جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

الوعي المغربي في أدب الكاتب والفنان المشرقي جبران طرزي | د. ديما حمدان

لقد استحوذت ثقافة جبران طرزي ذات الهوية التشكيلية التجريدية، والتي تحمل في نسيجها جمالية الفن المسيحي وجمالية الفن الإسلامي، على اهتمام الباحثين في أنحاء العالم

الوعي المغربي في أدب الكاتب والفنان المشرقي جبران طرزي

مقدمة: جبران طرزي، إبن المملكة المغربية الشريفة

لعل ما تتمتع به عائلة جبران طرزي المشرقية، من عشق للحرفيات وتجارة التحف والمشاغل الفنية ومن انفتاح على اختلاف الثقافات، لعل هذه الميزات تستفز لدى الفنان والكاتب والناقد جبران طرزي  (2010-1944)، عشقه للمملكة المغربية، وميله وتوقه إلى ثقافة الشعب المغربي وتراثه اللذين يجسدان ملكة الابداع.

الصورة: جبران طرزي في مرسمه بقرية بلونة اللبنانية (الأرشيف العائلي)

لقد استحوذت ثقافة جبران طرزي ذات الهوية التشكيلية التجريدية، والتي تحمل في نسيجها جمالية الفن المسيحي وجمالية الفن الإسلامي، على اهتمام الباحثين في أنحاء العالم بمشرقية الفنان بخاصة. ومن ناحيتنا، يهمنا إبراز الأثر العميق الذي نقشه المغرب في نتاجه الأدبي تحديدا، المتيقظ تقليدا والمفتون حداثة. وهنا لب هذه المقالة الذي يحتم علينا طرح أسئلة حول أثر المملكة المغربية الشريفة في تشكل الحداثة الأدبية لدى جبران طرزي، وفي نقش بصمتها في كتاباته بعد عودته من المغرب إلى لبنان:

  • كيف تتجلى العروة الوثقى بين جبران طرزي والمغرب؟
  • كيف تسهم المغرب في تكريس عروبيته ومسيحيته ومشرقيته في آن؟

ولتجلي المبحث هذا بوضوح، نرى أن نخوض أولا في البيئة المغربية التي حضنت ابنها جبران طرزي، ومنها سننطلق إلى جوهر تأثره بثقافتها.

أولا: البيئة الحاضنة لعشق المغرب

تعود جذور عائلة جبران طرزي إلى العام 1793، حيث غادر رب العائلة الأكبر تركيا ليستقر في دمشق، محترفا الخياطة والتطريز. وفي العام 1860، استقر الجد الأكبر لجبران واسمه ديمتري طرزي، في مدينة بيروت، حيث امتهن تجارة التحف ونشر البطاقات البريدية، وبلغ اهتمامه بالتراث من خلال تأسيسه مشاغل حرفيات في بيروت وفي دمشق وفي القدس وفي القاهرة.

ترعرع جبران في بيت ذي طراز معماري دمشقي، فكان الحس الفني جزءا من حياته اليومية، إلى حين حدوث انعطاف في مسار أسرته، حيث قرر والده – ألفرد طرزي – نقل أشغال العائلة التي كان يديرها آنذاك مع أخيه، إلى المملكة المغربية عام 1946. فأنشأت مؤسسة آل طرزي في المغرب فندق Saint-Georges في شارع Murdoch في الدار البيضاء، وهو مؤلف من خمس طوابق، وافتتحته عام 1953. تمتع الفندق بتغطية إعلامية، لجماله المعماري الموريسكي، وللذوق العربي الرفيع في تصميم هندسته. فقرر ألفرد طرزي افتتاح فرع آخر في مدينة الرباط، وهو مؤلف من 25 غرفة؛ ولجماله الفريد، نعته بعض النزلاء بأجمل فندق في إفريقيا الشمالية.

شكل المغرب كيان جبران طرزي تاريخيا واجتماعيا، إذ تفاعل مع حياة المغاربة في الرباط بمدينتيها العتيقة والحديثة، ومع الجغرافية وفن الأرابيسك والأدب والفلسفة، ومهر في التحدث بلهجة المغاربة. وكان شاهدا على حقبة الحماية الفرنسية على المغرب وعلى احتفالية استقلال المملكة عام 1956، هذا الحدث الذي أثر في تجارة التحف التي برعت فيها عائلته والتي عرفت الانهيار حيث أن معظم الزبائن هم من الفرنسيين.

عاد جبران طرزي وأهله إلى لبنان عام 1959 للاستقرار النهائي، ولكن الكاتب استمر بزيارة المملكة لعدة سنوات، كما سافر إلى فرنسا وإيطاليا واليمن والعراق وغيرها وجمع الكثير من المقتنيات التراثية.

وفي لبنان، استكمل جبران طرزي مسيرته الابداعية التي تجلت ثقافة وفنا وأدبا. ويطيب لنا الخوض في مغربية جبران طرزي، بهدف الإضاءة على ما للمغرب من فضل في حسه الفني التجريدي الذي يتجلى في كتابه Douze saisons 2017، بالاستناد إلى 12 سلسلة من رسومه المتأثرة بالأرابسك وبالفن الاسلامي عموما.

ثانيا: المغرب في نتاجات جبران طرزي الأدبية

تتجلى هوية جبران طرزي في توقه إلى البحث عن مشرقيته خارج حدودها الجغرافية والتاريخية، مرتحلا إلى المغرب الغني بتنوعه الثقافي.

لا بد لنا أن نخوض في هذا التأثير في كتابات جبران التي عمل عليها بعد عودته إلى بيروت والتي تتمحور حول الثيماتles thèmes  ذاتها فيما يخص المغرب تاريخا وجغرافيا وثقافة، كما يجسدها جبران بين الواقع والخيال، مستعينا بأنواع أدبية مختلفة، مما يدل على موهبته الابداعية في توليد الأفكار وفي تلاقيها فيما بينها، مجددا في التعبير والأسلوب.

وتتميز كتاباته بكثافة المعنى حول العروبة الثقافية أولا ثم العروبة السياسية، وحول تداخل الثقافات فيما بينها وتجاوز الاختلافات الدينية والثقافية. جبران طرزي بعيد عن الطوباوية الثقافية، بل هو ملتصق في الأرض المستقبلة التي تلقى فيها علومه. ولا بد من استعراض مضمون كل من مؤلفاته، حتى نعرف القارئ عن جبران الأديب المتجذر في مغربيته بتراثها وحداثتها.

المذكرات اليومية Journal 1970-1980

إن مذكراته اليومية ليست عبارة عن بوح بالأشياء الخاصة بحياته وبأسراره، بل هي جولة أفق حول تأثره بالثقافة المحلية وهوسه بالفن المغربي. كيف لا وتسكن ذاكرته تلك الأكشاك المنبسطة في أزقة مدينة فاس العريقة، كما وأشغال الحرفيين الأصيلين الذين يحافظون على التراث، وكأنما به ينتمي إلى تعدد الثقافات الذي يميز مدينة فاس.

ففي رأي جبران طرزي، هذه المدينة تخطف قلوب الرحالة لجمالية المشهد المتكامل، حيث النساء المحجبات، ورائحة الزعفران، والفن المتوارث الذي يجعل المدينة تضج بتراث الماضي وحيوية الحاضر. فالحياة تنساب في الأزقة وفي الشوارع وفي روح الشعب. ها هي أبواب أزقتها تفتح على مصراعيها لتبهر العين بحركة العربات التجارية، وبالعمارة التي تتميز بنمنمة الفسيفساء، وبجمال نوافير المياه.

إن نظرته إلى عبق مدينة فاس ليست بنظرة سائح عابر فيها. بل هي المدينة التي تحاكي توقه العميق إلى الشعر الذي يرى فيه جوهر الفن التجريدي وجوهر الأدب، هي المدينة-الشعر، وما المدينة قبل الشعر، بل هي ذاك الشعر!

إلى جانب شاعرية مدينة فاس؛ تتسع رؤية جبران طرزي ليتحدث عن مدينة الرباط، فهي أرض الوحي التي تتجاوز الصراع بين المدينة العتيقة والمدينة الحديثة إلى نقطة التقائهما، فهو يرى فيهما تجسدا للحياة بشقيها التراثي والحديث. ويعبر عن توقه إلى المدينة العتيقة لما فيها من عبق التاريخ، ويتذكر فيض الحياة في شوارعها الحية الزاخرة بأنواع التجارة التي يبرع فيها المغاربة، لحسن اتصالهم وتواصلهم مع الزبائن المحليين ومع الأجانب. فهم يبرعون في فن المحادثة واللباقة. هو يذكر الأكشاك التي تبيع المجوهرات ويذكر محال الخياطين وبائعي السوس والآلات الموسيقية والتوابل والمطاعم المتواضعة التي تنبعث منها رائحة اللحم، ويشير إلى أن السائح الأجنبي يؤخذ بهذه المشاهد النابعة من التراث الشعبي. وتستوقف جبران طرزي تجليات ثقافية أخرى، كالمساجد والدباغة، …

وفي مذكراته التي تحمل تاريخ 14 تشرين أول-أكتوبر من العام ذاته، يفيدنا بأنه تعلم صباغة الجلود في المغرب، مما يدل على عشقه للألوان وعلى إتقان استخدام تفاصيلها. وتتجلى هذه المهارة والحرفية في رسوماته التجريدية التي عمل عليها عند عودته إلى لبنان، حيث أن اللون يصنع الحدود بين الأشكال الهندسية.

وعن هذا الموضوع، يحلل في يومياته عام 1975، ماهية هذا الفن عند بدو الصحراء، مشيرا إلى أنه يتأثر بحركة ترحالهم؛ كما وأن اختيار الألوان والرسوم يتأثر بانفعالات من يعمل عليها. ولهذا الفن بعد اجتماعي ونفسي وصوفي، حسب رأيه.

الحاجة إلى الشرق: Besoin d’Orient

في بيانه بعنوان «الحاجة إلى الشرق»، يعبر جبران طرزي عن روح الشرق المنفتح على الغير. وفي رأيه، كل ثقافة محلية هي جزء من الثقافات العالمية، إلا أنها لا تذوب فيها. إن إعادة إنتاج القيم الموروثة بنمطها الجامد هو مقبرة للتراث، لأنها تجعله عاجزا عن الاستمرار وعن التميز عن الثقافات الأخرى. لجبران طرزي نظرة تقدمية تنم عن الحداثة.

ونشير إلى أن علاقته بالمغرب تأتي من دراسته للفنون الشرقية، وتحديدا فن الزخرفة الإسلامية ودقة الأشكال الهندسية. وزاد عشقا بهذا الفن الذي شكل بالنسبة إليه قلقا شعريا وروحيا وجوديا، فتمحور حول الإشكالية التالية: هل يمكن إبداع فن حديث على أن يبقى عربيا أصيلا؟ إن نتاج جبران طرزي الأدبي ينشأ كما فنه عن هذه الإشكالية التي ارتقت إلى مستوى نظرية خاصة به عن الفن والأدب. هذه النظرية تسعى لإيجاد حالة التوازن بين المتناقضات بناء على مبدأ قايم-نايم، الذي يجسد العلاقة بين الخط العامودي والخط الأفقي، القائمة على الحركة والتناسق والتوازن غير الجامد ولا الثابت. فكلما حاول القارئ والمشاهد أن يفقه معنى هذا المبدأ، تبدو المتناقضات متقاطعة فيما بينها، وكأنها دورة الحياة تتكرر، متجددة في حد ذاتها.

وفي رأيه، كل تراث هو حي وقابل لإعادة الإحياء. إن الابداع من خلال الحداثة؛ يؤمن استمرار التراث ويمنعه من الاندثار، كأن يرى الفنان ما لا يرى فيجسد اللامرئي، ويسمع ما لا يسمع فيجسد اللامسموع واللامحسوس واللامفكر فيه.

ومن هنا، يطلق موقفه من الفرنكوفونية التي سببت قلقا ثقافيا في إفريقيا وآسيا، بسبب الخوف من ذوبان العروبة في الثقافة الغربية. هنا يكمن أثر التاريخ المغربي في نفسه، حيث أن المغرب متجذر في التراث الثقافي، بفضل حس الانتماء والوعي الجماعي.

رواية معصرة الزيتون

طرزي

تختزن هذه الرواية عصارة السنين التي عاشها جبران طرزي في المغرب، ومنها استلهم قضية البحث عن الجذور والهوية ومعنى الوجود والمكان الذي أتى منه، في سياق حقبة الاستقلال في المغرب. هذا البحث الوجودي هو صورة عن قلقه، وهو محور الحبكة الدرامية، حيث يجسد شاب في مقتبل العمر واسمه روفا Roufa، شخصية جبران طرزي وما عايشه في المغرب.

إن روفا هو ابن تاجر حرفيات في المدينة العتيقة في الرباط. ويبدو دائم الهيام والتجوال في شوارعها، باحثا عن إجابة عن أسئلة وجودية من خلال مناجاته الدائمة للناسك القديس السوري السرياني سمعان العامودي (389-459).

وخلال الرحلة هذه؛ فإن السعي يضني الساعي. لهذا السبب، تعتري شخصية روفا أزمة وجودية تتجلى في العلاقة مع شوارع المدينة العتيقة التي تشبه المتاهة الداخلية للذات الإنسانية، حيث الشرود والتجوال في سوق المجوهرات وسوق العطارين والتردد على الحرفيين، متسائلا في رؤية تجديدية، عن أهمية الحداثة في التراث مقابل التقليد الجامد.

ويعتري هذه الشخصية، الالتباس والخلط بين الصحراء المغربية حيث الأفق اللامحدود الذي استلهم منه عزلة القديس سمعان العامودي – الصحراء التي يتميز أهلها بملكة الشعر والقوة – والبحر الأبيض المتوسط، فهو المشرقي الذي يبحث في الصحراء المغربية عن الهوية الأصيلة المكتملة، وكأن الصحراء امتداد للبحر والأفق البعيد.

وتعالج الرواية الناحية التاريخية التي تشكل واقع الحبكة الدرامية والتي تبين رأي جبران طرزي من الوصاية الفرنسية. فإن تقليد الأوروبيين هو قناع، وهذا يدل على انتماء جبران طرزي إلى العروبة السياسية. كما وتعبر عن مبدأي تداخل الثقافات فيما بينها وتجاوز الاختلافات، واللذين يشكلان ركيزة للهوية الأصيلة التي تنشأ على مبدأ التنوع. ويستشف القارئ دفاع جبران طرزي عن العروبة الثقافية وعن الانتماء العروبي السياسي.       

وتشهد الرواية على تفاعل جبران طرزي مع الفن العمراني والحس الموسيقي والفروسية. وتجسد حقبة التحولات في مجال الحرفيات والتبادل التجاري بين إفريقيا الشمالية والشرق الأدنى وأوروبا، وهي تحولات أسهمت في انتشار حركة التمدن الاقتصادي والصناعي.

وتبين الرواية تأثير المغرب في روح جبران طرزي على مستوى الإيمان بالله. وهذا الشعور هو أقرب إلى التصوف وليس مجرد تمتمة للصلاة، لأن وظيفته هي تنقية النفس والتسامي والتجاوز. كما أن انفتاح روفا على الإسلام وتفاعله مع الآذان – وهو المسيحي – يدل على حس مرهف تجاه موسيقى الروح وتجاه اللغة العربية.

إن معصرة الزيتون رواية طليعية، تطرح علاقة الانسان بشفافية الوجود وسمو الهوية الأصيلة. ويعتمد المؤلف نهجا مينيماليا minimaliste في السرد. فيتبنى نمطا سرديا حداثيا، يتميز بتكرار الجدليات في مختلف المواضيع، وبعبورها، لأجل الوصول إلى كنه الوجود وحقيقة الإنسان، من دون كيف ولماذا. وتبرز هذه الهندسة السردية أثر فن الزليج المغربي الذي يعتمد أشكالا هندسية منمنمة في فضاء الزمكان. ففي الرواية المذكورة، تبدو الجمل فسيفسائية التركيب وهي تتجلى تحديدا في العبارة المقتضبة التي تتوافق مع فن الشذرة والتلميح ومع ما يعرف بفن الشرود والطباق.  

لقد أسهمت التأثيرات المغربية في تشكيل الكتابة لدى جبران طرزي عند عودته إلى بيروت، وفي تشكيل فنه من خلال رسوماته المستندة على مبدأ قايم-نايم والتي عمل عليها ما بين العام 1989 إلى العام 2003، فأنجز 250 لوحة فنية.

خاتمة

على الرغم من اختلاف الأنواع الأدبية التي اعتمدها جبران طرزي في كتاباته، إلا أن المضمون يجسد تأثير المملكة المغربية الشريفة بمبادئها وفنها وثقافتها وتراثها.     

إن الكتابة تحاكي حياة بدو الصحراء، هي ترحال بين الصورة والكلمة، بين الثابت والمتحول، بين السؤال وسراب الجواب، بين علامة تعجب وعلامة استفهام، بين تجسيد يمحوه التجريد، بين تاريخ واستقلال يعيد صناعة التاريخ بعروبته كخيار للهوية. لقد استمر تأثير المغرب في إرث جبران طرزي الأدبي، وكاد يشكل بداية رحلة جديدة مع الابداع الشعري الحديث، لولا أن سارعت المنية في اختصار القدر.

***

الوعي المغربي في أدب الكاتب والفنان المشرقي جبران طرزي؛ بقلم د. ديما حمدان

اقرأ أيضا: جبران طرزي: التشكيلي والهندسي بين الوظائفي والجمالي، بقلم د. عاصم عبد الأمير

د. ديما حمدان؛ أستاذة اللغة الفرنسية وآدابها، الجامعة اللبنانية

خاص قنّاص – جدل القراءات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى