جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

تشيخَوف والكآبة: قصة «في الطريق» | إبراهيم إستنبولي

ولد أحد أعظم الأساتذة في فن القصة القصيرة أنطون بافلوفيتش تشيخَوف في ٢٩ كانون الثاني من عام ١٨٦٠، ورحل وهو في عمر الأربعة والأربعين مصابا بالسل.

تعتبر قصة «في الطريق»؛ من أروع القصص التي كتبها، ويرى النقاد أن هذه القصة تعكس بصورة واضحة عن ذلك الإحساس بالوحدة الذي كان يعيشه تشيخوف. هنا تلخيص لموضوع قصة «في الطريق» ولفكرتها التي نحى النقّاد إلى قراءتها من منظور الكآبة التي عانى منها المؤلف:

***

… باتَتْ ليلتَها غيمةٌ ذهبية،

على صدرِ جلمودٍ عملاق؛

انطلقت في الدرب في الصباح الباكر،

وهي تلعبُ فَرِحةً في الفضاء اللازوردي. 

لكن أثرًا رطبًا بقيَ في تجعيدةِ

الجلمود العجوز.

وقفَ وحيدًا، وقد شَرَدَ في البعيد،

وهو يبكي في الصحراء بصمت.

ليرمَنْتَف ١٨٤١

إنها أبيات عن الوحدة. تُصادِف لحظات يلوح فيها أمل بالخلاص منها. لكنه أمل مخادع، لا يبقى بعده سوى أثر. «لكن أثرًا رطبًا بقي في تجعيدة الجلمود العجوز».

كان تشيخَوف يشعر بالوحدة طيلة حياته. لهذا لم يكن عبثًا أنْ يحمل في إصبعه خاتمًا حُفِرَ عليه: «الصحراء تحيط بالوحيد أينما كان». كان هذا الخاتم يعود لوالد تشيخَوف، بافل إيغوروفيتش، بيد أنَّ ابنه أنطون بافلوفيتش هو الذي كان يحمله… وعندما كتب قصة «في الطريق» عام ١٨٨٦ والتي تدور حول الحياة المضطربة لشخص ما، فقد اتخذ تشيخَوف كمدخل للقصة تلك الأبيات من قصيدة ليرمَنْتَف تلك:

باتت ليلتها غيمة ذهبية

على صدر جلمود – عملاق…

أما مضمون القصة فهو بسيط: في خان يرتاده المسافرون، يلتقي رجل وامرأة وقد فاجأتهما العاصفة الثلجية وهما في الطريق. ينشأ بينهما شيء ما، ليس إحساسًا تمامًا، بل شبح إحساس. يجري اللقاء في ليلة رأس السنة الميلادية، وهذا يؤكد بشكل خاص على عدم استقرار ووحدة شخصين مسافرين يلتقيان صدفة. يؤكد ذلك أيضا الطقس والزوبعة الثلجية التي هبَّت في محيط الخان: «كان الطقس يضجّ في الفناء. شيء ما مسعور، غاضب، لكنه تعس حتى النخاع، راح يدور حول الخان بعنفوان وحشي وهو يحاول اقتحامه والولوج إلى الداخل». يجري حوار، حيث يتحدث بطل القصة ليخاريوف عن حياته ويناقش، كما لو عَرَضًا، مواضيع مختلفة جدًّا.

عن الإيمان: «الإيمان هو تعبير عن مقدرة الروح. وهو يعادل الإبداع عمليًا. يجب أن يُولَد مع الإنسان. وتلك المقدرة يمتاز بها الروس بدرجة عالية. <… > لقد أَهْدَتِ الطبيعةُ الإنسانَ الروسيَّ مقدرةً غير عادية على الإيمان، لقد مَنَحتْهُ عقلاً وذكاءً للتفكر، لكن كل ذلك يتحطم شرَّ تحطّم على صخرة اللامبالاة والكسل والسذاجة الحالمة».

ثم يتكلم ليخاريوف عن العلوم وكيف أنَّ هدفها هو السعي إلى الحقيقة. وبشكل خاص عن النساء، اللواتي يُؤدين رسالة سامية، حسب رأيه، هي «العبودية النبيلة والراقية، وأيضاً الصبر والكرم الروحي والوفاء حتى القبر، إضافة لرهافة وشاعرية القلب. إنَّ مغزى الحياة بالنسبة للمرأة هو بالضبط في هذا العذاب بدون أي تذمّر وبإذعان، في الحبِّ غير المحدود الذي يَصْفَحُ عن كلّ شيء، والذي يَجْلِبُ النورَ والدفء إلى الحياة». ومن ثُمَّ يسأل رفيقة الدرب، مُتوجِّهًا إليها بشكل مباشر: «لاحظي، عندما تحبين شخصًا ما، فإنك سوف تذهبين وراءه إلى القطب الشمالي. ألنْ تذهبين؟». وهي تجيب: «نعم، في حال أنني… أحبَبْتُهُ».

هذا اللقاء – الصدفة في ليلةِ رأس السنة، مع كلمات البطل ليخاريوف وإخلاصه وحماسه – كل ذلك يفعل فعله في شريكته في الحديث إلى درجة أنَّ «… إيلوفاسكايا نهضت ببطء، تقدَّمَت خطوة نحو ليخاريوف وراحت تحدّق في وجهه <… > في حرارة عينيه، في كلامه، في حركات جسمه الضخم كله انعكس قدر كبير من الجمال، بحيث أنها، ودون أنْ تنتبه لذلك، راحت تقف أمامه كقطعة جامدة وهي تنظر في وجهه كالممسوسة».

ولكن ها هو الصباح يُقبل وها هي إيلوفايسكايا تستعد للمغادرة. «نظرت ايلوفايسكايا إلى الاستراحة لآخر مرة، وقفت صامتة ومن ثم خرجت ببطء. ذهب ليخاريوف ليودّعَها. <… > عندما انطلقت الزحافة وراحت تبتعد مُلتفَّةً حول كثيب ثلجي، نظرت إلى ليخاريوف مع تعبير يوحي كما لو أنها أرادتْ أنْ تقولَ له شيئاً ما. فَركضَ هو إليها، لكنها لم تقلْ أيّةَ كلمة، فقط رَنَتْ إليه من خلال رموش طويلة وقد عَلِقتْ بها حبيبات الثلج». و«فجأة راح يُفكِّر، أنه كان بحاجة لاثنتين – ثلاثة من «اللمسات” القوية الرائعة، وكانتْ هذه الفتاة <… > ستذهب خلفه دونَ أنْ تسأل، دونَ أنْ تناقش. وقفَ طويلا كالمسحور وهو ينظر إلى الأثر الذي تركته المزالق. بينما راحت قِطَعُ الثلج تتساقط بكثافة على شَعره ولحيته وكتفيه. اختفى الأثر الذي خلفته المزالق بسرعة؛ أما هو نفسه فقد صار، بعـدَ أنْ غطَّاهُ الثلـج، أشبه بالجلمود، في حين أن عينيه راحتا تواصل البحثَ عن شيء ما في الضباب الثلـجي».

 صار يشبه الجلمود…

قدّمَ سيرغي فاسيلييفيتش رحمانينوف لأنطون تشيخوف نسخةً من لحنه الفنتازيا بعنوان «الجلمود»، الذي كتبه للأوركسترا صيف عام ١٨٩٣ مع الإهداء التالي: «إلى انطون بافلوفيتش تشيخَوف الغالي والمحترم جدّا، مؤلف قصة “في الطريق”، والتي كان مضمونها مع المدخل هو الأساس لهذه المقطوعة الموسيقية».

د. إبراهيم إستنبولي؛ كاتب ومترجم من سوريا. صدر له أكثر من عشرين كتابًا ترجمةً في الشعر والرواية والفكر السياسي والاقتصادي.

خاص قناص – دراسات وقراءات

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى