الفوز بجائزة «سركون بولص» لترجمته: جون آشبري.. صورة ذاتية في مرآة مُحدبة وقصائد أخرى
القاهرة: خاص قناص
رحلته مع «بيت القصيد» طويلة وممتدة وإن لم تُسفر سوى عن مجموعتين شعريتين يفصل بينهما 20 عاما، قادته المجموعة الأولى إلى أن يُبحر بين الأوهام وإن كانت صغيرة، لكنه ظل يبحث عن الحلول فلجأ إلى «اختبار الحاسة». إنه الشاعر السعودي غسان الخنيزي الذي حاز مؤخرا جائزة «سركون بولص» للشعر والترجمة في دورتها الرابعة لعام 2021.
ضيفنا؛ الذي أبصر النور في واحة القطيف شرق المملكة العربية السعودية عام 1960م، عاش لفترة في العراق قبل أن ينتقل للولايات المتحدة الأميركية للدراسة، يُعد أحد أبرز شعراء جيل التسعينيات في المملكة، إلى جانب: أحمد الملا، محمد الدُميني، عبد الله السفر، وغيرهم. صدرت له مجموعتان شعريتان؛ «أوهام صغيرة» عام 1995م، و«اختبار الحاسة» عام 2015م. وفضلا عن كونه يُمسك بناصية الشعر، امتلك أدوات الترجمة، وما كان تتويجه بجائزة سركون بولص إلا نتاج تكامل الإبداع الأدبي بين الشعر وترجمته، وذلك عن إنجازه لمختاراته المترجمة لأعمال الشاعر الأميركي جون آشبري، التي صدرت تحت عنوان “جون آشبري.. صورة ذاتية في مرآة مُحدبة وقصائد أخرى” عام 2019م.
تلك المسيرة الإبداعية ذات السياق الممتد بين الشعر والترجمة.. كانت النافذة التي أطلت منها «قناص» على عالم الشاعر غسان الخنيزي.. وكان هذا الحوار:
*يوصف الشاعر غسان الخنيزي بأنه المُقل في أعماله، المُجيد فيما يُبدع.. برأيك ما السبب في أن تنقضي 20 سنة بين عمليك «أوهام صغيرة» و«اختبار الحاسة»؟
لعل السبب في طول الفترة بين صدور أعمالي الشعرية، إنما يعود في الأساس إلى أن الشاعر يقف مشدوهًا أمام جمالية اللغة التي يستقيها من التراث ولا يوصد عليها الأبواب أمام موجات الحداثة، فتستغرقه المعاني الشعرية النفسية منها والفلسفية والعاطفية، وهذا ما يُبقى قصائده أشبه ببئر الماء، ينهل منها في غدوه ورواحه، ويظل ظمآن لهذا المنهل العذب، أو كصفحات الكتاب الشيق الذي يعاوده القارئ من حين لآخر.
القصائد دائما ما تبقى بحاجة إلى استكمال ومعاودات أخرى، تُبث فيها المعاني، وتُزين بجماليات اللغة، ويُضاف إليها تجارب حياتية ناتجة عن النظر والمعايشة؛ لذا أُفضّل ترك أبواب القصائد مفتوحة لأضيف إليها المعاني والدلالات.

*فُزت مؤخرا بجائزة «سركون بولص» للشعر وترجمته في دورتها الرابعة لعام 2021 .. ماذا تُمثل لك هذه الجائزة؟
سعيد بطبيعة الحال بهذا الفوز، وأتشرف بأن يكون للشاعر سركون بولص، صاحب الرؤية الإنسانية واللغوية الخاصة والدقيقة ضوء في تجربتي الشعرية، كما كان له هذا الحضور في مسيرة الكثير من أقراني على مستوى اللغة العربية وعالمها، حيث أضاء على بحثنا في اللغة والأسلوب، وفي روح اللحظة الشعرية في حياتنا، سعيد بأن يكون له دور عليّ وعلى الشعراء المُبدعين الذين حصلوا على الجائزة قبلي.
أقول دائما إن ما كتبته كان أجدى من الصمت؛ وإن فوزي ليس إنجازا أحتكر ادعاءه، بل هو اعتراف بقيمة جيل شعري بأكمله ظهر في التسعينيات، كُلي فخر بأن أقول هذا الكلام، وأن أمثل هذا الجيل، كما هو نتاج إيمان الصديقين الشاعر والناقد عبد الله السفر، والشاعر والرائد الثقافي أحمد الملا؛ لتشجيعهما لي، وثقتهما بجدارة الأمر وجديته، ثم هو نتاج لحب غامر، أنعم به ويمنحني العزم على المضي في مغامرة الكتابة، كما أُهدى هذا التكريم إلى الأديب واللغوي والناشر لقمان سليم، الذي توسم شيئا ما في ما أكتب منذ البداية، هو وشريكته في الدار الأديبة والروائية رشا الأمير، اللذان منحاني كما منحا جيلا كاملا من الشعراء السعوديين، هو جيل التسعينيات، نافذة عريضة تُطل على مشهد الشعر العربي الحديث.
*دائما ما تذكر أن المقاربات والتجارب الشعرية المتجاورة كانت سر النجاح لجيل شعراء التسعينيات؟
نعم، فقد كانت التجارب متجاورة بالهامات وطموحات مشتركة في غايات الكتابة واللغة والمعنى، فعلى سبيل المثال كان للشاعرة والأديبة الإماراتية ميسون صقر إلهام كبير في ديواني الأول، فحين كتبت قصيدتها «الآخر في عتمته» نسجتُ على منوالها قصيدتي «الآخر في سباته»، وقامت بعد ذلك برسم لوحات للكتاب، وبالأخص لأطول قصيدتين في المجموعة، وهما «الآخر في سباته»، و«روح شاردة»، وحتى الآن أظل أُفكر في طبيعة الإلهام المشترك والمتبادل بين التجارب الفنية سواء التجارب التشكيلية أو الأدبية، أو بالأحرى بين الرسم بالألوان والرسم بالكلمات.

*هذه المقاربات التي وجدتها مع أبناء جيلك من الشعراء العرب، هل يمكن أن تجدها مع شعراء أجانب، خاصة وأنك تُتَرجم أيضا؟
لطالما أوجد الشعر قواسم مشتركة بين شعراء العالم، وعبر تلك القواسم توجد المقاربات، وقد اشتركت مؤخرا في قراءة افتراضية مع الشعراء الهنود بمهرجان كريتيا الهندي للشعر، وقد استوقفني الشعر الهندي المكتوب باللغة الإنجليزية، حيث تسرب إليه بعض تقاليد اللغة الإنكليزية التي تمتاز بالكثير من اللياقات والاعتبارات التي ترجع للعصر الفيكتوري خلال القرن التاسع عشر، مثل صيغ الاحترام والتفخيم، وقد ظل الشعر الهندي المكتوب بالإنكليزية يحمل تلك الروح، بالإضافة إلى حداثة جديدة، ومن بين النصوص التي ترجمتها نصا جديدا للشاعرة الهندية راتي ساكسينا، وهى شاعرة مخضرمة عريقة، ورئيسة مهرجان كريتيا للشعر الهندي، وأكاديمية متخصصة في دراسات الفيدا (النصوص المقدسة في العقيدة الهندوسية)، ويحمل هذا النص عنوان «قبل الرحيل»، تقول فيه:
أغلق الأبواب كلها واحدا واحدا.. أنصت لوقع السِكاك.. واربت على مِقبض كل باب مُودعًا إياه.. وحاول ألا تُعطيه وعدا بالمِيعاد.. ولا حتى عن غير قصدٍ.. لا تقلق حيال من قد يعبُره بعدك.. كل بابٍ يُقرر ذلك بنفسه.. قبل الرحيل امسح كل بصمةٍ وكل أثرٍ لقدم لا حاجة لها لأي شخص.. قبل الرحيل اجمع حوائجك وارسم كل الحكايات الصدئة.. وزين الطاولة بذكريات الضحك.. قبل الرحيل تحقق من كل كتاب وارم الزهور اليابسة المُودعة بين صفحاته.. قبل الرحيل امسح كل سطر.. وفكك كل العُقد.. وابتسم بقوة إلى أن تأتي الحياة لتجلس على زوايا فمك.. قبل الرحيل أغلق الباب الأخير.. أما الأبواب الأخرى فستغلق نفسها بنفسها.
*لكل شاعر أدواته الخاصة يوظفها كما يشاء في قصائده.. ما الأدوات التي يستعين بها غسان الخنيزي في إبداعاته الشعرية؟
الشعر، فعالية يمكنها أن تتسامى فوق صعوبة العالم وتدفع بنا خلال هذه الصعوبة وفوقها، وحين أرسم ملامح تجربتي الشعرية، أمسك بأدواتي التي طالما أمسك بها الشعراء من قبلي، وهي اللغة والمعنى.
تركيزي على اللغة بمعنى المواصلة على الكتابة وخوض المغامرة الإبداعية المتمثلة في تقديمها عارية مما كان يُسندها من هيكل خارجي، وذلك بحثًا عن الطبقات الأعمق في مجاهل الذات، ألوذ بالصمت أمام كل مفردة، أتأملها طويلا، وأسبح في ماهيتها، وربما يطول ذلك التأمل بقدر المسافة الزمنية الفاصلة بين مجموعتي الأولى والثانية، فالقصائد بحاجة إلى معاودات جديدة، ربما لإضافة معاني جديدة أو خبرات حياتية مكتسبة.
أما فيما يتعلق بالمعنى، فإن ذلك الصبر وتلك الأناة على تأمل اللغة ومعالجة مفرداتها هي التي تدفع لاستلهام المعاني، وقد عالجت ذلك في نص عنوانه «في المعنى» من كتابي «ختبار الحاسة»:

في المعنى
«الشعرُ كلامٌ قليل.. يكونُ لك متى ما استيقظتَ من غفوتِك.. أيُّها الشفّافُ في المنامِ- المعتمُ في اليقظة.. كلامٌ يكونُ لك متى ما استويتَ وأخذتَ مكانَك.. ليس كما اتّفق.. بل برحابةِ صدرٍ واجتهاد».
الشاعر يصبو لخلق العالم بالخيال والتصورات، يُقدم الحلم على أية آلية أخرى في إنتاج المعاني والدلالات، إنها قدرة الشاعر على خلق الزمن والوجود بخياله وأحلامه.
*ما الجديد الذي يحمله غسان الخنيزي؟
هناك مجموعة من النصوص لم أنشرها ولم يجمعها كتاب، أطلعتُ عليها بعض الزملاء من الشعراء الذين يرون أنها جاهزة للتدقيق والطباعة، وأنا أعتقد أنها جاهزة لإعادة الكتابة، ومن بين تلك النصوص، قصيدة «الشطرنج»:
«تلتفتين بعين ترمي بشررٍ.. تُحركين البيدق فوق الرقعة قائلة: فلنستعر كوكبًا آخر.. حياة أخرى هي كالحياة التي في الحكاية.. لكن الفضاء الخارجي مملكة للكلام ليس إلا، فنحن مُحملون بالتكهنات وبالشراكات المُزخرفة.. أثقل من أن نطير وأقل شجاعة من فينيق.. تُحصَّنين مليكتي جاعلة الرخ في موقع الهجوم أيضا.. على شفا الانتصار أنت أكثر تحنانًا.. بيديك المتحركتين في الهواء الذي بيننا.. وأكثر رغبة في الغناء بين نقلة وأخرى.. أتراجع مُتجنبا سهامك.. ساحبًا وزيري الأكثر حيرة على مربعات الأبيض والأسود.. ومُفكرًا في البستان الذي زرعناه بأشجار العائلة.. ومُنْصتا إلى الغناء الآتي منه.. الصوت افتراضي.. اهتزاز موجات ليس إلا.. والنشيد نهائي على الأرجح.. وصادر عن جوقتين على طرفي البرزخ.. مُستهدفًا وجهك.. مُتنبها إلى شفتيك المذمومتين بقوة.. ومتمنيًا لو أودع حياتي فيهما.. مُحركا الرُّخ أيضا.. معتمدًا على أن الزاوية هي المكان الذي نرى فيه اتجاهين، وهي أيضا مبتدأ النظرة إلى المشهد الطبيعي.. وإلى ساحة المعركة حيث تكونين على الجبهة الأخرى.. تراوحين بين الصفوف بأفيالك وملابس وعمامة صفراء مُظفرةً ومتوجة.. كنت كشفت عن الجبهة الداخلية لكِ.. فاتحًا الجناحين.. مُغررًا بالفيل والأحصنة ومُجمل الجُند.. إلا أن حماسك الخاطف شتت الإغواء كله.. وأربك خُطتي البديلة بألا أُحرك ملكي إلى المكان الخطأ.. وألا أكون أبا لهذا الكوكب».
أحمد عادل: كاتب صحافي مصري
