مرآة الضوءمسرحُ أفلام

مسرح يسري الجندي: البطولة المُفتقدة في الواقع | أنور محمد

يسري الجندي يحول أحداث الحياة اليومية إلى مسرح

الكاتب المسرحي والسيناريست المصري  يسري الجندي 1942-2022 في مسرحياته؛ والتي بدأها بمسرحية “ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر” والتي قُدِّمت عام  1972 بمسرح الحكيم، وأوقفت ثمَّ أعيد عرضها عام 1988 تحت اسم ” القضية 88 ” ثمَّ عرضت على مسرح البالون عام 1993 تحت اسم “السيرك الدولي” ثمَّ عرضت عام 2007 تحت اسم “القضية 2007” وأوقفت مرة أخرى، وهي عن أسطورة تحكي عن رجل كان يمشي، بينما كان المسيح يحمل صليبه كي يعلقوه، فقال له الرجل: امضِ     امضِ، وكان يستعجله بالمشي، فقال له المسيح: أنا سأمشي، لكن أنت اجلس. وظلَّ اليهودي التائه حياً حتى الآن، وفيها يعرِّي ويفضح أكاذيب الصهيونية اليهودية عن أرض الميعاد التي كانوا مسافرين إليها وغرقت سفينتهم فحمَّلوا مسؤولية غرقها لأولئك الذين يعادون السامية، فيما كانوا هم من أغرقها. ثمَّ المسرحيات التي أسَّس صراعات شخصياتها من السير الشعبية مثل: عنترة، الهلالية، علي الزيبق، الإسكافي ملكاً. الجندي  لا يوقظُ ولا يستدعي أبطالاً ماتوا؛ بل يستدعيهم ليؤكِّد أنَّ الأبطال الأحياء كما لو إنَّهم لم يولدوا بعد. هو يستفزُّ، يُحرضُّ، عسى أن يولد بطل الحاضر (الآن- هنا)، الإنسان الشُجاع، ليس ليُنقذنا، ولكن كي لا نموت، نُفارق إنسانيتنا كجبناء- أو جُبناء لم يُدافعوا عن كرامتهم.

يسري الجندي لمِّا يأخذ الأبطال الشعبيين، وليس الأبطال الرسميين الذين تُصدِّرهم الأنظمة السياسية، فهو يأخذ بسيرة أشخاص حَمَلَةُ مبادئ وقيم إنسانية نبيلة من فطرة أو تربية. فنراهم في مسرحياته: علي الزيبق 1973، حكاوي الزمان، المحاكمة 1976، عنتر زمانه 1976، عاشق المداحين 1977، رابعة العدوية 1980، حدث في وادي الجن 1984، سلطان زمانه  1992، الساحرة 1994. كما في السِيَر التي يأخذ عنها يندفعون بجنون للدفاع عن (الحق) الفطري، وليس الحق السياسي الذي شرَّعه القانون الوضعي. لا شكَّ أنَّهم في مسرحياته يغضبون؛ والغضب هو الذي يقوِّي الصراع عنده، وهو الذي يطوِّره. فهو مَنْ يمسك بخيوط اللعبة المسرحية، يسري الجندي يلعب، بل إنَّه وهو يصمِّمُ شخصياته، يبتدعها، يريد من الممثِّل أن يلعب لايمثِّل فقط، لا يتقمَّص دور الشخصية، لأنَّه لا يحكي أو يروي أو يسرد من تاريخ خرافي- حتى لا تتخرفن الأحداث. فهي حكايات كانت شفوية ولحاجة الناس للبطل السياسي/الاجتماعي/ الثقافي/ الاقتصادي الرمز، تمَّ أسطرتها، ثمَّ تمَّ تدوينها باللهجة العامية مع شيء من فصحى، تناقلتها أجيال, كونها وما تزال، تُشكِّل سور دفاع عن البطولة المُفتقدة في الواقع. وهذا ما يشتغل عليه يسري الجندي؛ إذ يقبض على التأثير الساحر الذي لهذه الحكايات (التأثير) الذي فيها، والذي هو بمثابة (الروح) الذي يمنحها الديمومة. تأثير يلعبه بتقنية الاسترجاع والاستباق ليحقِّق الملحمية. فالخيانة، أو لحظات الضعف الإنساني التي ينهار فيها الإنسان لخوفه- أو من  (الخوف) على حياته من ضِباع الاستبداد، تصير غولاً؛ الغول الذي يفترس شجاعته لينعم بحياة الرخاء، وهذا ما يثير يسري الجندي ويستفزه، خوفٌ يفسد الحياة، كما لو إنَه يسأل: أين الإنسان الشجاع في الآن/ الحاضر/ الراهن. ولماذا لا يظهر في اللحظات الحاسمة، فنقوم نفتِّش عنه، ولمَّا لا نجده، نعثر عليه؛ نستعيده، فننبش قبره، نبعثه من جديد.

يسري الجندي أو (واقدساه) لا يحفر في الماضي، ولا يستصرخ (وامعتصماه). هو في المسرحية ضد التعصب الساذج للبطولة، ضد الاستصراخ ولو إنَّه استفزازي، وقد يكون طوق نجاة للمستصرخ أو للمستصرخة كما حدث مع المرأة التي صرخت وامعتصماه، وردَّ عليها الخليفة العباسي المعتصم بجيشٍ قاده بنفسه وثأر لها من الجنود الرومان في معركة “عمورية”. يسري الجندي يحوِّل الصرخة إلى جدلٍ ساخر، إلى نقد الشجاعة الزائفة، فيكشف عورات (المشجوع) لينصهر الحدث الذي كان في الماضي: شجاعة عنترة..إلخ، في الواقع اليومي، لأنَّ واقدساه ومن قبل وامعتصماه ماتزال قضية الجمهور. ثمَّة تشابكات تاريخية بين معركة عمورية والمعركة المفترَضة التي يُحضِّر لها يسري الجندي في واقدساه التي يكشف فيها خيانة الأنظمة العربية للقضية/ للمأساة الفلسطينية. مأساة؛ مآسي، ولكنَّه في مسرحياته التي هي من تراجيديا، من مآسٍ، تراه يُصرّ على أن تنبعَ من أعماقها تلك الضحكة السوداء- تراجيديا مُضحكة، فنضحك من أعماقنا، كون الضحك عنده يكشف عن اللصوص الذين يتزينون بلباس القضاة.

يسري الجندي في مسرحه، وهذا من أسباب نجاحه أنَّه يحوِّل أحداث الحياة اليومية للناس إلى مسرح، كانت في الواقع، أو تلك التي في حكايات ألف ليلة وليلة أو سيرة علي الزيبق أو عنترة أو السيرة الهلالية، فنزعَ عنها- عن أحداثها الطابع الجبري لأنَّها مسرحيات تتوجَّه إلى الشعب.

 

خاص مجلة قنآص

أنور محمد: ناقد مسرحي سوري | qannaass.com

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى