تواصل مجلة «قناص» في زاوية «خطوة على طريق النشر» نشر شهادات الكُتّاب عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر. هنا شهادة الروائي السوري محمد شويحنة وسياق إصدار روايته الأولى « طوق الأحلام »:
***
كانت جاذبية السرديات وأدب السيرة تحديداً، لها ما يشبه السحر الكامن في اكتشاف عوالم جديدة راحت تتعايش بموازاة العالم ذي البعد الواحد الذي كنا نحياه في حلب، ما دفع إلى قراءة كم لا بأس به من المنتج الأدبي العربي والعالمي في سنوات الدراسة الثانوية ثم الجامعية.. الدافع إلى الكتابة كان مبكراً، وقد تم التجاوب معه من خلال كتابة عدد لا بأس به من القصص القصيرة والخواطر الأدبية، وقد نُشر بعضها بتشجيع من الأديب القاص المرحوم جورج سالم. في المرحلة الجامعية الأولى في قسم اللغة العربية تعزز الاتجاه لدي إلى قراءة كتب النقد والدراسات الأدبية، وهذا ما دفعني لمطالعات معمقة في مجال السرديات، وما نتج عنه إعداد دراسة مسهبة في القصة القصيرة كبحث مقدم إلى كلية الآداب لنيل درجة الماجستير، وقد ظهرت الدراسة إلى الوجود فيما بعد معدلة ككتاب من منشورات وزارة الثقافة في سوريا باسم (القصة القصيرة في أعمال رابطة الكتاب السوريين) عام ٢٠٠٥، لكن هاجس كتابة رواية ظل يتنامى باستمرار، شيء ما في النفس يحاول أن يظهر، أحسست وأنا في دبي مدرساً في جامعة زايد بكم لا بأس به من (نوستالجيا) المكان والجذور، وتشكلت المادة الأولية لرواية ظلت إلى ما قبل نهايتها بلا اسم، حتى لمع في الخاطر عنوان ( طوق الأحلام ) أحلام عهد الصبا وأول الشباب، أحلام باهرة وعريضة ومنفلتة، لكنها بمجمل ما أتاحته حيثيات المرحلة ظلت أحلاماً مقموعة ومستلبة وتسير في درب مأساة لا تنقصها الملهاة أحياناً، وهذا موطن المفارقة الواخزة في حياة جيل وأجيال تلت.
حقيقةً قد نشأ في الداخل النفسي ما يشبه الترجح ما بين الكتابة النقدية والكتابة الأدبية، لكن إغراء البوح السردي لم يكن ليقاوم، بل لم يكن في رأيي ثمة تعارض ما بين الفعاليتين، فعندما يمضي النص في مساراته الصحيحة لن يكون ثمة صدام، وهذا لا يكون إلا من خلال الصدق الفني والقدرة على شد القارئ، والواقع أن هاجس النقد قد يكون ذا أثر سلبي على النص ولكن ليس دائما، إن معرفة بسيطة في النقد من شأنها أن تحسن حظوظ النص الأدبي في النجاح، شرط عدم الافتعال وتفصيل النص على قد النقد.
أنجزت روايتي الأولى إذن، وقرأ المخطوط عدد من الأصدقاء المهتمين، ووجدت صدى مؤثراً وتفاعلاً جميلاً، وقمت بنفسي بطباعته على اللابتوب، وذيلت خاتمة الرواية بعبارة: دبي ٢٠٠٢، وكأنني كنت أقر أن الاغتراب كان دافعاً لظهور هذه الرواية. دفعت بالمخطوط للنشر في دور أدبية معروفة لكن معظمها اعتذر إن بسبب عدم معرفة الاسم كما تبين لي، أو باشتراط دفع مبلغ للدار من أجل نشرها، أعني على حسابي ودون تكفل بالتوزيع، ما جعلني ألجأ إلى دار ناشئة وقتها في حلب، لكن بنشاط لافت، لصاحبها القاص الأديب نادر السباعي، والتي ذاعت وانتشرت إصداراتها المميزة في معظم المعارض العربية، باسم مركز الإنماء الحضاري، وقد تم الاتفاق بعقد ينص على نشر ٥٠٠ نسخة، أشتري منها أنا المؤلف ٢٠٠ نسخة بسعر التكلفة، وهذا ما كان. وحصلت على نسخي مبتهجاً بالإصدار الأول عام ٢٠٠٤، وقمت كما هو معهود بإهداءات كثيرة أتت على مجمل ما عندي من نسخ. وقد سرني وشجعني الاحتفاء بها، وتناولها بالعرض والدراسة من قبل عدد من الكتاب والنقاد، أذكر منهم أنور محمد وفيصل خرتش وعلياء الداية والناقد عزت عمر في كتابه (ظاهرة العنف في الرواية العربية) من خلال دراسة موسعة في الكتاب، كما حولت الرواية إلى سيناريو فيلم لم ينجز من إعداد وضاح عقيل. لكن بقيتُ أظن أن الرواية لم تأخذ حقها من الذيوع والانتشار، إن بسبب حالة الركود الأدبي أو بسبب ضيق مساحة التعريف بالكتاب وانتشاره.
الكتاب الأول كما أشعر يحمل قيمة خاصة بالنسبة إلى مؤلفه، فهو بمثابة قطعة نفيسة من النفس، يحمل ما يحمل من سرد الذات، وربما يكون على مختلف أشكاله ومادته سيرة ذاتية مضمرة أو صريحة، في كل الأحوال هو منطلق لأعمال لاحقة، في حين لا تزال ظروف النشر المتعثر في سوريا تقف حائلاً دون تحقق ظهور أعمال جديدة إلا بصعوبة لا تخفى أسبابها.