سينما مسرح الدراماعين قناص

كورت فونيجت: حراً من قيد الزمن | أحمد لطفي أمان

كنت أسأل نـفسي ماذا يحدث حين يتوقف كاتب عن الكتابة؟

محبو الكاتب الأمريكي كورت فونيجت كانوا على موعد مع الخبر السعيد بأن المخرج روبرت ب. وايدي – نعم، هو ذاك الاسم نفسه الذي يُستخدم الآن في مقاطع الفيديو الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي – عازمٌ أخيراً على إخراج الفيلم التسجيلي عن مؤلف “المسلخ رقم 5” إلى النور. كان وايدي، الذي يُعتبر هو ذاته من هؤلاء المحبين، قد حاول التواصل مع فونيجت في أوائل الثمانينيات، حاملاً إليه فكرة الفيلم، ليُفاجأ بردٍ متحمس، وهنا كانت البداية.

لكن الفيلم ليس عن فونيجت فعلاً، وإن كان فإنه لم يتجاوز أبسط الأشكال تقليديةً، بعرضه للجوانب المألوفة من حياة الكاتب الكبير (نشأته في إنديانابوليس؛ الصدمات التي تعرضت لها الأسرة بدايةً من مرض الأم الـنفسي والكساد الكبير ومن ثم مرض الأخت الكبرى التي كانت عزيزة على الصغير كورت حينئذ؛ تعاطيه مع الشهرة بعد ذلك، ومع الاعتقاد الديني؛ لجوءه للرسم في فترات) وتحاشيه المناطق الأكثر عتمة (أو لنقل تحاشيه عن الجانب المسمى كيلجور تراوت)، إنما هو بالأحرى فيلم عن العلاقة بين المخرج، وايدي، وكاتبه المفضل – التي يعتبرها صورةً صريحةً من صور “الكاراس”، حسب العقيدة البوكونونية من رواية “مهد القطة” – وقراءة لحياة المخرج من بين مجمل السطور التي خطّها فونيجت.

عبر وفرة من المواد والمصادر، يعمل الفيلم بآلية خطية تقريباً. فبعد افتتاحية تلقي بالنقاط الأساسية على الطاولة، النقاط التي ستربط بين الأجزاء وبعضها – “المسلخ رقم 5” وبطلها الذي تحرر من قيد الزمن؛ دريسدن؛ وروبرت وايدي – يأخذنا هذا الأخير إلى مدرسته الثانوية، حيث تعرف للمرة الأولى على “إفطار الأبطال”، ونصّب فونيجت كاتبه المفضل. وبعد الظفر بموافقة الكاتب الكبير على صنع الفيلم، تبدأ الصداقة. خلال محاضرات وسفريات إلى إنديانابوليس، وبإرشاد من حكي أكاديميين ونقاد وكتّاب سيرة معنيين بفونيجت، نشهد نشأته، أصغر إخوته؛ ثم مشاركته في الحرب العالمية الثانية؛ زواجه من جين، التي كان لها الفضل في ترسيخ إيمانه بنفسه كاتباً، محرضةً إياه على ترك الوظائف في سبيل الكتابة ومرسلةً لمحرري الجرائد والمجلات بنفسها تطرح اسمه وأسهمه لمن يمكن أن يقدرها؛ بدء كتابة الروايات بانتظام؛ مروراً بدرة العقد وما تلاها من أعمال لم تقل نجاحاً؛ الشهرة؛ الانفصال عن جين والزواج من عشيقته؛ ثم الصدام مع النقاد، قبل منحنى الانطفاء. وخلال ذلك كله، يتدخل وايدي ليقدم إضافاته للسردية، إما للحديث عن فونيجت أو للحديث عن نفسه وتفاصيل ما كان يجري في حياته بينما تسير في خط بعيد عن فونيجت تقريباً وليس متقاطعاً معه، ما يجعلها مداخلات تبدو مقحمة أو مشوشة.

الفيلم يصور حياة فونيجت على اعتبار أنها تجسيد لما حدث لبيلي بلغريم نفسه، بطل “المسلخ رقم 5”: ينساب في دوائر الزمن بدون قيود، يرى كل ما سيحدث في هجمات دريسدن، قبل أن تحدث، فيما يخبئ وجهه ذات يوم في جذع شجرة. ويموت في النهاية بإصابة في الرأس، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، وهو الذي سخر من هذه الميتة بالذات قبل ذلك، عارضاً ضحكته الطفولية الصافية.

وعلى الرغم من تلك الرعونة والتشتت، الذين لم يساعدا العمل لا في تصويره لفونيجت وحده ولا في تصوير العلاقة التي جمعته بالمخرج، فإن الدفء والهشاشة لا يمكن إلا الشعور بهما متسللين بين طيات القصة، وبشكل خاص في تلك المشاهد التي يعود فيها فونيجت لمنزل العائلة الأول أو في النهاية حين يلتقط له وايدي آخر صورة من نتاج صداقتهما، وطبعاً المشاهد التي تعرض عن قرب ضحكته التي لا يُشبع منها، فينطبع في المُشاهد شيءٌ أشبه بشعور التعويض. هذا ما يجعلك وأنت تستمع لأحد أفراد أسرة فونجيت، تشعر أنك جالس معه في البيت فعلا، وهذا أيضا ما يجعل الفيلم خجولا من الاقتراب حقا من فونجيت ويحاول الارتضاء بتركه في عزلته حين يعتزل، مصبغاً عليه طابعاً أسريّاً قدسياً باعتباره رب هذه الحكاية وعميدها، أو كما اعتاد المخرج أن يناديه: “الرجل الكبير”. فوفرة المصادر، التي تنبع من الصداقة ذاتها، تبدو أنها انتهت عائدة إلى نفس المربع، جاعلة الفيلم يطفو فوق بحيرة الود والأسرية، وجاعلة المشاركين في العمل التسجيلي – بنتي فونيجت الاثنتين مثلاً – وهما تكبران خلال التصوير ويبيض شعرهما وكأن الفيلم ما فعل هذا، كأنه مكياج للسيدتين رغم أنك تعرف تماماً أن هذا كله طبيعي.

مشكلة الفيلم تكمن في إيمانه الذاتي بأنه مؤطِّر ومغلِّف وحاسم، ولم يكن ينبغي أن ينطوي على هذا.  كان يمكنه أن ينتهي قبلها بنصف ساعة تقريبا حين قال أحد المتحدثين، وايدي نفسه: “كنت أسأل نـفسي ماذا يحدث حين يتوقف كاتب عن الكتابة؟”. العبارة التي تجعلك تتساءل ماذا يحدث حين تتوقف الصداقة عن الجريان، سواء كان أحد أطرافها كاتب كبير أو فنان من أي نوع، أو شخص عادي؟

ربما لو التزم بالطابع العائلي على طول الخط لكان في صالحه، ولتمكن وايدي من الانسلال بسهولة في ثنايا القصة، بغير أن تبدو مداخلاته مفاجئة ومخلة بإيقاع الفيلم. كان الاختيار أن تضم فترة الساعتين مقاطع لفونيجت من مقابلات تلفزيونية أو وهو يحاضر، شاردةً عن أيما سردية واضحة، فبدت مداخلات وايدي منطوية في ذاتها على هاجس أنها مقحمة، وبالتبعية خجلة أو معتذرة. (النجاحات التي حققها مع مسلسله الشهير Curb your Enthusiasm؛ زواجه؛ وأخيراً مرض زوجته) ويبدو معتذرا بحق مع حلول النهاية، لأنه لم يعمل على إنجاز ذلك الفيلم طوال هذه السنين. عوضا عن ذلك كان يمكن ببساطة تقبل حالة الفوضى أو الهشاشة التي عنونت العمل كله، باعتبارها صفة الحياة ذاتها، وبما أن الفيلم يحمل نفس العنوان فربما لا عيب.

بل إنه لربما كان أمراً جديراً بالإعجاب أن تجد إنساناً حريصاً على حكي قصةِ صديقٍ له هكذا، متمسكاً بها شاعراً أنها شيء مرتبط ببقائه هو نفسه وحكايته نفسها. عندما وصل الحديث عند “المسلخ رقم 5″، وذكر وايدي، في واحدة من مداخلاته الأخرى غير الشخصية، الكم الكبير من المسودات التي كتبها فونيجت في سعيه المضني لنيل الطريقة الصحيحة لرواية العمل الذي عُدَّ المركزي في مسيرته، قال وايدي: “كأنه لم يكن يحاول فقط الوصول للنغمة الصحيحة للكتاب، وإنما يحاول أن يطهر روحه من تجربة دريسدن بأكملها وللأبد”.

خاص قناص

أحمد لطفي أمان؛ كاتب ومترجم مصري. تخرج من ورشة قصص القاهرة القصيرة التي نظمها معهد جوته في ٢٠١٥ شارك على إثرها في معرض فرانكفورت للكتاب، وبعد ذلك في الورشة اللاحقة في ٢٠١٩. نشر قصصاً قصيرة وترجمات في دوريات وصحف متنوعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى