الأديب هاشم الشامسي يُسلط الضوء على جوانب البعد الجمالي في رحلة الشعر عند سماء عيسى وتجليات الذاكرة الصوفية
إن عالم الشعر الذي سيأخذنا إليه سماء عيسى ونرحل به معكم، قادم من جوانب عديدة في حياته التي كان لها الدور الأكبر في تحديد مسار كتاباته الشعرية والنثرية، وهناك دلالات تعبر عن عناصر مؤثرة في تكوين حياته منذ طفولته، التي تعددت مناخاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وساهمت بصورة كبيرة في تشكيل تجربته ووعيه الشعري منذ ولادته في مدينة مسقط القديمة عام 1952م
غادر سماء واسمه الحقيقي (عيسى بن حمد بن عيسى الطائي) مع أسرته وهو طفل صغير إلى مملكة البحرين التي عاش فيها فترة تمتد من عام 1956 وحتى 1963م، تلقى فيها دراسته الابتدائية، ثم انتقل مع الأسرة أيضاً إلى إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة حتى عام 1965م، حيث درس فيها المرحلة المتوسطة ثم حصل على منحة من دولة الكويت لإكمال دراسته في ثانوية الشويخ حيث أقام في القسم الداخلي للمدرسة، وفي عام 1969م انتقل إلى القاهرة بجمهورية مصر العربية لإكمال دراسته الجامعية حيث تخرج سماء عيسى من جامعة عين شمس بكلية التجارة عام 1975م .
هذه العوالم المتنوعة والمتعددة المناخات ساعدت الشاعر في تشكل حياته وصقل خبراته الحياتية والسياسية والثقافية، وكان للحراك السياسي في وطنه في تلك المرحلة الحساسة أثره في تعاطفه وتعاونه سياسياً مع الحركة الوطنية كباقي أطياف الشعب العُماني، حيث قام في يونيو من عام 1970م بزيارة إلى جبال ظفار، ومكث بها ثلاثة شهور وقد اتخذ له اسماً حركياً وهو ثاني عبيد.
رحلته مع الكتابة الشعرية:
حين أدرك الشاعر سماء عيسى أن الشعر هو طريقه الحقيقي الذي بدأ يتشكل وهجه في مخيلته المتقدة وهو طالب في المرحلة الثانوية، وتفتح وجدانه على بيئة وطنه، حيث شكلت أسرته أهم الروافد الثقافية والوطنية، فقد كان عمه الأديب المعروف عبدالله الطائي أحد أبرز المثقفين في الخليج العربي في فترة الخمسينيات والستينيات.
كانت الحالة السياسية من القرن الماضي التي مرت بها المنطقة في عُمان والخليج وبقية أقطار الوطن العربي، رافداً مهماً في تشكيل وعيه الثقافي والشعري إضافة إلى حالة الغياب والفقد وعدم الاستقرار، مما كان لها أثرها على أسلوب كتابته ولونه الخاص به، ولدواعي سياسية أمْلتها تلك المرحلة اختار الطالب عيسى بن حمد الطائي والذي كان يدرس التجارة في جامعة عين شمس اسمه الرمزي وهو (سماء عيسى)، أراد بذلك أن يسمو روحياً وجمالياً وبما يليق بمكانة الشعر، كانت رحلته مع الكتابة الشعرية تتميز بتعدد مناخاتها المكانية والثقافية والسياسية إلى جانب المعاناة الحياتية في عدم الاستقرار الجسدي والروحي، اتسمت شخصيته بالعصامية والغربة في النفس والروح، كان لها أثر سلبي على انتشاره كشاعر على نطاق أوسع، إلى جانب تميزه بالإيثار وتقديم العون للكتّاب الشباب الذين نهلوا من خبراته وتجاربه المتنوعة في مختلف الاهتمامات الأدبية والفنية .
