أندريه دو بوشيه إلى العربية بترجمة عبدو زغبور: في الحرارة الشاغرة
بقلم رولا حسن
عُرف أندريه بوشيه (باريس 1942-2001) منذ صدور كتابه هواء 1950، لكن يعد هذا الكتاب الصادر عن الهيئة السورية للكتاب كأول عمل يترجم إلى العربية، وبوشييه يعد الوريث المميز للاتجاهات الحرفية الفنية للشاعر الفرنسي بيير ريفردي الذي يعد من منظري الحداثة الأدبية والفنية والذي كان يعتقد أن من مقومات الحداثة إعطاء أهمية أقل للمواضيع المطروقة، قياسا إلى وسائل التعبير عنها فغاية الأدب من وجهة نظر ريفردي «أن يبدع الكاتب بإمكانياته الذاتية عملا جماليا يولد عاطفة خاصة ليس بوسع الطبيعة أن تثيرها في الإنسان». ويقصد هنا أن الشعر لا يقتصر بنظره على ترجمة الانفعالات التي يشعر بها الناس، بل يسعى إلى تحويلها إلى «انفعالات جديدة خلاقة، شعرية في جوهرها». ولا تكون أبعادها نفسية، بل جمالية.
فقيمة الشعر لا ترتفع إلا بمقدار بعده عن كل ما هو عادي ومألوف في العالم الخارجي والداخلي على السواء –الجمال النقي العقيم وهذا الجمال برأي ريفردي لا يظهر إلا إذا تخلص الشاعر من التعبير المباشر عن العواطف وبالتالي يملك القدرة على السيطرة المطلقة على الممالك الشعرية وحدها لتبدو والحال كذلك الكلمات عنده مستقلة بذاتها وهو يقيم بناء يناهض الزمن. ومن هنا نلاحظ عدم وجود طبيعة بالمعني الحرفي في شعر بوشيه وذلك لأن الطبيعة «الطبيعة التي تخرج من بين يدي الخالق غير الطبيعة التي تحيا في القصيدة»، ومن هنا فإن قيمة قصائده لا تقاس بالواقع، بل تنبع من ذاتها فقد كان «يحمل الأشياء والأحداث إلى غرفة ذهنه المظلمة حيث تتحول هناك وتعود لتتجاوز العالم».
إن القوة التي تحولها هي قوة الخيال القادرة على التشبيه والاستعارة.. «جبهة من قش تتقدم بالقرب مني في الحقل المعتم /تحت هذه الركبة البيضاء /بين أطرافي وصوتي /الأرض قبل الصباح». تخلق صورا غير واقعية ترتفع إلى مستوى الأساطير وتؤلف بين أكثر المجالات بعدا عن بعضها البعض، وهو يسلط بهذه الصور ضوءا مُشعّا باهرا على المضمون الموضوعي لشعره بحيث يصبح الشعر في النهاية عديم المعنى. ربما يكون الإلهام قد سبقها، إلا أنها تتحول على يديه إلى حقائق نقية صلبة لطول تجربته للخصائص اللغوية والصوتية الموجودة في اللغة. ٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِقد تكشف القصيدة عند بوشييه مضمونها بالرغم من ضبابيته ذلك لأن المسافة بين الذات وبين التكنيك أو الصنعة الفنية عالية ومن هنا يأتي تأثير القصيدة وطاقاتها الفنية التي يمكن القول أنها تكمن بأكملها في الصنعة التي وسمت الشعر الحديث.
في كتاب «في الحرارة الشاغرة» يمكننا أن نمسك أحد المفاتيح التي يمكن أن تفتح نصه الشعري أو تجعلنا نقترب منه، وهو الأكثر أصالة وترابطا في عصرنا بحسب الفريدو سيلبا إيسترادا الذي قدم له الكتاب:
بدأ الغياب الذي يقع في موقع النفس
بالسقوط من جديد كثلج فوق الأوراق
لاح الليل. أكتب أبعد ما يكون عن نفسي
إن مقولته «ابعد ما يكون عن نفسي» هذه الإشارة الدالة والعميقة تعبر ولا شك عن شهية الارتقاء بالمشروع الشعري: تأسيس ما هو حقيقي في الكلمات على امتداد البريق الذي يلازمه، في الوقت نفسه، فشل اللحظة ونجاحها.
إنه ببساطة يستثمر طاقة الشعور في لحظة معينة بطاقتها القصوى، ويحول الانفعال إلى شعور آخر غير مطروق يضج بعوالم الداخل وتناقضاتها. فالشاعر الذي اعتقد ببساطة في لحظة ما أنه يكتب أبعد من نفسه، في لحظة أخرى يتوقف عند ما هو أقرب إليه في علاقته مع الخارج هذه العلاقة التي يمكن اختزالها بـ: تنفسه نفسه «أقف على حافّة نَفَسي».
يكتب بوشيه ولا يذهب بعيدا عن صفحته. لكن فجأة الصفحة تتجاوزه: «صفحة في الضوء المدمر تستمر إلى أن تقترب».
وهذه الإشارة الدالة بحسب الفريدو سيلبا ايستريدا مقدم المجموعة تعبر عن الارتقاء بالمشروع الشعري: تأسيس ما هو حقيقي في الكلمات على البريق حيث يلازمه، وفي الوقت نفسه، فشل اللحظة ونجاحها.
لا أذهب بعيدا عن ورقتي مهما تمهل الشاعر في هذا المكان «الغياب الذي يقع في النفس» يعود للاحتفاء بالحضور في إشعاع اللحظة واستهلاكها علما أن الكلمة في النهاية، لا تستطيع أن تقوم لوحدها كقوة مطلقة.
ولأن «بياض الأشياء يأتي متأخرا» كما يقول بوشييه جاءت ترجمة «في الحرارة الشاغرة» بعد اثنان وعشرون عاما على وفاته، وتعتبر هذه الترجمة مع مقدمة لـ الفريدو سيلبا ايستريدا هي الأولى من نوعها إلى العربية والتي حاول المترجم والشاعر عبدو زغبور أن يكون أمينا في نقلها بلغة قريبة إلى المتلقي محافظا بمزاج الشاعر داخله على غرابتها ونفورها الأصليين.
جاء في الغلاف الخلفي للمجموعة الشعرية المترجمة «في الحرارة الشاغرة»:
تتناول هذه المجموعة الشعرية قصائد رفيعة المستوى تحاكي الحب والطبيعة. يمزج الشاعر تجربته الشعرية وتمظهراتها مع مقدمة تعرف به، وتشكل رافدا مهما للحركة الشعرية العربية المعاصرة. كما أنها تضيف رصيدا شعريا داعما للأدب العالمي. يعالج هذا الديوان موضوعات الحياة المختلفة التي تجسدت في قصائده كلها.
اخترنا قصيدة تنازل من المجموعة المترجمة «في الحرارة الشاغرة»:
الريح،
في أراض شح ماؤها في الصيف،
تهجرنا فوق صفيحة
ما زالت مستمرة في السماء.
في كسور شتّى، تُصبح الأرض جبلية.
تبقى الأرض مستقرة في التنفس
الذي يعرينا.
هنا، في هذا العالم الجامد الأزرق
كادت تلامس هذا الجدار.
عمق النهار ما زال أمامنا.
العمق محروس من الأرض
عمق وسطح الجبهة،
ممهد من التنفس نفسه،
هذا البرد.
أعيد توليف نفسي على قدم الواجهة
كالهواء الأزرق على قدم الحراثة.
لا شيء يُهدّأ ظمأ خطوتي.
***
أندريه دو بوشيه إلى العربية بترجمة عبدو زغبور: في الحرارة الشاغرة؛ بقلم رولا حسن
رولا حسن؛ شاعرة وصحفية سورية. حاصلة على إجازة في بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، واجازة في الترجمة الفورية. صدر لها: خمس مجموعات شعرية، كتاب عن الرواية النسوية السورية من البدايات حتى ٢٠١٢ «فراشات السرد»، وكتاب عن الموجة الجديدة في الشعر السوري.