هل هي عين سعيد أم شيطان إلياس
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة ونصف حينما أتممت العمل المؤقت الذي كلفت به، من حك وصباغة جدران شقة تقع في بناية وسط العاصمة، فركبت الحافلة المتهالكة التي ستوصلني حيث أعيش. كانت المقاعد في الحافلة، ممتلئة عن آخرها بأناس أغلبهم فقراء، ملامحهم تشي بذلك. فالفقر، حيثما حل في الناس، يبدو جليا عليهم، ولا تخطئه عين من تراه. ثم من أصبح يصعد في الحافلة منذ أن ظهر «الترامواي» غير الفقراء، المعذبين، والبؤساء الذين يؤرقهم شيء ما، فيبدون أقرب الى الأموات منهم الى الأحياء، فإذا اجتمع الهم والفقر والمرض ووطأة السنين، على الإنسان يجعلونه على هذه الحالة، ما هو بحي وما هو بميت، يتأرجح بين هذا وذاك. عندما أنظر إليهم فإنني أنظر إلى ما سأصير إليه، فأتألم. إنه مستقبل حاضري الذي أريد تغييره بالرحيل عن هذه البقعة المنكوبة، لا أريد أن أكون عجوزا، فقيرا، ضعيفا، يحكم عليّ وغد في الثلاثينات من عمره، يعمل يوما في الصباغة، ويوما آخر في الجص ويوم ثالثاً حمالا، ويبقى عاطل عن العمل ألف يوم. ويراني، دون ان يخجل من نفسه وبكل وقاحة، أقرب إلى الأموات منه الى الأحياء.
كانت جميع المقاعد ممتلئة، فبقيت واقفا، بينما انطلقت الحافلة بتذبذبها المعهود، مخترقة الشوارع الواسعة والنظيفة دائما ومتجاوزة المشاة على الرصيف المتأنقين دوما. فالرصيف بجانبيه هو مسرحهم الذي يتألقون فيه وذلك كي يثيروا اعجاب بعضهم البعض. وفي أي مكان يريد فيه الناس إثارة إعجاب بعضهم البعض تكون هناك نوع من المنافسة غير المعلن عنها وحيثما تكون المنافسة يكون العنف، وهذا العنف غالبا ما يتم توجيهه إلى الفئات الهشة التي لا تقدر على التأنق بشكل مستمر ومواكبة هذا الهوس الاستهلاكي المحموم، فيتملكها إحساس أنها ليست في مكانها الطبيعي، كأن هناك شيء ما، لا تدركه العين، يلفظها بعيدا عن مثل هذه الأماكن. كيف أعرف ذلك؟ لأني كنت ولا زلت ضحية هذا العنف وساعدتني الكتب المدمن على قراءتها، على إدراكه وفهمه فهما جيداً. فالكتب تجعلك ترى ما هو مخفي خلف الأشياء، ما يوجد وراء الظلال المرسومة على الحائط، تمدك بشيء شبيه بالحاسة السادسة. الكتب بعبارة أخرى تجعلك مختلفا عن الناس من حولك. نزعتني الحافلة من أفكاري بوصولها الى الحي الذي أعيش فيه بعد أن استغرقت بتوقفها المستمر، ساعة من الزمن، كانت كافية لتكشف عن حجم الهوة بين الهنا والهناك. بين الهامش والمركز، بين الذين يتوهمون أنهم يعيشون والذين يعيشون.
انفتح الباب الآلي، عدلت من ثيابي، ونزلت من الحافلة، فتلقفني الحي الذي أسكنه بروائحه التي تميزه، وأجوائه المختلفة، وحالته المتقدمة من الخراب. وضجيجه الذي تحدثه السيارات التي تخترق الشارع والتلاميذ الذين يلاحقون بعضهم البعض بياقاتهم الزرقاء ومحافظهم الثقيلة على ظهورهم، وعتمته التي لم تنجح أعمدة الإنارة في تبديدها، كون هذه الأعمدة، التي تبني فوقها الطيور أعشاشها، لا تضئ سوى على نفسها.
كنت أتضور جوعا، لهذا ما إن نزلت من الحافلة حتى قصدت عربة سعيد للمأكولات، كانت موقوفة على الرصيف، بالقرب من عربات الخضرة، وكان يقف غير بعيد عنه جمع من شباب الحي، كانوا يستمعون من مكبر الصوت إلى أغنية من أغاني الشاب بلال الذين يحس ساكنة الهوامش أنه يتحدث بصوتهم.
ألقيت عليهم التحية، وطلبت من سعيد خبزة محشوة بالكفتة وكأس من عصير الليمون، واقتعدت صندوقا خشبيا. وفي انتظار أن يقوم بتحضير ما طلبته، تبادلنا أطراف الحديث عن الحال والأحوال. وعن العمل، وعن أصدقاء الأمس الذين صاروا غرباء، وعن أولئك الذين توظفوا مع الدولة وأضحوا يتحاشون الوقوف معنا، ثم لفت انتباهه الحذاء الذي أرتديه فسألني من أين اشتريته؟
كان حذاء رياضيا لافتا للأنظار، من ماركة أديداس، أصلي. عثرت عليه في وقت الظهيرة ملقى في حاوية القمامة وسط الحي الجميل الذي أعمل فيه، وذلك حينما كنت أحاول رمي مخلفات مواد العمل، سطل صباغة فارغ، قناني بلاستيكية وأزبال أخرى.
في البداية ظننت أن الحذاء ممزق أو مثقوب من قاعه، وإلا لماذا هو مرمي وسط الأزبال؟ وقد فكرت قبل سحبه بإمكانية إصلاحه وتخصيصه للركض كلما عنّ لي ذلك، غير أنني بعد سحبه وتنظيفه مما علق فيه من أزبال وجدته سليما، معافى، كأنه لم يلبس إلا في مرات قليلة، علاوة على ذلك كان ملائما لي، على مقاسي، كأنه لم يتواجد في حاوية القمامة إلا من أجلي. لهذا أخذته بكل فرح وارتديته.
لن أخبر سعيد بذلك إلا لو كنت مغفلا وأنا لست مغفلا، فقد علمتني التجربة أنه في مثل هذه الحالات من الأفضل أن يتجنب المرء قول الحقيقة، وحتى في حالات أخرى، من الأفضل دائما ألا يكشف المرء عن كل أوراقه، فمن يعرف متى يتحول الأصدقاء والمعارف والذين ترتاح لهم إلى أعداء، ويصبح ما أفشيته لهم من أسرارك سلاح يوجه ضدك، وغالبا هذا ما يحدث. إليكم حقيقة: الأصدقاء في هذا الزمن الاستهلاكي يتساقطون باستمرار مثلما تتساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف. قلت له بأني حصلت عليه كهدية من ابن عمتي الذي يعيش في بلجيكا، فباغتني بسؤال شائع: لماذا لا تتحدث معه كي يخرجك من هذه الحفرة؟
ندمت لأني لم أقل له بأني اشتريت الحذاء من أحد متاجر الأحذية وبهذا أغلق الموضوع، فسعيد لا يعلم أن آخر مرة تحدثت فيها مع ابن عمتي، الذي كان يحب أن يقضي طفولته معنا في الحي الشعبي، كانت قبل سبع سنوات، أي بعد سنتين من هجرته إلى بلجيكا إثر زواجه من نصرانية فتحت له أبواب الجنة الأوربية التي نحلم جميعا بالولوج إليها، عاد من هناك شخصا آخر، يتحدث كأنه ينتزع الكلام من أعماقه، ويتصرف بطريقة مستفزة مليئة بالغرور، فأخبث شيء في نظري هو أن ينفخ المرء صدره ويحاول الدوس على البؤساء والفقراء. إليكم حقيقة ثانية: الغربة تغير أفراد العائلة مثلما تغير الوظيفة الأصدقاء. لكن لا تخبروا أحدا بذلك، لأنهم سيرونكم كحساد رغم أنهم لن يخبروكم بذلك!
تسليت بتناول الخبزة، بينما انغمس سعيد في تقليب الدجاج على الشواية والحديث مع أحدهم، في حين كان الشاب بلال، المغني الذي لا يشيخ مهما تقدمت به الأيام، يعلن بصوته الحزين بأنه مغبون وحياته ضائعة ولم يعد هناك لا أحباب ولا أصحاب.
أنهيت الخبزة، أعطيت لسعيد، خمسة عشر دراهما، ودعته، وتزحلقت نحو المنزل. وما إن ولجت الى الداخل حتى قمت بأخذ دوش دافئ، ثم استلقيت فوق سريري المفرد، ولم أدري متى غطست في نوم عميق إلا بعد أن اسدل الليل ستاره، لأستيقظ على صوت رنين الهاتف، فتحت الخط، كان المتصل أيوب، أخبرني أنه في المقهى رفقة إلياس ومحمد، قلت له: خمسة عشر دقيقة وسأكون هناك.
**
كانت الساعة تقترب من الحادية عشر ونصف مساءا، ودعت الأصدقاء ثم جرجرت أقدامي صوب المنزل، في الطريق اشتريتُ من أحد الأكشاك علبة سكاكر بالنعناع بثلاثة دراهم، فتحت العلبة وسحبت منها حبة وضعتها في فمي من أجل إزالة رائحة الدخان والموت والتعفن والهزيمة، أو بالأحرى لجعل فمي بلا رائحة.
دسست العلبة في جيب سروالي الأمامي، فلامست يدي الولاعة، هنا اكتشفت أني حينما أشعلت سيجارتي في المقهى قد وضعت ولاعة صديقي إلياس في جيبي دون أن أدرك ذلك.
فكرت في أنه سيعتقد أنني سلبتها منه وسيرسل لعناته إلي وربما يهجوني بقصيدة من قصائده التي تستحق أن تجمع في كتاب، فهو شاعر جيد، لكنه لا يحب نشر ما يكتبه من أشعار، بل يكتفي فقط بقراءتها علينا عندما نكون تحت تأثير دوار لذيذ ونحن نكرع عدة كؤوس من النبيذ.
كم أضحكنا هذا المساء في المقهى وأبهجنا. وجعل نفسه موضوعا لسخريتنا وذلك حينما أخبرنا بأن أجمل قصائده وأحسنها، سقطت عليه بما يشبه الوحي وهو يجلس بشكل مقرفص في المرحاض يقضي حاجته، ثم قال بجدية مبالغ فيها ليظهر لنا كم هو عميق:
- إن الشعر، والشعر وحده، من يستطع أن ينبث في الأماكن القذرة والمدنسة.
لكزت أيوب بكوعي، ثم قلت مازحا:
- لهذا السبب تنبعث من أشعاره رائحة قذرة.
ثم انفجرنا ضاحكين. طرد إلياس بيده ذبابة حطت على كأس قهوة بالحليب، وارتشف رشفتين، تلمظ بتلذذ وقال:
- الحديث معكم حرام
قلنا له بأننا نمزح فقط، وانفجرنا مرة أخرى بالضحك.
وما إن توقفت نوبة الضحك حتى تدخل محمد – دودة الكتب، ذو الثقافة الموسوعية والذي يبهرنا بكمية ما يعرفه بالقول:
- هناك تفسير معقول، فكما تعلمون جميعا في الثقافة العربية الخلاء مسكن للشياطين والجن، وأيضا هناك اعتقاد شائع، بأن الجن والشياطين توحي للشاعر قصائده، فالكثير من الشعراء والباحثين تحدثوا عن هذه المسألة بما فيهم الرائع عبد الفتاح كيليطو، وبالتالي إذا علمنا ذلك فلا غرابة في ما قاله إلياس، فالشاعر صديق الشياطين/ الجن التي طُردت في هذا العصر من معظم الأماكن واستوطنت المراحيض كآخر معاقلها!!
بعد أن دسست علبة السكاكر التي اشتريتها في جيب سروالي، مشيت وأنا أفكر في كل ما تناقشنا حوله، وكيف أنني أعجبت أيما إعجاب بما قاله محمد. إنه مكتبة حية، نموذج للشخص الذي يملك معارف ويعرف كيف ينظمها، وهذا هو الأهم، أن تكون منظما، وليس عقلا ممتلئ، ولكن غير منظم، ثم فكرت أيضاً في أنه دون هؤلاء الثلاثة الذين أتناقش معهم حول عالم موازي تحاول مشاغل الحياة إبعادي عنه، ستصبح الحياة لا تطاق. فمع هؤلاء أحس فعلا بأنني حي.
وصلت إلى الحي الذي أسكنه، انعطفت مع زقاق ضيق يوصل مباشرة إلى المبنى الذي أعيش فيه، فسمعت رنين الهاتف، أخرجته من جيب سترتي، نظرت إلى شاشته كان إلياس هو المتصل.
أكيد سيصب علي لعناته لأني أخذت ولاعته. فالولاعة بالنسبة للمدخنين شيء مقدس وثمين. وقبل أن أفتح الخط، جاءني شخص من الخلف وأطبق على رقبتي بذراعه، ظننت في البداية أنه مجرد شخص من أبناء الحي يمزح معي، إذ غالبا ما نمزح ما بعضنا البعض بهذا الشكل السخيف، لهذا كنت أتحدث حديثا أخرقا بأنني عرفته، غير أني سرعان ما انتابني شعور بضيق في التنفس كونه بدأ يضغط على رقبتي بكل قوته، اللعين هل يريد قتلي، حاولت المقاومة بلا فائدة، الوغد أقوى مني، في محاولتي للمقاومة سقط مني الهاتف وحقيبتي المعلقة بكتفي على الأرض، هنا وغد آخر، يبدو أنه زميل هذا الذي يمسك بخناقي لم أتبين ملامحه جيداً، حمل الهاتف والحقيبة، كان يجردني من كل ما أملك، ويسلبني ما كدحت من أجله شهور وشهور حتى تقوس ظهري: حاسوب محمول، محفظة تحتوي مبلغ نقدي لا بأس به، بطاقتي الشخصية، وبطاقة حسابي في البنك المليء بالفراغ كامتلاء قلبي بالألم.
لكن هذا كان آخر همي، لأنه في تلك اللحظة ضربني بشيء حاد، ففقدت إحساسي بالأشياء من حولي. ظننت أني سأموت، لم أفقد الوعي، لكني كنت دائخا ومتألما، كانت الأرض تدور بي. والدم من رأسي يسيل على وجهي. نزعوا حذائي الرياضي من قدمي، تركوني حافي، إنهم لصوص لا يحملون شرف اللصوص، ثم اختفوا مثلما ظهروا.
لا أعرف لماذا وأنا غارق في دمي خطر في بالي أولا شيطان إلياس، يبدو أنه هو الذي أوحى لإلياس بينما كان يقرفص في المرحاض يقضي حاجته كي يتصل بي بينما كنت أمر من الزنقة التي كانت خاوية على عروشها، فضلا على أنها معتمة، فقط عمود إنارة يضيء على نفسه، مكان مناسب لاختباء الجرذان، في انتظار مرور ضحية ما، وكنت أنا، للأسف، هذه الضحية المنشغلة بهاتفها، وخطر في بالي أيضاً سعيد صاحب عربة المأكولات، إنه يملك عيون لعينة، عيون سحرية ولا شك، فبعض الاشخاص مثل (التابعة) إذا ما شاهدوا شيئا عندك من الأفضل ان تنزعه من على جسدك وإلا سيحدث لك ما لا تحمد عقباه.
***
قصة قصيرة: هل هي عين سعيد أم شيطان إلياس؛ بقلم حمزة الذهبي
الصورة الرئيسية: الفوتوغرافي المغربي الحسين بوميلا
القاصُّ المغربي حمزة الذهبي