نذكر في مستهل هذا المقال كمدخل تلك القصائد التي كتبها خلال الفترة من عام 1974 إلى 1981م وسياقات نشرها، حيث نشر بعضها في بعض المجلات العربية وبعضها لم يتمكن من نشره لظروف عدم استقراره وتنقله من بلد لآخر، ولم يتمكن من جمعها في تلك الفترة، كما أنها لم ترد في مجموعاته الشعرية التي طبعها منذ مجموعته الأولى «ماءٌ لجسدِ الخُرافة» التي صدرت عام 1985م وحتى آخر مجموعة له بعنوان «الأشجار لا تفارق أماكنها الأولى» التي صدرت في عام 2016م، لكن سماء عيسى كان قد جمعها وحفظها في مسودة كتبت بخط يده، وإيماناً مني بأهمية نشرها ليتمكن القراء من قراءتها كاملة لما تحويه من أبعاد فنية وجمالية معبرة عن الكثير من الجوانب الشخصية والسياسية والاجتماعية التي شكلت فيما بعد مسار كتاباته الشعرية.(1)
بدأ سماء عيسى كتابته للشعر في أوائل السبعينيات من القرن الماضي حيث شق طريقه كأول شاعر عُماني اختار كتابة قصيدة النثر متأثراً بالشعراء الرواد الأوائل للقصيدة الحرة مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وأدونيس وصلاح عبد الصبور. كما أنه كان وثيق الصلة بجماعة مجلة إضاءة 77 الشعرية، مثل حلمي سالم وحسن طلب وجمال القصاص. حيث نشر أولى قصائده في مجلة الجديد المصرية عام 1971م بعنوان «بكائية إلى المهاتما غاندي»، وفي عام 1973م نشر قصيدته الثانية في مجلة الحكمة اليمانية بعنوان «أماه اني اهتديت إليك».
وفي عام 1974م كتب الشاعر قصيدة بعنوان «للنساء اللواتي انتظرن طويلاً» التي نشرها في مجلة الثقافة الجديدة اليمنية العدنية، وهو يهدي قصيدته إلى من وصفها:
«هي حزن الأرض الملتصق بجوع الأرض،
وجه السماء المغيم بالعطش،
عطر الجنوب الأخضر الدافئ
ريفية جاءت من المزن،
منحتني عشقها الدموي»
هكذا أهدى الشاعر قصيدته إلى من ترسم عيناها خارطة من ضياء للنساء اللواتي انتظرن طويلاً هبوب الرياح. تتضح معالم وردة الشعر عند سماء عيسى في عام 1975م، حين كتب قصيدته في القاهرة «أيتها الأرض لو تنحنين قليلاً» والتي نشرها في مجلة الكلمة اليمنية عام 1976:
«ماذا تقولُ أغاني الحيارى
اذا ما رأتكِ بحاراً من الدم؟
ماذا تقولُ الشموسُ
التي عشقت أن تراك؟
فُضَّ اجتماع الرفاقِ
وما جئت أنتِ
وجاءت شموسُ الظهيرة
قلتُ لو ينثني القيدُ في قامةِ العشقِ
لو تنحنينَ قليلاً أيتها الأرض
لو ينثني الخيط بيني وبين
طقوس الخليقة».
وجاءت قصيدته «وطنٌ للحزن القادم» التي كتبها في أغسطس من عام 1978م بمسقط، حاملة هموم الوطن الذي يسكن القلب والمنفى وهو يخط ذاكرة الصمت الحزين… وفي شهر نوفمبر من عام 1978 م كتب سماء عيسى في مسقط قصيدته «الحلم شجرة للحوار» ولظروف عدم استقراره لم يتمكن من نشرها:
«ليلكَ يأتي، وكلّْ العذارى يجئن إلى لغة الحلم
جاءت مواعيدكَ الميتة، وأنت إذن لم تجئ
ولا جاء حزنٌ على الباب يطرقُ
ما كان خمر السكوتِ سواكَ
ما كنتَ غير اللواتي هربن مع الريحِ
نحو البحار».
كان القلق الذي يحمله الشاعر وهو يرحل من مكان إلى آخر أثره في عدم الاستقرار النفسي والروحي كطير يحمل أحزانه الدامية في قلبه، يغني ليله لعل الرياح الراحلة في المساء تروي ظمأه. حالة اللا استقرار استمرت عند سماء عيسى حاملاً قلبه وروحه وأحزانه الدفينة، في أغسطس من عام 1979 م، في إمارة أبوظبي كتب قصيدته «عندما تبحث أحزاني عن لغة جديدة»:
«كيف يا لغةً في شفاه الصبايا
تصيرين قبراً؟
تصيرين دمعاً ونهراً
وقافيةً دامية!
ابدأ الآن أحزاني الواقفة
أعانق كلَّ الرياح
التي تحملُ الدمع
أحمل احزان هذه الخليقة
نحو الإله».
عام 1980م بمدينة إيفران بالمغرب كتب الشاعر قصيدته «امرأة مثل ماء الينابيع» ونشرها في عام 1983م في أوراق الاماراتية الصادرة من لندن:
«أيُّ ليل يجيئ إليَّ محملاً بالقبور
بالتيهِ في عالم ميت
في لغةٍ حمَّلتها الكهانة أسطورة الوهم
أيُ ليل يجيئ إليَّ كنارٍ يُضيئ المجاهلَ
كي أرتوي بعذاب الأراملِ
أو بصراخ النبوةِ
أيُّ ليل…!»
في أبوظبي عام 1981م كتب سماء عيسى «أغنية للملاك النائم»، ولم يتمكن من نشرها، لكنه بالشعر يغسل أوراق حزنه وهي تتناثر في صحاري العشق كي تحملها رياح العذارى وهي تمارس الحُب مع الطير:
«قم يا ملاكي وأغتسل
أنشر رضابكَ
مثل غاباتٍ
على جسدي
أنشر رضابكَ
في عروقِ الأرضْ
قل للشهداءِ
ان يستيقظوا
للنهر أن يفتحَ
قلبَ امرأةٍ
للرقص…»
جوانب الفقد والغياب في حياته:
«يُدرك سماء عيسى ما يكتب ويتلبّس موضوعه، ولذلك فإنّ لفظة المنفى وما يحيل عليها مثّلت موتيف (Motif) يتردّد في مجمل قصائد الديوان، وكذا الأمر بالنسبة إلى صورة المرأة المقرونة بالألم والدم، وهو الأمر نفسه في انسيابه وموتيف الروح المقرون بالموت وبالموروث.
ولعلّ القصيدة التي رقّاها لتكون عنوان مجموعته الشعريّة «دم العاشق» تعكس هذه المحاور الدلالية التي اقترنت بفعل ندم متعاود، ظاهر، يبين حالة شعريّة ملحوظة، فعل الندم المبنيّ على التحسّر وسوء التقدير حوّله الشاعر في حركةِ عدول إلى فعل إيجابي، شعريّ.

يحـــاور الشاعر في القصيدة الأرض فتعيده إلى دهشة الطفل الأولى، هي دهشة كثيرا ما عبّر عنها الفلاسفة، دهشة السؤال، ويُعمل الشاعر في قصيدته معانيه، ومرجعيّاته المتعدّدة، عليّ بن أبي طالب، المسيح، الإمام عزان بن قيس، الإمام عزان بن تميم، ليقيم عالمه الحاضر في اللّغة موصولاً بالماضي.لسماء عيسى أفعالٌ في اللّغة ومساحات يجول فيها دون حدّ أو ضيق، يُدوّن من إرثه اللّغوي المحليّ، ما به يسعى إلى السموّ، ولعمري ما مِن كونيّة لشاعر تحقّقت إلاّ صدورا عن محليّته، ألفاظ وأشكال وألوان وأمّهات ونساء وعناصر من الموروث وآلام الحاضر والماضي، وحالات الاغتراب، وأشياء يعسر حصرها، هي مكوّنات الشعر عند سماء عيسى.
يتواصل سماء عيسى مع ماضيه بتفاصيله، وآلامه، ويُجري معجما يدور في فلك الماضي بعناصره المختلفة. ليس للشاعر وجه يركن إليه في حال الفجيعة القادمة توجّسَ أنبياء الشعر سوى اللّغة يحتمي بها وخيالات الشعراء يجيل فيها أوهامه. (2) هكذا ارتسمت ملامح حياة الشاعر بالقسوة والغربة والرحيل حافرة في ذاكرته الخوف والفجيعة والمأساة، وساهمت بعد ذلك في تشكيل وعيه الشعري والسياسي متدثرًا برائحة الفقد والغياب والمأساة، حيث فجع في يونيو 1970م باستشهاد بنو عمومته علي ومحمد في الأحداث السياسية التي أملتها تلك المرحلة الحساسة من تاريخ الوطن، حفرت هاتان الفجيعتان أثرًا مأساويًا في ذاكرة الشاعر وعلى أسرتيهما، وفي عام 1978م كان الفقد والفجيعة أكثر اقترابًا منه عندما نال هذه المرة من أخته الصغرى «بثينة» وهي لم تتجاوز السابعة من عمرها أثر حادث سير أليم وهي تعبر الشارع في أحد أحياء منطقة روي بمحافظة مسقط، شكّل ذلك الفقد مدخلًا لروح التشظي والمأساة في كتاباته الشعرية والنثرية فيما بعد وهو في رحلته نحو المجهول في اكتشاف الغامض الجميل والبعيد، وقد أهداها الشاعر قصيدته «مرثيتان» التي جاءت في مجموعته الشعرية الأولى (ماء لجسد الخرافة) الصادرة عام 1985 م، معبرة عن رؤيته وسماته الشخصية المحملة بالغربة والفجيعة والفقد: .
«اكتشف جمال الأشياء في وحشيتها
بثينة الطائي في عتمة الجذور
البريةُ
توقض الشبقَ
تغرس الهذيانْ
حيثُ النساء
قوارب هجيرٍ
باتجاه الموت
الرمادُ ذاكرةُ جنونٍ
لا يتشيئ» (3)
صورة المرأة في شعر سماء عيسى:
ارتبطت ذاكرة الشاعر سماء عيسى بالمرأة التي حملت روح الألم والوجع والحزن والأمهات الثكالى اللواتي رأى فيهن وجها آخر لحزن الأرض وجوعها، رأى فيهن وجه السماء الملبد بغيوم العطش ورائحة الأرض المعطرة بالنضال الدافئ الذي منحته لوهج الحب والحرية.
المرأة التي حملت الرياح دموعها إلى القبور والمنافي تذرف الحب والرحيل في أتون الجراح والهجير، تلك المرأة التي حملت لغة الصمت البعيد ولغة الحلم الدامعة والقلوب الثكالى وقيثارة العشق الراجفة في الفؤاد الحزين.
شكلت هذه الذاكرة وهجًا شعريًا حملها الشاعر سماء عيسى في قلبه وأعماق أحاسيسه وجسّد ذلك الوهج في رؤيته الجمالية من خلال قصائده المعبرة عن الروح والجسد لدى المرأة أعطت بعدها الإنساني والأخلاقي والوجودي وكشريك للرجل تحمل روح المحبة والإشراق في هذا الكون:
«أيتها المرأةُ
أنتظر حضنكِ تحت فَرْصادة الموت
توقظينني
توقظين الشعر-الطفل
الذي مات بقلبي
توقظين عذريَة الموت
وتُذكِّرين بسخرية وجودي
اذنْ اغسليني بمياهك البريئة
امنحيني زهرة موتي
إذ أقبّّلها كل صباح
أتذكَّر زوالي» (4)
تمثل المرأة الوجه الآخر لتيمة الحب فهي تحتل في أشعار سماء عيسى موضع القلب من جسده واهتماماته، وهي تمثل الحب والشوق والوجد وحتى الفناء فيها. المرأة الحبيبة تساوي الحياة وهي الفرح الذي يُنسي الاكتئاب والامتلاء الذي يقتل الفراغ، والجمال الذي يبعث في النفس إحساسًا بالراحة واللذة، فتكون الحياة أكثر جدة وملاءمة وتألقًا فهي كالغيمة الماطرة، هكذا يقول:
«وأنتِ ماذا ستعطينَ دَمي أيتها الغيومُ
أيتها المرأة ذات الفَمِ الشبق إلى الحب
ماذا ستعطين دمي؟
فرحٌ لا أنتظره حتى والأرضُ تحتفلُ
بطفولتها، فرحٌ كمثلِ النارِ وهي تغني
وردة في الفجرِ» (5)
لسماء عيسى تجارب في الكتابة متنوّعة، يتفاعل مع اللّغة، تحويه وتضمّ وجْدَه وشوقه، يحتمي بها فتحمي لهيبه وتحوّله ناراً وهدياً، يكتب سماء عيسى شعراً أشبه بالنثر ونثراً أشبه بالشعر، فيُخلص أحياناً لجوهر الكون ولروحه اليافعة، فينطق شعرا، ويميل أحياناً إلى العقل والحبك فيكتب نثراً أشبه ما يكون بالقصص، وهو بين هذا وذاك واجِدٌ من الشعر مأخذاً ومن النثر نسقاً وفكراً، فيخرج المعنى من بين جنباته شعراً أو نثراً، أو جمعاً بينهما، فالمعنى يخرج منه بأشكال مختلفة، ولا ضرر في ذلك فهو مجرّب من أنماط الكتابة ما به يكون ويتحقّق، وكيفما خرج المعنى فتلكم هي الواسطة الأمثل.(6)
تجليات الذاكرة الصوفية في شعر سماء عيسى:
إن انفتاح وتنوع تجربة سماء عيسى الشعرية وذلك بانفتاحها على تنوع التجربة الإنسانية بتعدد خطاباتها، حيث كان للتجربة الصوفية في التاريخ الإسلامي أثرها في تجذر تجربته الشعرية وفي كتابة نصوص أكثر ارتباطًا بالتجربة الإنسانية، فتح لتجربته آفاقًا أكثر خصوبة وجوهرًا لكتابة نصه الشعري، حيث أثرى تجربته الشعرية بتتبعه لتجربة العُبَّاد العُمانيين والتي تعرف بالتجربة السلوكية في عُمان، كان لهذه التجربة وهذا المنهج الذي سلكه الشاعر أثره في تطور تجربته الشعرية الصوفية، وفي تنوع مفرداتها. تلك التجربة التي سعى فيها المتصوفة إلى تحقيق الكمال والجمال المطلق في تجلياته النورانية البعيدة. من هنا سعى الشاعر إلى سبر أعماق الحكمة الصوفية والوصول إلى تأملاتها المطلقة والارتشاف من ينابيع معارفها وفيض إشراقاتها الروحية ونورها السرمدي ومناقبها السامية وأفكارها العرفانية المبدعة ودروبها في معرفة الحق.
لذلك كانت الكتابات الشعرية المتأثرة بالكتابات الصوفية عند الكثير من الشعراء العرب أثرها الواضح في البدايات الأولى لكتابة الشعر عند سماء عيسى في سبعينيات القرن الماضي وهو مازال طالبًا في المرحلة الجامعية، حيث نشر سماء عيسى أولى قصائده في مجلة الثقافة الجديدة اليمنية عام 1974 م بعنوان «للنساء اللواتي انتظرن طويلًا»:
«وأنتِ! أنتِ كلَّ اللواتي تقيأن حب الرحيل
مخاف الممات على نهدكِ البكر
جاء الجياعُ يلوكون جمر العذابْ
لعلَّ العذاب لعلَّ البكاء
يسفر عن لغة لا تموت!»
هكذا بدء الشاعر قصائده المتشظية بالفقد والمأساة والموت، وهي لغة صوفية البعد ذلك (أن اللغة الشعرية الحديثة في حدِّ ذاتها شبيهة بلغة المتصوفة باعتبارها لغة منزاحة معجمًا وتركيبًا. ومن ناحية أخرى وجد الشعراء العرب في موقف المتصوِّفة من الموت ملاذًا وميدانًا للانتصار عليه واختزاله فيما هو مادّي وحسّي لا يطول سوى الجسد، أو بالأحرى أصبح الموت مطلبًا تعبِّر الذات من خلاله إلى خلودها حيث السعادة المطلقة، ففرحة المتصوف بالموت تطيح تاريخًا كاملًا من الخوف عند البشر(7):
«ولكن غضبك دائمًا يأتي
بعد جفاف طويل
وبعد غياب
اذ هو ذا نبيٌ
أتت به الغيوم
وسكبته الأمطار… وكان ما تبقى هو الحُب
بعد أن غمرتنا السماءُ
بمياهِ عدمٍ بعيدٍ» (8)
(يعيـــــش الــــشاعر كمـــا أغـــلب الشـــعراء حالة المنفى، حقيقــــة وتـــجوّزا، ومَن من المثقّفيـــن الحقيقيين لا يعيش حالة النفــــي وحال الغربة في أرضه، منفيّ هو في وطنه، غريب هو بين أهله، يعبّر عن هذا الاغتراب الذي نراه في حال الشوق إلى الوطن، وفي البكاء على الدمـــن، وفـــي الدخول في حال من التصحّر لا أوْبة بعــــدها، وفــــي سفر الروح، تفارق مرابضـــها ولا تجـــــد لها منتهى، ولعلّ ذلك ما يعلّل دخول الشاعر في تجربة العرفان، وإثبات عجز اللّغة عن تحمّل جليل المعاني، كما الجسد ينوء بحمل الروح).(9)
(عند تأمل تجربة الشاعر سماء عيسى، سنرى أننا حيال حداثة مختلفة في تجليها الروحي، للأبد، غير قابلة للتوقف الزمني أو المكاني، قادمة من فلسفة الماضي إلى حرية المجهول، من صور الوعي والواقع إلى رموز المستقبل الآتي، المعاني المكثفة حول الحياة بكل صفاتها وتناقضاتها، إنه الشعر الذي يقدم عمق الحاضر الإنساني عبر شعرية التأمل و حساسية الحدث وآلام الفكر، التجربة المرتكزة على فكرة اللامحدود، العلامات المفتوحة للبعيد وهي فكرة الحداثة أساسًا، القائمة على مطلق الإشارات في تفسير صور الحدث، أي عدم التقيد بصورة واحدة عند تحليل المعنى، بل إيجاد بيئة خصبة لذاكرة الكون التي تمثل حضور الكائن ورؤاه). (10)
يمتلك سماء عيسى من الوعي الثقافي الشعري الواسع، ومثل عبر تجربته الابداعية مدرسة للحداثة الشعرية في عُمان وللعديد من الكتاب العُمانيين الذين ظهروا منذ فترة التسعينيات من القرن الماضي.
المراجع والهوامش:
- الشامسي، هاشم، سفر في وردة الغياب، التجليات الجمالية في شعر سماء عيسى، المنتدى الأدبي، بيت الغشّام للنشر والترجمة، مسقط، سلطنة عُمان ، 2015 م ، بتصرف)
- زروق، محمد، ثلاثيةُ المنفى والمرأةِ والرُّوح نظرٌ في ديوان «دم العاشق» لـ «سماء عيسى، مجلة العربي، العدد 670، 2021 م.
- عيسى، سماء، ماء لجسد الخرافة، 1985 م، ص 9.
- عيسى، سماء، نذير بفجيعة ما، شركة مراد للطباعة، نيويورك، 1987م ص 15.
- عيسى، سماء، غيوم، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006 م، ص 22
- زروق، محمد، ثلاثيةُ المنفى والمرأةِ والرُّوح نظرٌ في ديوان «دم العاشق» لـ سماء عيسى، مجلة العربي، العدد 670، 2021 م.
- المُساوي، عبد السلام، جماليات الموت في شعر محمود درويش، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى ، 2009 م، ص 97.
- عيسى، سماء، غيوم، مرجع سابق، ص 36
- زروق، محمد، مجلة العربي، العدد 670، 2021 م.
- الخنجري، إسحاق، في تجربة الشاعر سماء عيسى، موقع أثير www.atheer.com ، 9 مايو 2014.
***
البعد الجمالي في شعر سماء عيسى؛ بقلم: هاشم الشامسي
هاشم الشامسي؛ كاتب وشاعر من عُمان. صدر له: صمت القافلة، مجموعة شعرية 2011، العابرون إلى الوهج البعيد، مجموعة شعرية، 2012، سفر في وردة الغياب، التجليات الجمالية في شعر سماء عيسى، 2015، مغتسلاً بسرمد الرحيل ، مجموعة شعرية، 2017، بيت الجزيرة، سيرة ذاتية 2021 . السيب رباط العلماء والقادة المسلمين، تاريخ، 2022 .عتبات الروح ، نصوص ” شذرات “، 2022.

اقرأ أيضا في هذا الملف:
سماء عيسى قيثارة الشعر.. ملف خاص وقراءة شعرية مصورة
عوالم الانغلاق والانفتاح في سرديات سماء عيسى | د. عزيزة الطائي
لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر | حاوره: عماد الدين موسى
سماء عيسى خارج التصنيف | د. فهد حسين
البحث عن طفولة العالم في ديوان «استيقظي أيتها الحديقة» | حامد بن عقيل
الحزن وإيقاع الشِّعر عند سماء عيسى | د. يوسف المعمري
قصائد جديدة لِـ سماء عيسى خصّ بها مجلة قناص