أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

إضاءة على رواية «زهر القطن» للأديب خليل النعيمي | وداد سلوم

خليل النعيمي: منذ أن نغادر أمكنتنا تتغير مشاريعنا، أحلامنا تغدو كونية بعد أن كانت محلية. يكفي أن نضع قدماً خارج البؤرة التي نشأنا فيها لنتغير، لنصبح نوعاً من الأساطير التي تروى، والباقي؟ الباقي كله ذكريات، ذكريات ملونة بألوان الغياب

إضاءة على رواية زهر القطن للأديب خليل النعيمي

صدر للأديب السوري خليل النعيمي مؤلفات عدة في أدب الرحلات ورغم أن روايته زهر القطن الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في لبنان عام 2022 هي أقرب للسيرة الذاتية، إلا أن القارئ ومنذ البداية يمتلك احساساً أنه أمام رواية من أدب الرحلات، إذ تلتقي بخطوط عريضة مع هذا النوع. فهي من تلك الأعمال التي تعتني بالمكان بقوة  فتأخذنا إلى جوها الخاص ونكهتها المميزة والمكان هنا على تحديده إلا أنه متسع اتساع صحراء الحماد – البادية السورية واتساع رحلة الترحال فيها وما اختزنته ذاكرة طفل من مناظر وحالات لا يمكن نسيانها ومشاهد وحكايات سمعها وخبرها وقدمها كمن يقرأ كفه. بكل ما لها من فرادة وكل ما له من قدرة على تلمس الجمال البادي والمتخفي وتلك الصلات اللامرئية بين أهل الصحراء وتفاصيلها، ما يجمعهم فيها وما يفرقهم.

هناك حيث كانت طفولته وحياة أسرته ومنبتها وحيث تشكلت شخصيته الابتدائية وسماته النفسية الأولى، الصحراء التي ليست مجرد مكان يرد ذكره بل ذاك العالم الغريب، المؤثر والممتد إلى ما لا يسعه النظر ولا تدرك بواطنه العين التي تنظر من الخارج. وحيث ترتدي الأشياء والكائنات صفاتاً مختلفة، فالزمن يتحول فيها إلى لاعب ماهر لا يقاس بما نعرفه من مقاييس بل بالضوء والظلام تارة وبالمسافات تارة أخرى وعدا ذلك لا قيمة له في الصحراء.

عالم خاص وغريب إلا أنه آسر، ومع اكتشاف تلك الطبيعة الساحرة رغم قسوتها ندرك تلك الحميمية التي بينه وبينها بتفاصيلها وجمالها الأخاذ بروح شاعرية عالية. فالنعيمي لم يبرع فقط في الوصف التصويري للمكان حيث كل شيء رهن بحركة الطبيعة الفطرية وذاك الفضاء الواسع المهيمن على الكائنات وصولاً إلى تلك العلاقة بينها وبين قاطنيها. وحين  يصف الحماد وقت بزوغ الفجر والندى المتساقط يجعلنا نتخيل الألوان والضوء ثم يأخذنا للتأمل مع شخوصه في محاولة إشباع العين من ذلك الجمال عبر تخيل المشهد الموصوف بدقة وانفعال لنبحر بتلك المسافات الممتدة إلى اقصى النظر والمكتسية بالضوء والندى، الضباب والرذاذ والسحر الذي يهبط على من يرى وصولاً إلى حبس الأنفاس في مشهد الرمال المتحركة حيث يتألق الوصف في تصرف البدوي مع الأخطار وكائنات الصحراء بخبرته الذاتية. ساحباً القارئ إلى مكان مختلف وغريب مداعباً رحلة الذاكرة الجمعية في الحكايات بمغامراتها ومكائدها والخيالات المنبجسة منها. حيث لا الوقت له معنى ولا الزمن الكلي وحيث تنمو الرغبات طاغية بقوة البقاء في مجتمع أسرته الصحراء فاستعاض بحريته الذاتية ليقاوم طغيان الطبيعة والمكان.

يقول في الصفحة 158: «العالم المنبسط على مستوى واحد لا يخزن الوقت ولا يراكم الأحداث، الزمن في الصحراء سيل يجري يكاد يكون مرئياً وما يجري لا يغدو آسناً».

وحيث الصمت و الكلام القليل، الحدس والحذر هو رفيق البشر فلطالما كانت الهواجس والأحلام هي المتحكم بمصيرهم.

خرج النعيمي عن الفكرة النمطية للصحراء الجافة والقاتلة يحكمه الحنين وحب تلك الفكرة التي قدمتها أغلب الأعمال الأدبية بعين الزائر، حيث نجد تلك القسوة التي تجبل من يعيش بها حتى في ملامحه وعاداته وتلك الوحشة الممتدة على اتساع الصحراء وخطر الضياع للأبد حيث تتبدى ضآلة الانسان أمام جبروتها فكم ابتلعت من بشر تاهوا بها وكم من قوافل اختفت.

سيرة الفقر والترحال في زهر القطن

يحدثنا عن العائلة في طفولته بدءاً من الأب ورحلته المريرة كيتيم يتعلق بأذيال القبيلة التي أنقذته بعد وفاة أهله ليقتطع بإصرار حصته من الحياة، يبدو والده شاعراً بالفطرة إذ يمتلك القدرة على توظيف الكلام والصمت في الروي والجذب وشد انتباه وأسماع الحاضرين جاعلاً القلوب تخفق في صدور مستمعيه متميزاً عن كل الرواة عارفاً وحكيماً بما شربه من قسوة الوجود، الحكمة التي يأسر بها الآخرين فالمجتمع البدوي يقتات على الأخبار والسرد ليتواصل مع الحياة.

 رحلة الطفولة كانت رحلة الشقاء وقسوة الواقع وألمه حيث الفقر والجوع يعصر الاحشاء ويجعل رغيف الحنطة حلماً وحيث من الممكن ان تحممه والدته ببول ناقة. يدرك الأب الفارس الذي عركته الحياة فطرياً أن العلم طريق الخلاص لابنه من الواقع القاسي فيقرر إرساله إلى المدرسة، الحلم الذي رسم حياته وصار دودة تنخر القلب، فهو الطفل الممتلئ بالحكايات ولطالما تمنى أن يمتلك قدرة الأب في فن الكلام. ولعل المدرسة تساعده على ذلك، فحين يسأله والده ماذا تريد ان تكون في المستقبل يقول أريد أن أتعلم الكلام سارحاً في تخيلاته اللانهائية.

شخوصه قليلو الكلام والصمت سيد المكان والسكان، إنهم أبناء الصحراء التي تفرض صمتها المتسع وهذا ما جعل الراوي يسهب في الوصف؛ الخارجي للطبيعة تارة، كما تراها عيون أشخاصه بذاك السحر البصري المختزن بالذاكرة. وتارة أخرى؛ الداخلي لما يجري هناك في الأعماق والأفئدة مترجماً مشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم حتى تغدو الأحداث غير مهمة بل هي ظلال لتحولات أبطاله الداخلية فنرصدها عبر أفكارهم وتدفق مشاعرهم وخاصة الفتى الذي كان عيناً مفتوحة يعبر العالم منها.

كل ذلك بلغة مشغولة بعناية حيث نرى الحرص على انتقاء المفردة الصارمة في التعبير والغريبة في كثير من الأحيان عن متداول الحديث لتلائم الماضي أو زمن السرد الجاري بقوة من الذاكرة.

 يقول: «أحس أن الحياة حلوة ومصدر حلاوتها فعلاً هو الذاكرة التي لا تنسى فالذاكرة هي الوجود». مؤكداً؛ من لا يحيا لا يتذكر.

 فتبدو اللغة سيدة القول متماسكة وغنية، بينما تتثاقل الأحداث في البداية وتبدو الهواجس والعوالم الداخلية لأبطاله هي الأكثر تفتحاً، لتأخذ حياة الصحراء جانباً واسعاً من الرواية،  تتسارع الأحداث بعد الخروج منها واصفاً حياته في العاصمة دمشق مروراً بقرى الجزيرة السورية وعامودا حيث اجتاز المرحلة الابتدائية إلى الحسكة واصفاً غنى الجزيرة والخيرات المكدسة والبيادر من كل المحاصيل والمجهزة للشحن إلى حلب وغيرها من المدن. فلطالما كانت الجزيرة خزان البلاد من الخيرات المتنوعة رغم انها بقيت مهملة حضارياً ومدنياً.

يغيب الأهل عن سيرة الفتى في الجزء الأخير من الرواية وهو الذي أطلقه والده ليعيش حياة مختلفة عن حياته المترعة بالحرمان واليتم. لكن غرام الكلام والسرد الذي عشقه من والده ينمو في داخله فأصدر ديوانه الشعري الأول في دمشق حين أنهى دراسته وهو ما جعله يصطدم بالسلطة الأمنية ليغادر سراً إلى بيروت التي كانت معبره إلى المنفى المختار، بعد أن جاب أغلب البلاد السورية من الصحراء الساحرة إلى الجزيرة، وحوران حيث أنهى خدمته الالزامية لتكون دمشق خاتمة الوطن بالنسبة إليه قبل الهجرة منه. دمشق التي كانت عالمه يراها بعين مختلفة حين يدخل بيروت حيث يعيش العالم كله بينما دمشق متكتمة وعبوسة.

الأنثى حاضرة وجريئة

الأنثى حاضرة منذ البداية في زهر القطن، إذ نرى علاقة الأب بالأنثى بعين الكاتب الحساسة لالتقاط لحظات الحميمية العالية حيث تتحدث الأجساد تحت ظلال الصمت مكونة لغتها الخاصة التي تنبجس من غرقها في أعمق المشاعر وأكثرها قوة وفطرية بين الحلم والواقع وذكاء الأنثى البديهي في تلمس اقبال شريكها وانكفاءه واتساعها للمغفرة. ثم  عبر انفتاح الابن نفسه على عوالم الأنثى منذ الطفولة في علاقته مع الطفلة التي رافقت لحظات اكتشافه للمكان وسحره إلى عمله أيام المراهقة في حقول القطن على ضفاف الخابور حيث البياض المشكل لنواة الانسان ذاته وليس فقط لون ثمار القطن أو لون بشرة فتاته في تجربته الأولى لاكتشاف جسد الأنثى. إلى دمشق التي كانت بستاناً تذوق فاكهته المتنوعة اللذات. ليكتشف طعماً آخر للحياة غير التقشف والفقر والعوز.

كانت الأنثى على مدار الرواية صاحبة قرار غير محتجَبة بل ميالة للتعبير عن ذاتها ورغباتها وجسدها واعية بحاجته، وربما يعود ذلك لعدة أسباب، فعلاقة الانسان مع الطبيعة في الصحراء جعلت الفطرة تتملكه وتقود العلاقة بين الذكر والأنثى بطبيعية دون كبت حيث غريزة الجنس توازي غريزة الحياة. أما في المدينة فكانت تحت تأثير الأفكار التحررية التي سادت في فترة الستينات في البلاد كلها.

وكما اكتشف لا نهائية المتعة، اكتشف معنى الحياة بالقراءة وعرف أن للجهل طاقة محركة قوية ومحرضة للمعرفة وأن المعرفة طريق التغيير. فالقراءة والأنثى كونتا وعيه الجديد.

المنفى بديل عن الحصار

حياة تنتهي إلى الغربة تحت ضغط السياسي الذي يمر به الكاتب مروراً ليشكل خلفية السرد إذ يذكر التظاهرات الطلابية في الحسكة التي كان يقلد خطابات زعمائها وهو يتلو اناشيده القومية في مناهج الدراسة على الدجاجات والديك في الكوخ الذي سكنه هناك في إشارة مهمة للحياة السياسية والعلاقة بين الأحزاب والجماهير، ومن ثم الحياة السياسية في دمشق الغنية بالتعددية ونشاط الأحزاب في الستينات من القرن الماضي، انتهت إلى بداية السبعينات.

بعد تعرضه للتحقيق إثر صدور ديوانه يقرر السفر مغادراً إلى بيروت حيث يرى كيف تتفتح الحياة وتزدهر بألوانها ويكتشف عالماً مختلفاً عن مكانه الضيق القديم لكنه لا يلبث في لبنان إلا فترة قصيرة متابعاً السفر إلى أوربا في انطلاق نحو العالم بعد أن نعيش معه ذلك التردد والصراع الذي يفرضه البحث عن الحرية، صراع بين البقاء واختيار المنفى، الصراع الذي يكاد يعيده إلى دائرته الأولى إلا أنه يمضي بصلابة في خياره مبتعداً عن احتضار ما تركه خلفه.

يقول: منذ أن نغادر أمكنتنا تتغير مشاريعنا، أحلامنا تغدو كونية بعد أن كانت محلية. يكفي أن نضع قدماً خارج البؤرة التي نشأنا فيها لنتغير، لنصبح نوعاً من الأساطير التي تروى، والباقي؟ الباقي كله ذكريات، ذكريات ملونة بألوان الغياب.

 ***

إضاءة على رواية «زهر القطن» للأديب خليل النعيمي، بقلم وداد سلوم

الكاتبة السورية وداد سلوم

زهرة الطن

خاص قنّاص – أهوى الهوى كتاب

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى