لم يكن سقراط، هذا الفيلسوف اليوناني العظيم، يعتقد أنه حكيم، بل على النقيض من ذلك، كان يعتبر نفسه أكثر الناس على الأرض جهلا، لهذا عندما تناهى إليه هو المفتقر إلى المعرفة، والمدرك لعمق جهله، أن العرّافة «دلفي» التي تتوسط بين الناس والإله المعبود آنذاك، قد أعلنت بأنه أحكم الناس في أثينا، أحس بحيرة شديدة، وقال ما معناه، أن العرّافة دلفي قد جانبت الصواب، إنها مخطئة ولاشك، فكيف أكون حكيما «وكل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا».
وبعد تقليب الموضوع في رأسه، قر قراره على دحض كلامها، كيف ذلك؟ عليه العثور على من هو أحكم منه كي يبين للعرافة تهافت ما ذهبت إليه. لهذا تجول في شوارع أثينا وساحاتها، خالط الناس في الأسواق وتحدث مع أشخاص مختلفين اشتهروا بكونهم حُكماء، لكنه بعد أن انهال عليهم بأسئلته المزعجة، التي لا ترحم، أسئلته، ذات الطبيعة التهكّمية، التي تُوقِع الناس في التناقض، اكتشف أن هؤلاء الذين يتوهمون الحكمة واقفون على أرض هشة عند أبسط رجّة تنهار، فأفكارهم التي يعتقدونها، ويؤمنون بها، سرعان ما تنهار عند أبسط اختبار، لأنها مبينة على الشائع والحس المشترك، وغير مبررة تبريرا عقليا، فما هُمْ إلا أناس غارقين في الجهل، لكنهم غير مدركين لذلك، يتوهمون أنهم يعرفون ويجهلون أنهم لا يعرفون، يعانون من حالة تسمى الجهل المزدوج.
بهذه الطريقة، أدرك سقراط، أن الوعي بجهله هو الذي يجعله حكيما.
ولأن سقراط كان يعلم جيدا أن الجهل المزدوج –أن لا تعرف وتجهل أنك لا تعرف– ورم خبيث يجب استئصاله، كونه يجعل المرء في حالة من العمى، غير مدرك لأخطائه، وبالتالي يواصل الوقوع فيها –فالمرء لا يخطئ عن عمد وإنما عن جهل– لهذا حاول أن يُظهر للناس جهلهم، حاول أن يوقظهم، حاول أن يبين لهم أن ما يعتقدون أنها حقائق لا يدخل إليها الشك ليست إلا أراءً غير مُمحَّصة. غير أن هذه الطريقة لم تكن تعجب الكثير من محاوريه الذين اعتبروا أن طريقته في التهكّم وادعاء الجهل طريقة مزعجة، فهو لا يقدم أي أجوبة، ويكتفي «بتفنيد إجابة غيره ويبددها كالهباء المنثور»1. فكان يرد عليهم قائلا: «كيف يمكن أن يجيب من لا يعرف شيئا ويعترف بأنه لا يعرف شيئا»2.
ولأن كل ما يزعجنا نحاول التخلص منه، مثل الذبابة التي نضربها براحة أيدينا كي تبعتد عنا بطنينها المزعج، فقد تَمَّ التخلص من سقراط، من خلال اتهامه بإفساد عقول الشباب وعدم الإيمان بآلهة المدينة، وفي النهاية تم الحكم عليه بالاعدام، وبعد موته تكفّل تلميذه أفلاطون بتخليذ سيرته كشخص عاش ومات على نحو فلسفي.
في النهاية إن سقراط الفيلسوف ينزع عن الوثوقية في أرائنا ويدعونا إلى مراجعتها باستمرار وأن اعتراف المرء بالجهل ليس نقيصة، ففي زمن يدعي فيه الجميع المعرفة يصبح الاعتراف بالجهل حكمة.
الهوامش:
- جمهورية أفلاطون / ترجمة فؤاد زكريا ص 17
- المرجع نفسه ص 17
