الذاكرة بين المحو والحضور.. قارئة القطار لـ ابراهيم فرغلي
ابراهيم فرغلي يتخفف مما يحبه أو يفضله القارئ لأن النص يدير ظهره للقارئ وفق تعبيره، لمن يقرأ بترقب معين ويفاجئه الكاتب في أغلب الأحيان، إذ يسحبه إلى عالم القطار الذي يجري ليتابع بفضول حقيقة ما يحصل فيه ويكشف مراوغة الكاتب لأفق توقعه وهو الكاتب ذو التجارب الهامة في السرد فقد حفلت جعبته بأعمال كثيرة مثل رواية «كهف الفراشات» و«أبناء الجبلاوي»، و«معبد أنامل الحرير» والثلاثية الروائية ذات العنوان «جزيرة الورد» بالإضافة لثلاث مجموعات قصصية: باتجاه المآقي، أشباح الحواس، شامات الحسن، وأيضاً كتب للأطفال والناشئة: ثلاث روايات للفتيان، كما نال جائزة ساويرس الأدبية فئة كبار الكتاب لدورتين كما رشحت روايته «معبد أنامل الحرير» ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية دورة العام 2015 – 2016، وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
بين كتاب الأوهام وكتاب الأحلام يدخلنا ابراهيم فرغلي إلى عوالمه الافتراضية المتخيلة في روايته «قارئة القطار» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2021، والحائزة مؤخراً على جائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2023، مباغتاً القارئ بقدر كبير من الدهشة ومنذ الصفحات الأولى التي يلج السارد فيها القطار المتحرك ويدخل فيه إلى عالم السفر الأبدي والمستمر باللحظة السرمدية وبلا توقف، في ثبات الوضع رغم الجريان المستمر لقطار يمضي إلى اللامكان، الجمود في حالة الحركة عبر فانتازيا تنقله إلى وسط مجهول في رحلة عابرة للزمن يتنقل فيها عبر سردية درب كافكاوية، الطريق هو الحلبة؛ وهو مسرح الحدث والقول؛ الطريق الذي لا يصل، وبين الحلم والوهم يتقدم الواقع ملفعاً بالضباب ليضيء بعضاً من الذاكرة «إن ضعاف العقول لا يتحملون ثقل المعرفة رغم أنه لا يقارن بعبء حمل الذاكرة».
لنتعرف إلى الحياة الواقعية والعالم الآخر الذي يأتي من عالم ما بعد الحياة في واقع متخيل غير قابل للتصديق عبر عدسات متعددة ترصد كل منها جانباً للتاريخ وجانباً للعالم النفسي للسارد وآخر للعالم المتخيل الذي يتشكك القارئ بكل ما فيه، فلا يقين لشيء، هل ما يحدث حقيقي أم عبارة عن تهويمات لذات قلقة في تبادل أدوار بين سارد للحكاية وبين متلقي أو مسرود له ضمن الحكاية في لعبة مخاتلة لوعي القارئ ومستفزة لأحاسيسه وحيرته بذات الوقت.
فهذا الحضور بالقطار أرخى ظلاً آخر لحياة تنوس بين الواقع والمتخيل عبر عوالم غرائبية، فالدخول في كابينة القطار كما الدخول لدفتي الكتاب، يوازيها الكتب التي تتناوب مرة في يد البطل ومرة في يدي قارئة القطار التي تقرأ بشكل مستمر حتى يستمر القطار بالجريان، في إيماءة لفعل القراءة كفعل حياة، إذ نعرف أننا دخلنا نفق الفانتازيا بغرائبية تلف المتلقي والسارد معاً وهذا الأخير يحاول أن يكشف سر كل ذلك الغموض والقارئ يتابعه عربة عربة.
الوجود في القطار هو حضور للحياة التي تجري بلا ماض أو مستقبل، هو ثبات في زمن يجري، وحكاية محمود هي الشكل الواقعي لحياة حدثت في زمن عرابي والخديوي والإنكليز جسدها في صدمة ابن القرية الهارب من قبره ومن مجتمع الأخذ بالثأر ليصطدم بعالم المدينة ويرصد تشكل الحرف في بداياتها.
يضعنا الكاتب بحالة التهيب والخوف من المجهول ملتقطاً انتباه القارئ وتشويقه لأقصى حد عند رؤية المقاعد الفارغة والعربات الخالية من البشر، وكأنها بدء الخليقة عندما كان الفرد واحداً، في مشاهد تبدو وكأنه مقتطعة من فيلم رعب، فالسارد يدنو ليحتسي فنجان قهوته ولكنه يرى صورة عجوز تطفو على سطح الفنجان، يحار من أين جاءت صورة لا يعرفها ولا يتذكرها، وبين الفانتازيا والواقع نتعرف على ذاكرته التي ترويها «زرقاء» أي قارئة القطار؛ حيث تأثره بجدته عظيم الأثر في نفسه وحكاياتها ونذورها وأساطيرها تحفر عميقاً في وجدانه، وهي التي نذرته للموت في قبر هرباً من مرض عضال، ليغادر قبره إلى الحياة في المدينة، ليدرك في النهاية أن هذا الفعل هو الذي أنقذه من وباء الطاعون الذي حصد أرواح أهله وأناس قريته جميعاً ليأتي كلام القارئة مفسراً لقولها «نحن نموت هناك لنعيش هنا».
ظلال الواقع تُرصد من خلال الذاكرة التي ترويها قارئة القطار عندما أخبرته عن ظلم الأتراك وبهذا التعبير حصرنا زمن الرواية الذي تشير إليه، فحدث الذاكرة يمتد بين نهاية الوجود التركي في المنطقة وبداية الوجود الأجنبي من إنكليز وفرنسيين ليرصد فيه المتغيرات الحاصلة بالبلاد وحركة المجتمع في تطوره وانتقاله من المجتمع الزراعي بالريف إلى مجتمع الحرف بالمدينة، فمن خلال ما عرفه بعدما ألم بالقليل من القراءة والكتابة ذلك الإعلان الذي يشيد بسجائر جاناكليس لأنها ملفوفة بأيدٍ مصرية، ليتكون بذور الوعي الوطني ويقترب بالتالي من أنصار ثورة عرابي نتيجة إحساسه بالدونية التي يشعر بها ابن البلد نتيجة تقلد الأجانب المراكز والمرتبات الهامة وتصدرهم لكل شيء نتيجة تخاذل الخديوي معهم.
تيمة الثأر تحتل حيزاً هاماً من العمل فالفتى ابن السادسة عشر فارٌّ من مجتمع قائم على الثأر، فإما أن تقتل أو تُقتل وهو يرفض كلا الحالين ولا يرغب بهما، هو لا يريد الموت وبذات الوقت لا يحب أن يقتل أحداً ويجني على حياته، وشق آخر لتيمة الثأر وهي الفتاة التي تعاب باغتصاب أو خطيئة جسد ترتكب سواء برضاها أو غصباً عنها فهي يجب أن تقتل من قبل أهلها وفقا للعرف السائد في القرية، فالفتاة فاطمة التي ساعدها وعشقها يصدم بواقعة اغتصابها ولأنه يعتبر نفسه من أهلها فالأمر يستوجب منه الثأر لشرف مهيض، ولكن كيف يقتلها وهي حبيبته التي يتخيلها كسكن لذاته القلقة التي ترتاح بفتوى شيخ الأزهر بتحريم قتل النفس التي حرم الله قتلها بقوله تعالى: (فمن قتل نفساً بغير نفس أو فساد بالأرض فكأنما قتل الناس جميعاً)، لتكبر المكابدة داخل نفسه وليتصاعد الحدث الدرامي إذ يقتنع أن يتزوجها ويستر على شرفها المضاع ولكن فكراً جديداً تطور في وعي الشابة في مجتمع المدينة باقترابها من فئات متعلمة فاجأته برفضها الزواج منه رغم عشقها له، وانتهت بمساعدة إحدى المتنورات بتحميل المغتصب نتيجة عمله وبحثها عن كيان ووجود لها بالتعلم والعمل.
البطل مسافر يبحث عن عمل وذلك مبرر لاعتلائه القطار ناسيًا هاتفه الجوال في المقهى، وكأنها إطلالة من الحاضر إلى الماضي، الماضي البعيد من فترة زمنية إلى أخرى، ونافذة من الحياة على العالم الآخر، هذا التداخل بالعوالم بين الآن والماضي وبين الحياة والموت، تلك اللايقينية والتشكيك بكل شيء يحصل، وهل كان أم لم يكن، وهل وجوده في زمن ما حقيقي أم لا أم الأمر مجرد حياة مفترضة، كلها إشارات لملامح عوالم ما بعد الحداثة التي سحب القارئ إليها ليستقر في وعيه ساحة مفتوحة للأسئلة بالتاريخ والحاضر والمستقبل كإمكانيات تتسع لتأويلات متعددة بتوقع ما وراء الشخصيات، رغم أن زرقاء أفادت بجزء كبير من ماضي شخصية السارد وربما الاسم الملتبس للزرقاء وكونها عمياء في ازدواجية المعنى ونقيضه في دلالة الاسم لزرقاء اليمامة في البصر النافذ، رغم أن البطلة القارئة عليلة الجسم لكنها ذاكرة حية وبصيرة وقادة والقراءة عندها حياة لدوام حركة القطار، وما المتغيرات التي تحصل حوله من التحولات الطارئة على الوجوه التي يراها كلما نظر إلى شخص اختلف في النظرة الثانية إلى جمجمة العجوز المرتسمة على سطح فنجان القهوة كلها عبارة عن رموز لا يجد تفسير لها إلا فيما بعد عندما يتوضح جزءاً من تاريخ حياته الواقعية.
القطار كفكرة ومعنى مطروق بالأدب بشكل كبير فقد شيد ميشال بوتور أحد رواد موجة الرواية الجديدة معماره الروائي في روايته «التحول» كلها على متن قطار وأحداثه سيطرت على مسار العمل بأكمله وكذلك قطار الشرق السريع عند أجاثا كريستي والقصة القصيرة «في القطار» لـ محمد تيمور والقائمة تطول، وأيضاً في مسرحية «المحطة» لفيروز تباع بطاقات وتشترى أراض لقطار لم يأتي ومحطة لم تنشأ.
في لعبة المرايا في التلقي والسرد تروى للسارد حياته التي فقد ذاكرته فيها في واقع آخر انتهى جميع أبطاله من الحياة الحقيقية، والذاكرة المنسية والمتخيلة هو ما يحصل في عالم ثان، فالقطار الذي يمشي بطاقة القراءة كمنصة لأحداث متخيلة في تصور لعالم فانتازي انطلق منه الكاتب ليشيد عالمه السردي مراوغاً إدراكنا؛ أهي حياة تجري؟؟ أم ظلال لحياة سبق أن جرت في واقع عالم آخر، وهذا الإيغال في غرائبية الطقس والشخوص ساهمت في إثراء عالم الرواية ومنحت القارئ توهاناً ممتعاً وفريداً وحرضت لديه مزيداً من التفكر والسؤال.
***
الذاكرة بين المحو والحضور.. قارئة القطار لـ ابراهيم فرغلي؛ بقلم دعد ديب
دعد ديب كاتبة وناقدة من سوريا حائزة على إجازة في الاقتصاد والتجارة من جامعة دمشق. صدر لها: رواية «وتترنح الأرض» 2019، كتاب نقدي بعنوان «مقاربات نقدية في الأدب والرواية» 2021.