أحبار التُرجُمانمكتبة بورخيس

هاروكي موراكامي.. الروائي الراكض | ترجمة: مروان عثمان

العمر الذي بدأت فيه حياتي كعداء، وكان بمثابة نقطة البداية المتأخرة، ولكن الحقيقية، كروائي

هاروكي موراكامي.. الروائي الراكض

نشر هذا المقال بقلم الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي في موقع (The New Yorker)  في يونيو ٢٠٠٨، وقد ترجمه من اليابانية إلى الإنجليزية فيليب غابرييل (Philip Gabriel). وإن تبدّى للقارئ أن هاروكي موراكامي يتحدث عن علاقته برياضة الجري؛ إلا أنه يسرد في سياقات متوازية كيف قرر أن يصبح روائيا وهو في الثلاثينات من عمره، وكيف تطور هذا الشغف ليصير روائيا محترفا وذي شهرة عالمية.

***

مر وقتٌ طويل منذ بدأت في الركض بمعدلٍ يومي، بالتحديد في خريف عام 1982. كنتُ في الثالثة والثلاثين آنذاك. قبل ذلك بوقتٍ ليس بالطويل، كنتُ صاحب نادٍ صغير للجاز في طوكيو بالقرب من محطة سنداجايا. فبعد انتهائي من الدراسة الجامعية، انشغلتُ بالوظائف الجانبية لدرجة أنني كنتُ على مبعدة بضع درجات من التخرج ولا أزالُ طالبًا رسميًا، وفتحتُ ناديًا صغيرًا بالقرب من المدخل الجنوبي لمحطة كوكوبونجي. ظل النادي مفتوحًا لحوالي ثلاث سنوات. وبعد ذلك حينما أُغلق المبنى الذي يقع فيه النادي بغرض تجديده، نقلته إلى مكانه الجديد بالقرب من وسط طوكيو.

لم يكن المكان الجديد كبيرًا. كان لدينا بيانو كبير، ومساحة بالكاد تكفي لحشر فرقة خماسية وقوفًا. كان مقهىً خلال النهار، وفي الليل بار. قدمنا طعامًا لائقًا أيضًا. وقدمنا العروض الحية في عطلات نهاية الأسبوع. هذا النوع من النوادي كان لا يزال نادرًا في طوكيو في ذلك الوقت. لذلك اكتسبنا زبائن ثابتين، ودرَ المكان دخلًا جيدًا.

معظم أصدقائي كانوا قد توقعوا فشل النادي. لقد ارتأوا أن مؤسسة تدار على سبيل الهواية لا يمكن لها النجاح، وأن شخصًا ساذجًا جدًا مثلي، تُثار الشكوك حول امتلاكه أدنى قدر من الموهبة في مجال الأعمال التجارية، لن يتمكن من تحقيق النجاح. حسنًا، توقعاتهم كانت خاطئة تمامًا.

الحقيقة أنني لم أعتقد بامتلاكي الكثير من الموهبة في مجال الأعمال التجارية (البيزنس)، بل اعتقدتُ أن الفشل ليس خيارًا واردًا. ولذا كان لزامًا عليَّ أن أبذل قصارى جهدي. وتلخصت قوتي في قدرتي على العمل بجد وتحمل الكثير من الأعباء الجسدية. فأنا اعتبر نفسي حصان عمل أكثر من كوني حصان سباق.

لقد نشأتُ في أسرة من ذوي الياقات البيضاء (الموظفين)، لذا لم أكن أعلم الكثير عن ريادة الأعمال، لكن لحسن حظي، كانت أسرة زوجتي تدير عملًا تجاريًا، وكان حدسها الطبيعي عونًا كبيرًا لي.

العمل نفسه كان صعبًا. أبقى في النادي من النهار حتى الليل، وأغادره منهكًا. امتلكتُ كل أنواع الخبرات المؤلمة والعديد من الإحباطات. لكن بعد فترة، حققتُ ربحًا كافيًا لتعيين آخرين للعمل معي، وأخيرًا استطعتُ التفاط أنفاسي. فلكي أبدأ مشروعي اقترضتُ كل الأموال التي استطعتُ اقتراضها من أي بنك يمكنه إقراضي. وفي تلك اللحظة كنتُ قد سددتُ منه الكثير وبدأت الأمور تستقر. حتى تلك النقطة، تعلق الأمر ببقائي على قيد الحياة فقط، ولم أملك وقتًا للتفكير في أي شيء آخر. والآن، شعرتُ كأني وصلتُ إلى قمة سلم شديد الانحدار، وخرجتُ إلى مسافة مفتوحة. وثقتُ في إمكانية تعاملي مع أي مشاكل جديدة قد تظهر. أخذتُ نفسًا عميقًا، وتطلعتُ خلفي إلى السلالم التي تسلقتها. ثم التفتُ ببطء حولي وبدأتُ في التفكير في المرحلة القادمة من حياتي. شعرتُ بالعطش. لقد بلغتُ سنًا لم يعد من الممكن اعتباري شابًا عندها. وفجأة دون مقدمات، خطرت لي فكرة كتابة رواية.

يمكنني الإشارة إلى اللحظة الفعلية التي حدث فيها ذلك. كنتُ في ستاد جينجو، في الملعب الخارجي، على مسافة قريبة من شقتي في ذلك الوقت. وكنتُ من أشد المعجبين بفريق ياكولت سوالوز. كان يومًا ربيعيًا جميلًا بلا غيوم، مع هبوب نسيم دافئ. في ذلك الوقت، لم تكن هنالك مقاعد في منطقة الجلوس في الملعب الخارجي، فقط منحدر عشبي. كنتُ مستلقيًا على العشب، أحتسي بيرة باردة، أتطلع إلى السماء من حين لآخر، واستمتع باللعبة. وكالعادة لم يكن الاستاد مزدحمًا للغاية.

كانت المباراة الافتتاحية للموسم، وفريق سوالوز ياكولت يتنافس مع فريق هيروشيما كارب. كان تاكيشي ياسودا يلعب لصالح فريق سوالوز. كان راميًا قصير القامة كُراته منحنية وشريرة. تمكن بسهولة من ترجيح الكفة في الشوط الأول. وكان ديف هيلتون، وهو لاعب أمريكي شاب كان جديدًا على الفريق، وهو الضارب الأول لفريق سوالوز. تمكن هيلتون من ضرب الكرة على خط الملعب الأيسر، وتردد صدى صوت ارتطام المضرب بالكرة في أرجاء الملعب.

لقد تمكن هيلتون من الالتفاف بسهولة حول القاعدة الأولى، ثم رفعها إلى القاعدة الثانية. وفي تلك اللحظة بالذات، باغتتني فكرة:

«أتعلم؟ يمكنك المحاولة في كتابة رواية».

مازلتُ أتذكر السماء المفتوحة، شعور العشب الجديد، وصوتُ الارتطام الممتع للكرة بالمضرب. لقد هبط عليًّ شيء من السماء في تلك اللحظة. ومهما كان هذا الشيء، فقد تقبلته.

لم يكن لدي أي طموح لأصبح روائيًا، فقط رغبة قوية في كتابة رواية.

لم أمتلك صورة محددة لما أريد أن أكتب عنه، فقط قناعتي بقدرتي على التوصل إلى شيء أجده مُقنعًا.

وعندما فكرتُ في الجلوس على مكتبي في المنزل والبدء في الكتابة، أدركتُ أنني لا أملك قلم حبرٍ جيد. فذهبتُ إلى متجر كينوكونيا في شينجوكو واشتريتُ قلم سيلور وحزمة من الورق المخطط بقيمة خمسة دولارات، وكان ذلك استثمارًا صغيرًا من جانبي.

 

رواية

وبحلول ذلك الخريف، كنتُ قد انتهيتُ من عمل مكتوب بخط اليد يتألف من مائتي صفحة، وليس أي فكرة عما ينبغي لي أن أفعله به. لذلك استسلمتُ للزخم وقدمتُ عملي إلى مسابقة الكُتاب الجدد التي تنظمها مجلة جونزو الأدبية. أرسلته دون أن أطبع منه نسخة. يبدو أنني لم أهتم كثيرًا باختفائه للأبد إذا لم يتم اختياره.

لقد كنتُ مهتمًا بإنهاء الكتاب أكثر من اهتمامي بما إذا كان سيرى النور أم لا.

فاز فريق سوالوز، الفريق الأضعف على الدوام، بالراية في ذلك العام. واستمر في هزيمة فريق هانكيو بريفز في بطولة اليابان. لقد تحمستُ حقًا لهذا الأمر. وحضرتُ العديد من المباريات في ملعب كوراكوين. لم يتخيل أحد في الواقع أن سوالوز سيفوز، لذلك استولى على ملعبهم الرئيسي، ملعب جينجو، فريق البيسبول الجامعي. كان خريفًا رائعًا بشكل مميز. السماء صافية وأشجار الجينكو أمام معرض جينجي التذكاري أكثر ذهبية مما رأيتها من قبل. كان هذا آخر خريفٍ في العشرينيات من عمري.

بحلول الربيع التالي، عندما تلقيتُ مكالمة هاتفية من محرر جونزو يخبرني فيها بأن روايتي قد وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة، كنتُ قد نسيتُ تمامًا أنني اشتركتُ في المسابقة، ومشغولًا جدًا بأشياء أخرى.

فازت الرواية بالجائزة ونُشرت في ذلك الصيف تحت عنوان «استمع إلى غناء الريح»، ولاقت استقبالًا جيدًا. وبدون أن أعرف حقًا ما الذي يحدث، وجدتُ نفسي مصنفًا ككاتب واعد. ودُهشت، لكن الأشخاص الذين يعرفونني، كانوا أكثر دهشة.

بعد ذلك، وبينما كنتُ لا أزالُ أدير نادي الجاز، انتجتُ رواية ثانية متوسطة الحجم بعنوان «بينبول» عام 1973. كما كتبتُ بعض القصص القصيرة. وترجمتُ بعض قصص سكوت فيتزجيرالد. ورُشِحَت كلا من روايتي «استمع إلى غناء الريح« و”بينبول» لجائزة أكوتاجاوا المرموقة. ولكن في النهاية لم تفز أي منهما. لم أهتم بأي حال من الأحوال. ربما لو فزتُ بالجائزة آنذاك لانشغلتُ بإجراء المقابلات الصحفية وإنهاء مهام الكتابة المُوكلة إليَّ، وكنتُ خائفًا من تعارض هذا مع واجباتي في النادي.

قمتُ بإدارة نادي الجاز الخاص بي لمدة ثلاث سنوات؛ كنتُ أدير الحسابات، أتحقق من المخزن، أضع جدولًا زمنيًا للموظفين، أقف خلف البار لأطهو وأخلط الكوكتيلات، ثم أغلق النادي في ساعات الصباح الباكر. وبعد ذلك فقط يصبح بوسعي أن أكتب في المنزل، على طاولة المطبخ، إلى أن يغلبني النعاس.

شعرتُ كأنني أعيش حياة شخصين. ووجدتُ نفسي مع مرور الوقت راغبًا في كتابة نوع أكثر جوهرية من الروايات. لقد استمتعتُ بعملية كتابة أول كتابين لي، ولكن هنالك أجزاء من كليهما لم أرضَ عنها. فلم أكن قادرًا على الكتابة إلا على فترات متقطعة. اختطف فترات قصيرة من الوقت، نصف ساعة هنا، وساعة هناك، ولأنني كنتُ أشعر دومًا وكأني في سباق مع الزمن، لم أقدر قط على التركيز بشكل جيد. وبفضل هذا المنهج المشتت، تمكنتُ من كتابة بضعة أشياء جديدة ومثيرة للاهتمام. لكن النتيجة كانت بعيدة كل البعد عن العمق أو التعقيد.

شعرتُ كأني حصلتُ على فرصة رائعة لأصبح روائيًا. كانت لدي رغبة طبيعية في اغتنام هذه الفرصة قدر الإمكان. لذا بعد الكثير من التفكير، قررتُ إغلاق المشروع والتركيز فقط على الكتابة.

حينذاك كان دخلي من نادي الجاز أكبر بكثير من دخلي كروائي، وهو الواقع الذي استسلمتُ له.

معظم أصدقائي عارضوا قراري بشدة. أو على الأقل كان لديهم شكوك حوله. قالوا: إن عملك يسير على ما يرام الآن، فلماذا لا تسمح لشخص آخر بإداراته بينما تكتب رواياتك؟!

لكني لم أستطع إتباع نصيحتهم. أنا من النوع الذي يتعين عليه الالتزام تمامًا بكل ما يفعله. إذا فشلتُ بعد الالتزام، يمكنني تقبل الفشل. لكني أعلم أنني إذا فعلتُ الأشياء بنصف حماسٍ ولم تنجح، فسأظل نادمًا على الدوام.

لذلك بعتُ النادي رغم اعتراضات الجميع. وبقليل من الخجل أعلنت نفسي كروائي. وأوضحتُ لزوجتي: «أودُ أن أكون حرًا في الكتابة لمدة عامين. وإذا لم تنجح الأمور، فيمكننا دائمًا فتح بار آخر في مكانٍ ما، ما زلتُ شابًا وسيكون لدينا الوقت للبدء من جديد». كان ذلك في عام 1981. كان لدينا قدر كبير من الديون. لكني قررتُ بذل قصارى جهدي ورؤية ما سيحدث.

استقريتُ لكتابة روايتي، وفي ذلك الخريف سافرتُ إلى هوكايدو لمدة أسبوع للبحث حول موضوعها. وبحلول شهر إبريل التالي. أتممتُ «مطاردة الأغنام البرية». كانت هذه الرواية أطول بكثير من سابقتيها، أوسع نطاقًا، وأكثر تركيزًا على القصة. وبانتهائي من كتابتها، تولد لدي شعور جيد بأني ابتكرتُ أسلوبي الخاص. والآن يمكنني تخيل نفسي أعيش كروائي.

كان المحررون في جونزو يبحثون عن شيء رائج، ولم يهتموا كثيرًا بـ«مطاردة الأغنام البرية». ومع ذلك بدا أن القراء أحبوا الكتاب الجديد، وهو ما جعلني أسعد حالًا. وكانت تلك هي نقطة البداية الحقيقية بالنسبة لي كروائي.

بمجرد أن قررت أن أصبح كاتبًا محترفًا، نشأت مشكلة أخرى؛ كيفية الحفاظ على لياقتي البدنية. كانت إدارة النادي تتطلب عملًا بدنيًا مستمرًا، ولكن بمجرد أن جلست على مكتبي أكتب طوال اليوم، بدأت في اكتساب الوزن. كما كنت أدخن كثيرًا – ستين سيجارة في اليوم. كانت أصابعي صفراء، ورائحة الدخان تفوح من جسدي. قررت أن هذا لا يمكن أن يكون جيدًا بالنسبة لي إذا كنت أريد أن أعيش حياة طويلة كروائي، فأنا بحاجة إلى إيجاد طريقة للحفاظ على لياقتي.

كتمرين، فإن الركض له الكثير من المزايا. أولاً وقبل كل شيء، لست بحاجة إلى شخص يساعدك في ذلك؛ ولا تحتاج إلى أي معدات خاصة. لست مضطرًا للذهاب إلى أي مكان معين للقيام بذلك. طالما لديك زوج من أحذية الجري وطريق جيد، يمكنك الركض كما يحلو لي.

قررت تغيير نمط حياتي بالكامل بعد إغلاقي للنادي، انتقلت أنا وزوجتي إلى ناراشينو، في محافظة تشيبا. كانت المنطقة ريفية إلى حد كبير في ذلك الوقت، ولم تكن هناك مرافق رياضية لائقة حولها. ولكن كانت هناك قاعدة لقوات الدفاع الذاتي في مكان قريب، والطرق جيدة الصيانة. ومنطقة تدريب في الحي بالقرب من جامعة نيهون، وإذا ذهبت إلى هناك في الصباح الباكر، عندما لا يكون هناك أي شخص آخر حولي، يمكنني استخدام المضمار. لذلك لم يكن عليّ التفكير كثيرًا في النشاط الذي يجب اختياره. وبدأت في الجري.

بعد ذلك بوقت قصير، أقلعت أيضًا عن التدخين. لم يكن الأمر سهلاً، لكنني لم أستطع حقًا الجري والاستمرار في التدخين. كانت رغبتي في الجري بمثابة مساعدة كبيرة في التغلب على أعراض الانسحاب. كان الإقلاع عن التدخين أيضًا بمثابة لفتة رمزية لوداع للحياة التي اعتدت أن أعيشها.

 لم أهتم كثيرًا بدروس اللياقة البدنية أو يوم الرياضة في المدرسة، لأن هذه الأنشطة كانت مفروضة علي من الأعلى. ولكن كلما أتيحت لي الفرصة للقيام بشيء أحبه، وفي الوقت الذي أريده، وبالطريقة التي أريدها، كنت أبذل قصارى جهدي. ولأنني لم أكن رياضياً أو ذو جسد متناسق، لم أكن بارعاً في نوع الرياضة التي يتم فيها اتخاذ القرارات في لمح البصر.

 أما الجري لمسافات طويلة فهو يناسب شخصيتي بشكل أفضل، وهو ما قد يفسر لماذا تمكنت من دمجه بسلاسة في حياتي اليومية. ويمكنني أن أقول نفس الشيء عن نفسي وعن الدراسة. فخلال فترة تعليمي بالكامل، من المدرسة الابتدائية إلى الكلية، لم أكن مهتماً أبداً بالأشياء التي أُجبِرت على دراستها. ونتيجة لهذا، ورغم أن درجاتي لم تكن من النوع الذي يتعين عليك إخفاؤه عن الناس، فإنني لا أتذكر أنني تلقيت أي إشادة على أدائي الجيد أو درجاتي الجيدة، أو كوني الأفضل في أي شيء. ولم أبدأ في الاستمتاع بالدراسة إلا بعد أن اجتزت النظام التعليمي وأصبحت ما يسمى “عضواً في المجتمع”. وإذا كان هناك شيء يثير اهتمامي، وكنت قادراً على دراسته بالسرعة التي أريدها، فقد كنت كفؤاً إلى حد معقول في اكتساب المعرفة.

كان أفضل شيء في أن أصبح كاتبًا محترفًا هو أنني كنت أستطيع الذهاب إلى الفراش مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا. عندما كنت أدير النادي، لم أكن أنام كثيرًا حتى الفجر تقريبًا. كان النادي يغلق أبوابه في الثانية عشرة، ولكن كان عليّ بعد ذلك أن أنظف، وأراجع الإيصالات، وأجلس وأتحدث، وأتناول مشروبًا للاسترخاء. أفعل كل هذا، وقبل أن تدرك ذلك، تكون الساعة الثالثة صباحًا وشروق الشمس على وشك الحدوث. غالبًا ما كنت لا أزال جالسًا على طاولة المطبخ، أكتب، بينما يبدأ الضوء في الظهور في الخارج. وبطبيعة الحال، بحلول الوقت الذي أستيقظ فيه في اليوم، تكون الشمس مرتفعة بالفعل في السماء.

بمجرد أن بدأت حياتي كروائي، قررت أنا وزوجتي أن ننام بعد حلول الظلام مباشرة ونستيقظ مع شروق الشمس. في أذهاننا، كانت هذه طريقة أكثر طبيعية واحترامًا للعيش. قررنا أيضًا أنه من ذلك الحين فصاعدًا سنحاول رؤية الأشخاص الذين نريد رؤيتهم فقط، وبقدر الإمكان، نتجنب رؤية أولئك الذين لا نريد رؤيتهم. لقد شعرنا أنه، لفترة من الوقت على الأقل، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بهذا التسامح المتواضع.

في حياتي الجديدة البسيطة العادية، كنت أستيقظ قبل الساعة الخامسة صباحًا وأذهب إلى الفراش قبل الساعة العاشرة مساءً. يكون الأشخاص المختلفون في أفضل حالاتهم في أوقات مختلفة من اليوم، لكنني بالتأكيد شخص صباحي. في ذلك الوقت أستطيع التركيز. بعد ذلك، أمارس الرياضة أو أقوم بمهمات لا تتطلب الكثير من التركيز. في نهاية اليوم، أسترخي أو أقرأ أو أستمع إلى الموسيقى. بفضل هذا النمط، تمكنت من العمل بكفاءة الآن لمدة سبعة وعشرين عامًا. ومع ذلك، فهو نمط لا يسمح بالكثير من الحياة الليلية، وأحيانًا يجعل هذا العلاقات مع الآخرين إشكالية. يشعر الناس بالإهانة عندما ترفض دعواتهم مرارًا وتكرارًا. ولكن في تلك المرحلة، شعرت أن العلاقة التي لا غنى عنها التي يجب أن أبنيها في حياتي ليست مع شخص معين ولكن مع عدد غير محدد من القراء. سوف يرحب قرائي بأي أسلوب حياة أختاره، طالما أنني أتأكد من أن كل عمل جديد يمثل تحسناً عن سابقه. ألا ينبغي أن يكون هذا واجبي – وأولويتي القصوى – كروائي؟ أنا لا أرى وجوه قرائي، لذا فإن علاقتي بهم هي علاقة مفاهيمية بمعنى ما، لكنني اعتبرتها باستمرار أهم شيء في حياتي.

أو بكلماتٍ أخرى، لا يمكنني إرضاء الجميع.

حتى عندما كنت أدير النادي، كنت أدرك هذا. كان الكثير من العملاء يأتون إلى النادي. إذا استمتع واحد من كل عشرة بالمكان وقرر العودة مرة أخرى، فهذا يكفي. إذا كان الواحد من كل عشرة من العملاء الدائمين، فإن العمل سيبقى. بعبارة أخرى، لم يكن الأمر مهمًا إذا لم يحب تسعة من كل عشرة أشخاص النادي. لقد أزال إدراك هذا ثقلاً عن كاهلي. ومع ذلك، كان علي التأكد من أن الشخص الوحيد الذي أحب المكان أحبه حقًا. ولكي أفعل ذلك، كان علي أن أوضح فلسفتي تمامًا، وأن أحافظ عليها بصبر مهما حدث. هذا ما تعلمته من إدارة الأعمال.

بعد رواية «مطاردة الخراف البرية»، واصلت الكتابة بنفس الموقف الذي طورته كصاحب عمل. ومع كل عمل، زاد عدد قرائي – الذين يكررون قراءتي بنسبة واحد من كل عشرة. كان هؤلاء القراء، ومعظمهم من الشباب، ينتظرون بصبر ظهور كتابي التالي، ثم يشترونه ويقرؤونه بمجرد وصوله إلى المكتبات. كان هذا بالنسبة لي هو الوضع المثالي، أو على الأقل مريحًا للغاية. واصلت كتابة الأشياء التي أردت كتابتها، بالطريقة التي أردت كتابتها بها بالضبط، وإذا سمح لي ذلك بكسب لقمة العيش، فلن أطلب المزيد. عندما باعت روايتي «الغابة النرويجية» بشكل غير متوقع أكثر من مليوني نسخة، كان لزامًا على الأمور أن تتغير قليلاً، ولكن هذا كان في وقت لاحق، في عام 1987.

عندما بدأت في الجري لأول مرة، لم يكن بوسعي الجري لمسافات طويلة. لم أستطع الجري إلا لمدة عشرين أو ثلاثين دقيقة. حتى ذلك الوقت كان يجعلني ألهث، وقلبي ينبض بقوة، وساقاي ترتعشان. لم أمارس الرياضة حقًا لفترة طويلة. في البداية، كنت أشعر بالحرج أيضًا من أن يراني الناس في الحي وأنا أركض. ولكن مع استمراري في الجري، بدأ جسدي يتقبل حقيقة أنه يركض، وزادت قدرتي على التحمل تدريجيًا. اكتسبت شكل العدائين، وأصبح تنفسي أكثر انتظامًا، واستقر نبضي. لم يكن الأمر الرئيسي هو السرعة أو المسافة بقدر ما كان الجري كل يوم، دون استثناء.

لذا دمجتُ الجري في روتيني اليومي مثل الأكل والنوم والأعمال المنزلية والكتابة. وبما أنه أصبح عادة طبيعية، فقد شعرت بخجل أقل حيال ذلك. ذهبت إلى متجر رياضي واشتريت بعض معدات الجري وبعض الأحذية اللائقة. اشتريت ساعة رقمية أيضًا، وقرأت كتابًا عن الجري.

عندما أعود بالذاكرة الآن، أعتقد أن أكثر ما أسعدني هو أنني ولدتُ بجسد قوي وصحي. وقد مكنني هذا من الجري يوميًا لأكثر من ربع قرن الآن، والتنافس في عدد من السباقات على طول الطريق. لم أصب قط، ولم أُصَب بأذى، ولم أمرض مرة واحدة. لست عداءً رائعًا، لكنني عداء قوي. هذه واحدة من الهبات القليلة جدًا التي يمكنني أن أفخر بها.

جاء عام 1983 وشاركت في أول ماراثون لي. لم يكن السباق طويلاً ـ 5 كيلومترات ـ ولكن للمرة الأولى كان لدي رقم مثبت على قميصي وانتظرت في مجموعة كبيرة من العدائين الآخرين حتى سمعت صيحة رسمية تقول: «استعدوا وانطلقوا!» وبعد ذلك فكرت، “حسناً، لم يكن الأمر سيئاً إلى هذا الحد!” في شهر مايو، خضت سباقاً بطول خمسة عشر كيلومتراً حول بحيرة ياماناكا، وفي يونيو، راغباً في اختبار مدى قدرتي على الركض، قمت بدورات حول القصر الإمبراطوري في طوكيو. درت حول القصر سبع مرات، بإجمالي 22.4 ميلاً، بوتيرة لائقة إلى حد ما، ولم تؤلمني ساقاي على الإطلاق. وقررت أنني ربما أستطيع الركض في ماراثون. وفي وقت لاحق، اكتشفت بالطريقة الصعبة أن أصعب جزء من الماراثون يأتي بعد اثنين وعشرين ميلاً. (لقد شاركت الآن في ستة وعشرين ماراثوناً).

عندما أنظر إلى صوري الفوتوغرافية التي التقطت لي في منتصف الثمانينيات، من الواضح أنني لم أكن أمتلك بعد بنية جسدية مناسبة للركض. لم أركض بالقدر الكافي، لم أبن العضلات اللازمة؛ كانت ذراعاي نحيفتين للغاية، وساقاي نحيفتين للغاية. لقد أذهلني أنني كنت قادرًا على الركض في ماراثون على الإطلاق بجسد مثل هذا. الآن، بعد سنوات من الجري، تغيرت عضلاتي تمامًا. ولكن حتى في ذلك الوقت، كنت أشعر بالتغيرات الجسدية التي تحدث كل يوم، وهو ما أسعدني حقًا. شعرت أنه على الرغم من أنني تجاوزت الثلاثين من عمري، لا يزال لدي وجسدي بعض الإمكانيات المتبقية. وكلما ركضت أكثر، كلما كشفت عن إمكاناتي.

جنبًا إلى جنب مع هذا، بدأ نظامي الغذائي يتغير أيضًا. بدأت أتناول الخضراوات في الغالب، مع الأسماك كمصدر رئيسي للبروتين. لم أكن أحب اللحوم كثيرًا على أي حال، وأصبح هذا النفور أكثر وضوحًا الآن. قللت من تناول الأرز والكحول وبدأت في استخدام المكونات الطبيعية فقط. لم تكن الحلويات مشكلة، لأنني لم أهتم بها كثيرًا.

عندما أفكر في الأمر، فإن امتلاك نوع الجسم الذي يكتسب الوزن بسهولة ربما يكون نعمة مقنعة. بعبارة أخرى، إذا كنت لا أريد اكتساب الوزن، فيتعين عليّ أن أمارس الرياضة بجد كل يوم، وأن أراقب ما أتناوله من طعام، وأن أتجنب الإفراط في تناول الطعام. والأشخاص الذين يحافظون على وزنهم بشكل طبيعي لا يحتاجون إلى ممارسة الرياضة أو مراقبة نظامهم الغذائي. ولهذا السبب، في كثير من الحالات، تتدهور قوتهم البدنية مع تقدمهم في السن. أولئك منا الذين لديهم ميل إلى اكتساب الوزن يجب أن يعتبروا أنفسهم محظوظين لأن الضوء الأحمر مرئي بوضوح. بطبيعة الحال، ليس من السهل دائمًا رؤية الأشياء بهذه الطريقة.

أعتقد أن وجهة النظر هذه تنطبق أيضًا على وظيفة الروائي. فالكتاب الذين يتمتعون بموهبة فطرية يمكنهم الكتابة بسهولة، بغض النظر عما يفعلونه أو لا يفعلونه. ومثل الماء من نبع طبيعي، تتدفق الجمل ببساطة، وبجهد ضئيل أو بدون جهد، يمكن لهؤلاء الكتاب إكمال عمل ما. لسوء الحظ، أنا لا أنتمي إلى هذه الفئة. إنني مضطر إلى دق الصخر بإزميل وحفر حفرة عميقة قبل أن أتمكن من تحديد مصدر إبداعي. وفي كل مرة أبدأ فيها رواية جديدة، يتعين عليّ حفر حفرة أخرى. ولكن مع استمراري في هذا النوع من الحياة على مدى سنوات عديدة، أصبحت كفؤًا للغاية، من الناحية الفنية والجسدية، في فتح تلك الثقوب في الصخر وتحديد عروق المياه الجديدة. وبمجرد أن ألاحظ جفاف أحد المصادر، أنتقل إلى مصدر آخر. وإذا اكتشف الأشخاص الذين يعتمدون على نبع طبيعي من الموهبة فجأة أنهم استنفدوا مصدرهم، فإنهم في ورطة.

بعبارة أخرى، دعونا نواجه الأمر: الحياة غير عادلة في الأساس. ولكن حتى في موقف غير عادل، أعتقد أنه من الممكن البحث عن نوع من العدالة.

عندما أخبر الناس أنني أركض كل يوم، فإن بعضهم ينبهرون. يقولون لي: «لا بد أنك تتمتع بقوة إرادة كبيرة». بالطبع، من الجيد أن تُمتدح بهذه الطريقة – أفضل بكثير من أن يتم الاستخفاف بك. ولكنني لا أعتقد أن قوة الإرادة وحدها هي التي تجعل المرء قادراً على القيام بشيء ما. فالعالم ليس بهذه البساطة. ولأكون صادقاً، لا أعتقد حتى أن هناك ارتباطاً كبيراً بين ركضي كل يوم وبين امتلاكي لقوة الإرادة أم لا. وأعتقد أنني تمكنت من الركض لأكثر من خمسة وعشرين عاماً لسبب واحد: أنه يناسبني. أو على الأقل، لا أجد الأمر مؤلماً للغاية. فالبشر يستمرون بطبيعة الحال في القيام بالأشياء التي يحبونها، ولا يستمرون في القيام بالأشياء التي لا يحبونها.

ولهذا السبب لم أوصي الآخرين قط بالركض. فإذا كان لدى شخص ما اهتمام بالركض لمسافات طويلة، فسوف يبدأ في الركض بمفرده. وإذا لم يكن مهتماً بذلك، فلن يحدث أي قدر من الإقناع أي فرق. فالركض في سباقات الماراثون ليس رياضة تناسب الجميع، كما أن كون المرء روائياً ليس وظيفة تناسب الجميع. ولم يوصني أحد قط أو حتى اقترح علي أن أكون روائياً ـ بل إن البعض حاولوا منعي. لقد كانت لدي ببساطة فكرة أن أكون روائياً، وهذا ما فعلته. يصبح الناس عدّائين لأنهم مقدرون لذلك.

بغض النظر عن مدى ملاءمة الجري لمسافات طويلة لي، فمن المؤكد أن هناك أيامًا أشعر فيها بالخمول ولا أريد القيام بذلك. في مثل هذه الأيام، أحاول التوصل إلى كل أنواع الأعذار المعقولة لعدم الجري. ذات مرة، أجريت مقابلة مع العدّاء الأوليمبي توشيهيكو سيكو، بعد اعتزاله الجري مباشرة. سألته، «هل يشعر عدّاء في مستواك أنك تفضل عدم الجري اليوم؟» حدق فيّ ثم أجاب بصوت أوضح تمامًا مدى غباء السؤال الذي يعتقد أنه يعتقد أنه سؤال، «بالطبع. طوال الوقت!»

الآن عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء، أستطيع أن أرى كم كان السؤال غبيًا. أعتقد أنه حتى في ذلك الوقت كنت أعرف مدى غباء السؤال، لكنني أردت سماع الإجابة مباشرة من شخص من عيار سيكو. أردت أن أعرف ما إذا كنا، على الرغم من اختلافنا كثيرًا من حيث القوة والحافز، نشعر بنفس الشعور عندما نربط أحذية الجري في الصباح. لقد كان رد سيكو بمثابة راحة كبيرة. ففي التحليل النهائي، اعتقدت أننا جميعًا متشابهون.

الآن، كلما شعرت بأنني لا أريد الركض، أسأل نفسي دائمًا نفس السؤال: أنت قادر على كسب لقمة العيش كروائي، والعمل في المنزل، وتحديد ساعات عملك بنفسك. لست مضطرًا للتنقل في قطار مزدحم أو الجلوس في اجتماعات مملة. ألا تدرك كم أنت محظوظ؟ مقارنة بذلك، فإن الركض لمدة ساعة حول الحي لا يعد شيئًا، أليس كذلك؟ ثم أربط حذائي الرياضي وأنطلق دون تردد. أقول هذا وأنا أعلم جيدًا أن هناك أشخاصًا يفضلون ركوب قطار مزدحم وحضور اجتماعات بدلاً من الركض كل يوم.

على أي حال، هكذا بدأت الركض. في الثالثة والثلاثين من عمري آنذاك. ما زلت صغيرًا بما يكفي، رغم أنني لم أعد شابًا. السن الذي مات فيه السيد المسيح. السن الذي بدأ فيه ف. سكوت فيتزجيرالد في الانحدار. إنه سن قد يكون نوعًا من مفترق الطرق في الحياة. لقد كان ذلك هو العمر الذي بدأت فيه حياتي كعداء، وكان بمثابة نقطة البداية المتأخرة، ولكن الحقيقية، كروائي.

***

هاروكي موراكامي.. الروائي الراكض؛ بترجمة مروان عثمان

مروان عثمان؛ قاص وروائي مصري. صدر له في الرواية: حكاية سقطت من الزمن، والحزب 101. كتب سيناريو وحوار الفيلم الوثائقي (تروكاج).

رواية

قنّاص – أحبار الترجمان

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى