للقارئ؛ بسبب أنها تتحدّث من جهة عن حياة الكاتب الشخصية، العامة منها والحميميّة، وعن كيفية جريان الزمن والحكايات خلال الأمكنة التي تنقلت خلالها تلك الحياة. ومن جهة أخرى لأنها تورد الكثير من الحقائق التي قد يغفل عنها كتّاب التاريخ سهواً أو عمداً، خاصة إذا كان ذلك الشخص في قلب تلك الأحداث التي يُحاول سرد الحقائق عنها. وفي العموم تعتبر كتب السيرة هذه كتابة لتاريخ شخصيّ، قد لا يهتم أحد آخر بكتابته أو لا يملك الدقة في الكتابة عن تلك الشخصية، وتاريخ عام من وجهة نظر محددة، تُحتمل فيها الدقة إذا لم يظهر ما يُثبت خلاف ذلك. ولكنها، أي كتب السيرة، تُشبع رغبة التلصص لدى القارئ.
من هذه الزوايا يأتي كتاب «رسائل فيوليت، جولة في حياة يهود بغداد» الصادر بنسخته العربية – بترجمة المترجم العراقي والنيوزيلندي علي شاكر، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، عن النسخة الإنكليزية التي صدرت في عام 2006 بعنوان «ذكريات جنة عدن»، ضمن كتب السيرة، وليس ضمن أدب الرسائل المعروف أيضاً.
جذور قديمة جداً
تسرد فيوليت شماش (ولدت في بغداد عام 1912 وتوفيت في لندن عام 2006) أصول عائلتها وطائفتها التي عاشت في العراق منذ أكثر من 2000 عام، وكانت تعد أكبر تجمع للطائفة اليهودية في العالم العربي وآسيا؛ إذ كان عددهم يُقارب 150 ألف شخص في عام 1948، عندما بدأت المشاعر المعادية بحقهم تكبر أكثر بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، وكان هذا العداء قد بدأ مع صعود النازية في ألمانيا واندلاع الحرب العالمية الثانية. وهذا ما قد يُفسر أيضاً أن الطائفة اليهودية – من أصل عراقي – تعد الأكبر آسيوياً داخل “إسرائيل”؛ إذا يبلغ عددهم – وفق إحصائيات رسمية أخيرة – 219 ألف شخص.
بغداد الأخرى
يبدأ الكتاب – الذي جاء في 336 صفحة – برسالة من ميرا إبنة فيوليت إلى المترجم متحدثة فيه عن أمها والرسائل وبغدادها، وطالبة منه ترجمة ما دوّنته والدتها «بحنين وشوق جارفين إلى عالمها المفقود دون أدنى رغبة منها بإثارة الأحقاد أو الانتقا».
بعد المقدمة التوضيحية للمترجم حول رحلته هذه مع كتاب فيوليت ورسائلها، لا يبدأ الكتاب من الرسالة الأولى؛ بل يبدأ من الخاتمة التي كتبتها فيوليت قبل أشهر من رحيلها عن هذا العالم، حيث تقول «في التاسع من نيسان عام 2003، كنت واحدة من بين ملايين المشاهدين حول العالم الذين راحوا يتابعون وقائع إسقاط التمثال الهائل لصدام حسين في وسط بغداد، ورقص العراقيين وتلويحهم بالأعلام احتفالاً بانتهاء حكمه المقيت.. بدت الحشود مبتهجة وهي تجرّ رأس التمثال عبر شوارع كنتُ أتذكر أسماءها، لكنني لم أعد أستطيع التعرف على معالمها».
وبين تاريخ ولادة الكاتبة وبين عام 2003 يكون قد مرّ ما يقارب 100 عام، وهو أمر قد يؤدي بالفعل إلى تغير معالم كثيرة في مدينة ما، ولكن ليس بهذه النسبة الكبيرة في مدينة كانت كبيرة منذ نشوئها كعاصمة لعدة خلافات ودول حتى انتهائها كعاصمة لدولة العراق. إذ تصرّ الكاتبة على وصف بغداد بأنها «بغدادي»، بمعنى أنها ما عادت بغداد التي كانت هي بغداد الآن. إذا تقول في قسم يلي الرسائل بعنوان «الما بعد، كانون الثاني 2006″ في اعتراف أخير للقارئ «قبل عشرين عاماً دوّنت الملاحظة التالية وأنا أشرع في سكب الذكريات الأقرب إلى قلبي: جُل ما سأخبركم عنه لم يعد موجوداً، فتلك كانت بغدادي، أرضي الأم التي ترعرعت في حضنها، وبالكاد بقي لها أثر اليوم، كما لو أنها كانت خطوط طباشير أزالتها ممحاة من على اللوح، استعداداً لكتابة قصة جديدة”.
أعياد كثيرة وأمثال
أكثر من ثلاثة أرباع الكتاب يدور حول شوارع بغداد القليلة آنذاك. عن البيوت والقصور التي باتت تخرج، مثل نخلات من الاسمنت، على ضفة نهر الفرات. عن الطفولة والبيت والإخوة. عن زواج الأب والأم ثم الأخوات. عن أن نمط حياتها خلال سنوات الطفولة كان يطابق حياة أسلافها، «وكانت تقاليدنا مطابقة لتقاليدهم أيضاً، فعائلتنا بأكملها، بما في ذلك جد وجدة بابا، كانت تقيم في المسكن الذي وُلدتُ فيه في حي حنوني».
وتقدم فيوليت للقارئ الأعياد الدينيّة الكثيرة التي يحتفل بها اليهود، وعن طقوس تلك الأعياد، والمحرّمات والقواعد التي كان يخضع لها الصغار والكبار. عن الأطعمة الخاصة بكل عيد، وحتى عن التراتيل التي يجب ترتيلها قبل وخلال وبعد تلك الطقوس، خاصة أن والد فيوليت كان شخصاً متديناً، ولكن بشكل معتدل، وهو الذي بنى كنيساً في القصر الذي انتقلوا للسكن فيه. وإلا كان عليه السير مشياً إلى المدينة للصلاة فيها، «إذ نص الشرع على أن يكون السبت يوماً لراحة الدواب أيضاً، وفي عصرنا هذا قام غلاة المتدينين بتوسيع القاعدة كي تشمل وسائط النقل الأخرى»!!.
بذلك الحنين الجارف تتحدث فيوليت، كما لو أنها تسرد قصة طويلة على أحفادحا الذين لم بزوروا أبداً مسقط رأسها، عن العلاقات الجيدة جداً بين اليهود والمسلمين والمسيحين. عن حكايات مشتركة وحياة مشتركة. وكذلك تتحدث بلغة طفولية عن التغييرات التي كانت تحدث فجأة مع دخول الكهرباء أو الراديو أو حتى مع افتتاح أول صالون حلاقة للنساء، ووقتها شهد الصالون إقبالاً كثيفاً من الفتيات، وهو ما عدّه الكبار خرقاً للأعراف السائدة، فراجت أغنية في تلك الفترة صوّرت استنكارهم للأمر، يقول مطلعها: “بنيّة بت البيت قصّت شعرها”. وكان المستمعون يعقبون بالقول “أعنّا يا الله. إلى أين سيقودنا تخلّي فتياتناّ عن حيائهنّ؟”.
أصول مختلفة
ترجع سلالة “إسحيق” في أصولها إلى حلب السورية، لكنها غادرتها في مطلع القرن الثامن عشر “كما هو مدوّن في وثيقة شجرة العائلة التي ما زالت بحوزتي”. تلك الوثيقة تقول كذلك بأن الجد الأكبر (سحاق) كان قد قدم إلى بغداد ضمن حاشية الحاخام (صدقة) الذي قيل أنه كان بالأصل من “سالونيكا”، المدينة التي آوت الكثير من اليهود الفارين من ظلم محاكم التفتيش في إسبانيا خلال القرن السادس عشر. اتخذ أحفاد (سحاق) ألقاباً متعددة كانت تنويعات من اسم الجد، بينما عُرف الفرع الذي استقر في لندن باسم (ساسون) “نسبة إلى الاسم الأول لجدي ساسون”.
بدءاً من عام 1941 بدأ انهيار تواجد تلك العائلات في العراق، مع الدعاية النازية الألمانية – عبر راديو ألمانيا باللغة العربية ضد اليهود- فصار في العراق تشكيل “الفتوة”، وعاش السكان رعباً هائلاً مع “قيام مجموعات من الغوغاء بجوب الأحياء اليهودية، والتعرض لسكانها بالمضايقة والنهب، وفي بعض الأحيان الاغتصاب والقتل وإضرام النيران، وحتى تحطيم أجهزة المذياع بزعم وجود شياطين في داخلها تردد الأغاني اليهودية”.
تصاعدت تلك الأحداث من حرق ونهب وقتل إلى ما سمّي بأحداث “الفرهود” التي أدت إلى مقتل 179 شخصاً وإصابة 2000 شخص.
بعد صدور قانون في عام 1950 عن البرلمان العراقي سمح لليهود بمغادرة العراق إلى إسرائيل أو غيرها، بشرط إسقاط الجنسية العراقية عنهم ومصادرة جميع أموالهم وممتلكاتهم، غادر العراق أكثر من 95 % من أصل 150 ألف يهودي. بينما هاجر ما تبقي منهم خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
فيوليت شماش كانت إحدى شاهدات أوقات الرخاء وأوقات القتل والتهجير كذلك، ولكن طوال الرسائل الأربع الأخيرة، من أصل 14 رسالة، التي تحدثت فيها عن تلك الأهوال، لم تحمل مشاعر الحقد والدعوة إلى الإنتقام. بل كتبت “لن ننسى ما حيينا المشاعر الودودة التي أحاطها بنا جيراننا خلال محنتنا، ولا لطفهم وكرم ضيافتهم اللذين غمرانا بها، فبالرغم من حراجة الأوضاع والخطر الذي هدد حياتنا، تمكنت صداقة اليهود والمسلمين من الصمود بوجه التحديات”. كتاب “رسائل فيوليت” لا يفقد حميميّته برغم تلك المآسي، ويظل مرجعاً جيداً للحكايات والأمثال والحارات والأطعمة وطباع الناس والعادات والتقاليد التي تابعت تغيّرها ببطء. هو كتاب حميميّ يحوّل المكان إلى شيء شخصيّ أكثر منه كشيء عام. فهي تقول في آخر الكتاب: “غايتي من كتابة رسائلي هذه أن أخبركم أيها الأبناء والأحفاد عن أصولكم الحقيقية قبل أن يندثر كل شيء (..) أردت أن أروي لكم تفاصيل عيشنا، وما مررنا به دون إصدار أحكام، فبغدادنا، بغدادي، ذهبت ولن تعود”.