قيل عن الرواية:
«تؤكّد هذه الرواية مقدرة غالبريث الاستثنائيّة على السّرد».
Daily Mail
«لا يسهل أخذ استراحة معها… لا تقاوم».
Sunday Times
«غالبريث واحد من ألمع الكتّاب البوليسيين الحداثويين».
جوسلين ميكليرغ USA today
ــــــــــــــــــــــــ
في الطريق، خطرت بباله فكرة مفاجئة. لقد افترض أنّ العيادة تختصّ بالعلاج النفسيّ، ولكن ماذا لو…؟
ثمّ رنّ جرس هاتفه، وكان الاتّصال من المكتب.
– آلو؟
– سيّد سترايك؟ سيّد سترايك؟ قالت دنيز بصوتها الحادّ المعهود، هل يمكنك العودة بسرعة، من فضلك؟ رجاءً… أتى إلى المكتب سيّد، وهو يريد رؤيتك في الحال…
وسمع سترايك عبر الهاتف صوتًا قويًّا ورجلًا يصرخ.
– رجاءً، عد حالًا، سيّد سترايك! صرخت دنيز.
– أنا آتٍ! قال سترايك وتابع طريقه محاولًا أن يركض لبلوغ المكتب.
***
استعان سترايك لاهثًا بالدرابزون ليسحب نفسه إلى أعلى الدرجات القليلة الأخيرة من السلّم المعدني المؤدّي إلى مكتبه، وقد استحوذ على ركبته اليمنى ألم شديد. كان صوتان مرتفعان يصدحانِ عبر الباب الزجاجي، أحدهما صوت رجل، والآخر زاعق، خائف، وأنثوي. عندما اقتحم سترايك الغرفة، شهقت دنيز، التي كانت تتّكئ على الحائط، «آه، الحمد لله!».
قدّر سترايك أنّ الرجل الواقف وسط الغرفة في منتصف العشرينات من عمره، وقد تدلّى شعرهُ الأدكن خصلاتٍ غيرَ منتظمة، منسدِلًا فوقَ وجهٍ رقيقٍ متّسخٍ تهيمن عليه عينان غائرتان ومتّقدتان.
قميصه وسرواله الجينز وسترته ممزقة وقذرة، ونعلُ أحد فردتَي حذائه يكاد ينفصل عن الجلد.
اشتمّ المحقق رائحة أحد الرعاع.
كان المجهول بدون أيّ شك مريضًا عقليًا. فقد كان، تقريبًا كلّ عشر ثوانٍ، في ما بدا أنّه تشنّجٌ لا يمكن السيطرة عليه، يلمس أولًا طرف أنفه، الذي أضحى أحمر اللون من جرّاء النقر المتكرّر، ثمّ ينتقلُ إلى عظمة القصّ الرقيقة محدثًا صوتًا مكتومًا أجوف، لتسقط يده أخيرًا إلى جانبه، ثمّ تطير على الفور إلى طرف أنفه مجدّدًا.
وكأنّه نسي كيف يرسم إشارة الصليب أو اختصر الإجراء بغية تسريعه. الأنف والصدر ثمَّ تسقط اليد بمحاذاة جسمه؛ الأنف فالصدر فتعاود اليد انزلاقها بمحاذاة جسمه من جديد.
كانت الحركة الميكانيكية مزعجة لمن يشاهدها ولا سيّما أنّه بدا بالكاد مدركًا أنّه يرسمها. وبدا أيضًا أنّه من أحد هؤلاء المرضى اليائسين الذين تجدهم في العاصمة وتعتبرهم دائمًا مشكلة شخص آخر، كالمسافر في مترو الأنفاق الذي يحاول الجميع تجنّب النظر في عينيه، والمرأة التي تصرخ عند زاوية الشارع ويعبر الناس اإلى الرصيف المقابل لتجنّبها. هؤلاء نماذج شائعة من الإنسانية المحطّمة، أكثر شيوعًا من أن يشغلوا المخيّلة لفترة طويلة.
سأل الرجل المتّقد العينين «أنت هو؟» بينما لمست يده أنفه وصدره مرة أخرى. «أنت سترايك؟ أنت المحقق؟».
بيده التي لم تكن تطير باستمرار من أنفه إلى صدره، شدّ فجأة سحاب بنطلونه.
أصدرت دنيز صوتًا حادًّا وخافتًا، كما لو أنّها خشيت أن يفتح سحابه، وبالفعل، بدا ذلك ممكنًا جدًا. أجاب المحقق: «أنا سترايك، نعم»، وهو يسعى إلى أن يتمركز بين الغريب والسكرتيرة المؤقتة. «هل أنت بخير يا دنيز؟»، سألها فهمست: «نعم»، إلّا أنّها بقيت تستند إلى الجدار.
قال الرجل المجهول: «رأيت طفلة تُقتل. خنقًا».
فقال سترايك برباطة جأش: «حسنًا، لمَ لا ندخل؟» وأشار إليه باتجاه المكتب، فأجابه الرجل وهو يشدّ سحابه:
– يجب أن أبول.
– من هنا إذًا.
دلّه سترايك إلى باب الحمّام المتاخم للمكتب. عندما أغلق الرجل الباب بصفقة وراءہ، عاد سترايك إلى دنيز.
– ماذا جرى؟
– أراد أن يقابلك. قلت له إنّك خارج المكتب فثارت ثائرته وأخذ يكسّر كلّ شيء!
قال سترايك بهدوء:
– اتّصلي بالشرطة. أخبريهم أنّ لدينا رجلًا مريضًا جدًّا هنا. ربّما كان ذهانيًا. لكن انتظري حتى أدخله إلى مكتبي.
فُتح باب الحمّام على مصراعيه، وظهر الرجل الغريب مجدّدًا.كان مفتوحًا، وبدا أنّه لا يرتدي سروالًا داخليًّا. نشجت دنيز مرة أخرى فيما كان الرجل يلمس أنفه وصدره فأنفه فصدره بطريقة محمومة، غير مدرك للبقعة الكبيرة من شعر العانة الأدكن التي يعرضها على العيان.
قال سترايك بلطف:
– من هُنا…
مع دخوله عبر الباب الداخلي، تضاعفت الرائحة الكريهة المنبعثة منه بعدما كانت قد خفّت لفترة وجيزة.
دعاه سترايك للجلوس فجلس على طرف الكرسي المخصص للعملاء. وسأله سترايك بعد أن جلس إلى الجهة المقابلة من مكتبه:
– ما اسمك؟
أجاب الرجل فيما طارت يده من أنفه إلى صدره ثلاث مرّات في تتابع سريع:
– بيلي.
في المرّة الثالثة سقطت يده، فالتقطها باليد الأخرى وأمسك بها بقوّة.
سأله سترايك:
– إذًا رأيت طفلة تُخنق يا بيلي؟ بينما وصل إليهما صوت دنيز من الغرفة المجاورة:
– الشرطة، بسرعة!
سأل بيلي وعيناه الكبيرتان غائرتان في وجهه وهو ينظر بعصبية نحو المكتب الخارجي، فيما تضغطُ إحدى يديه على الأخرى في محاولة لقمع تشنّجاته اللاإرادية:
– ماذا قالت؟
فردّ عليه سترايك بسلاسة:
– لا شيء، لديّ قضايا متعدّدة ومختلفة. أخبرني عن تلك الطفلة.
أخذ سترايك دفترًا وورقة وتعمّد أن تكون حركاته بطيئة وحذرة، كما لو كان بيلي طائرًا برّيًا يحاول عدم إخافته.
– خنقَها فوق، قربَ الحصان.
أخذ صوت دنيز يرتفع أكثر فأكثر وهي تتكلم على الهاتف خلف الجدار الهشّ الذي يفصل بين المكتب وقاعة الانتظار.
سأل سترايك وهو مستمر في الكتابة:
– متى حدث هذا؟
– منذ سنين، كنت صغيرًا، وهي كانت فتاة صغيرة، لكنّهم في ما بعد قالوا إنّه كان صبيًّا صغيرًا. كان جيمي هناك، وهو يقول إنّني لم أر ذلك قطّ، لكنّني فعلت. رأيته يفعل ذلك، لقد خنقها، رأيته بأمّ عيني.
– وحصل هذا قرب الحصان، أليس كذلك؟
– تمامًا، بجوار الحصان، لكنّهم لم يدفنوها هناك، يدفنوه، بل أسفلَ الوادي قرب منزل والدنا. رأيتهم يفعلون ذلك، يمكنني أن أريك المكان. لم تسمح لي بالحفر، لكنّها قد تسمح لك.
– وجيمي هو الفاعل، أليس كذلك؟
صاح بيلي غضبًا:
– جيمي لم يخنق أحدًا قطّ! هو شاهد الأمر معي. قال إنّ ذلك لم يحدث لكنّه يكذب، لقد كان هناك. إنّه خائف، أتفهم؟
كذب سترايك فيما كان يستمرّ في تدوين الملاحظات:
– فهمت؛ سأحتاج إلى عنوانك إن كنت سأتولّى التحقيق.
توقع سترايك بعض الممانعة من طرف بيلي، لكنّ هذا الأخير أخذ بدون تردّد الدفتر والقلم اللذين قدّمهما له. فاحت الرائحة النتنة من جديد ووصلت إلى سترايك، وشرعَ بيلي في الكتابة، لكنّه غيّر رأيه فجأة.
– لن تذهب إلى منزل جيمي، أليس كذلك؟ سوف يبرّحني ضربًا إن فعلت. لا يمكنك أن تذهب إلى منزل جيمي.
أجابه سترايك بهدوء:
– لا، لا. أحتاج إلى عنوانك فقط من أجل ملفّي.
وصل إليهما صوت دنيز الصارخ: «أرسلوا أحدًا إلى هنا بسرعة أكبر، إنّه مضطرب جدًا!».
سأل بيلي:
– ماذا تقول؟
استاء سترايك عندما مزّق بيلي فجأة الورقة الأولى من الدفتر وسحقها بقبضته، ثمّ أخذ ينقر أنفه وصدره مجدّدًا باليد القابضة على الورقة.
فقال له سترايك:
– لا تقلق بشأن دنيز، إنّها تتكلّم مع عميل آخر. هل أحضر لك مشروبًا يا بيلي؟
– أيّ مشروب؟
– شاي؟ أم قهوة؟
فسأل بيلي:
– لماذا؟ وبدا أنّ العرض زاد من ارتيابه. لماذا تريدني أن أشرب شيئًا؟
– فقط إن كنت ترغب في ذلك. لا بأس إن كنت لا ترغب.
– لست بحاجة إلى دواء!
فقال سترايك:
– ليس لديّ أيّ دواء لأعطيك إيّاه.
– أنا لست مجنونًا! لقد خنق الطفلة ودفنوها في الوادي بجوار منزل والدنا. وكانت ملفوفة في بطّانية. بطّانية زهرية اللون، لم يكن الذنب ذنبي، كنت مجرّد طفل، لم أرغب في أن أكون هناك، كنت مجرّد طفل صغير.
– كم سنة مضت على ذلك، هل تعلم؟
قال بيلي وعيناه تسوحان في وجهه النحيف بينما كانت يده القابضة على قطعة الورق ترفرف إلى الأعلى والأسفل وتلامس أنفه ثمّ تلامس صدره:
– سنوات كثيرة، بل قرون…! دفنوها في بطّانية زهرية اللون أسفل الوادي بجوار منزل والدي. لكنّهم بعد ذلك قالوا إنّه كان صبيًّا.
– أين يقع منزل والدك يا بيلي؟
– لن تسمح لي بالعودة الآن. لكن أنت يمكنك أن تحفر. أنت يمكنك أن تذهب إلى هناك.
ثمّ قال وهو يرمق سترايك بعينين مذهولتين:
– لقد خنقوها. لكنّهم بعد ذلك قالوا إنّه كانَ صبيًّا. خُنقت، بالقرب من…
(صدرت الرواية عام 2022 عن دار “هاشيت أنطوان/نوفل” في بيروت)
روبرت غالبريث:
روبرت غالبريث هو الاسمُ المستعار للكاتبة البريطانيّة ج.ك رولينغ، الكاتبة الشهيرة مؤلفة هاري بوتر ورواية «منصب شاغر»، تستخدمه في نشر سلسلة المحقّق سترايك التي صدر منها حتى الآن عن نوفل «نداء الكوكو»، «مهنة الشر»، و«دودة الحرير». وتعتبر رولينغ من الكتّاب الأكثر مبيعًا حول العالم.