مرآة الضوءمسرحُ أفلام

المخرج البريطاني كين لوتش.. صوت العمال المضطهدين والفقراء المهمشين

يصنع أعمالا درامية واعية اجتماعيا وسياسيا منذ ستينيات القرن العشرين: نريد الخبز، لكننا نريد الورود أيضا

كين لوتش

بقلم علي المسعود

‏ لا يوجد صانع أفلام قد خصص وقتا أطول لنضالات الطبقة العاملة مثل كين لوتش. المخرج البريطاني البالغ من العمر 88 عاما كان يصنع أعمالا درامية واعية اجتماعيا منذ ستينيات القرن العشرين عندما تم بث دراما «كاثي عودي إلى المنزل» كجزء من مختارات بي بي سي. ركز المخرج لوتش على ضحايا الإهمال الحكومي والتهميش بنظرة حميمة منذ ذلك الحين. حصل في عام 2006 على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان الدولي عن فيلم «الريح التي تهز الشعير»، وحصل على السعفة الذهبية مرة ثانية عن فيلم «أنا، دانيال بليك» عام 2016. ختم كين لوتش مسيرته الإخراجية في فيلمه الأخير «البلوط القديم» الذي عرض في مهرجان كان السينمائي العام الماضي، وكان يَدْعُوَ فيه الى التضامن مع اللاجئين السوريين وعمال المناجم المهمشين.

شهد المخرج كين لوتش طوال حياته المهنية التي استمرت 60 عاما تغييرات مجتمعية شاملة في بريطانيا، من إصلاحات ستينيات القرن العشرين وإضراب عمال المناجم عام 1984 وضعف النقابات العمالية في ثمانينيات القرن العشرين وصولا إلى الفترة الأخيرة من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والوباء. ‏وفي الختام يقف بصف اللاجئين السوريين الهاربين من لهيب الحرب ومساندة الطبقة العاملة في فيلمه الأخير «البلوط القديم». في خضم هذه المهنة الغزيرة، أنتج لوتش أيضا دفقا ثابتا من الأفلام الوثائقية التي تعكس مثله الاشتراكية. قبل عشر سنوات وضع التاريخ الحديث بأكمله للمملكة المتحدة في بؤرة التركيز مع «روح 45»، وهو فيلم وثائقي بالأبيض والأسود حول تطور حزب العمال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يُظهر الفيلم كيف حفزت الطاقة الجماعية بعد الحرب روحا تعاونية في المجتمع البريطاني يجسدها حزب العمال ولماذا انهار في النهاية. ربما ورث هذا الهم العمالي من أبية الذي تحدث عنه في مقابلة قائلا: «كان والدي فخورا جدا بأنه عمل طوال ثلاثينيات القرن العشرين ككهربائي في مصنع. كان فخورا بحقيقة أنه لم يتم تسريحه كما كان مصير الكثير من العمال. كان يعمل هناك خلال الحرب لأنهم كانوا يصنعون الذخائر. كان محظوظا لأنه لم يكن مضطرا للقتال. بعد الحرب كانت هناك روح مختلفة تماما، على الرغم من أن العديد من العائلات فقدت أحباءها». عاش وقتاً عصيباّ كمخرج في عهد رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي بعد أن حظرت معظم أعماله من أفلامه الروائية والوثائقية التي عملها لصالح قنوات بي.بي.سي.

‏ البحث عن القصص وطرح القضايا الانسانية في أفلامه

‏تستكشف أفلام لوتش الأكثر نجاحا جوانب الحياة البشرية حيث يتقاطع الشخصي مع السياسي. ومثل الروائي جورج أورويل، يشير لوتش إلى أن الافتقار إلى الفرص الاقتصادية لا يسبب ضائقة مالية فحسب، بل وأيضا آثارا نفسية، بما في ذلك الاكتئاب والتبذير. إذا لم تتمكن من وضع الطعام على الطاولة أو سقف فوق رأسك، فإن الوقوع في الحب أو الاستمتاع بالمتعة الترفيهية سرعان ما يبدو بعيد المنال. تكافح شخصيات لوتش لتحقيق احتياجات الحياة الأساسية، لكنها تتوق أيضا إلى الملذات البسيطة، مثل لعب كرة القدم أو مقابلة الأصدقاء في الحانة. كما يشرح منظم النقابة سام «أدريان برودي» لمجموعة من عمال النظافة المضربين في ‏‏فيلم الخبز والورود‏‏: «نريد الخبز، لكننا نريد الورود أيضا».‏ يُحسب لـِ لوتش أنه لا ينتقد فقط الأهداف الرأسمالية الواضحة (السياسيون المحافظون وأرباب العمل الاستغلاليون، وأسماك القرش المقترضة ورجال العصابات)، ولكن أيضا أعضاء شبكة الأمان الليبرالية المريضة الذين إما لا يستطيعون النجاح في الظروف الحالية أو الذين يختارون بيع دوائرهم الانتخابية من أجل المكاسب. منذ أول فيلم طويل لهما معا «أغنية كارلا، 1996» الذي يدور حول سائق حافلة غلاسويجي يقع في حب امرأة نيكاراغوية، عمل لوتش بانتظام مع الكاتب بول لافرتي. وختم هذا التعاون في فيلمه الأخير «البلوط القديم». يعزو طول عمر حياته المهنية إلى شراكتهم حين يقول: «لقد كنت محظوظا للغاية للعمل مع بول لأنني لم أكن لأتمكن من الاستمرار بخلاف ذلك».‏ ‏مكنته مقاومة إغراءات هوليوود من مواصلة أساليبه غير التقليدية في صناعة الأفلام والتي غالبا ما تشمل اختيار ممثلين غير محترفين. بدأ لوتش كممثل خلال السنوات الأولى من حياته المهنية، وذهب في النهاية ليصبح مديرا لتلفزيون بي بي سي حيث ابتكر العديد من الأعمال الوثائقية التي لا تنسى حول الهياكل الاجتماعية للسلطة والصراع الطبقي وأخرج بعض روائعه، منها:


‏فيلم البقرة الفقيرة،
‏ 1967

‏مقتبس من رواية نيل دن، هذه الدراما كانت أول فيلم روائي طويل للمخرج كين لوتش بعد عدة مشاريع  تلفزيونية. تدور أحداثه حول الحياة المأساوية لامرأة يسيء زوجها إليها جسديا ونفسيا.‏ وبعد أن إنتهى به المطاف في السجن‏، تكافح من أجل أن تعيش الحياة بمفردها بينما تعتني بابنها. تحلم للحظات بحياة مختلفة فقط لتجد نفسها في مواجهة واقع قاس.

فيلم كيس، 1969

يعد فيلم (كيس) أحد أفضل الجواهر في تاريخ السينما، يتابع مغامرات صبي صغير ليس لديه ملجأ في منزله المضطرب أو في مدرسته. الفيلم نقد وهجاء لنظام التعليم البريطاني الذي فرز الأطفال إلى أنواع مختلفة من المدارس اعتمادا على قدرتهم المالية.  اقترح لوتش أن هذا النظام يضر بنمو الأطفال وتطورهم في جميع أنحاء البلاد.

‏فيلم إسمي جو، 1998

‏إسمي جو‏ هو قصة إنسانية رائعة. الأبطال في هذا الشريط السينمائي هم من الطبقة العاملة، ويعتمد الفيلم على قصة عاطفية بين جو العاطل عن العمل وسارة العاملة بالمركز الصحي، حيث جو الذي كان يسير نحو التخلص من الإدمان والتعافي يجد نفسه في صراع مع تجار المخدرات وخصوصا عندما يتورط أحد العمال (ليام) في التعامل مع تلك العصابات مما يجبر جو على العودة إلى نفس الأجواء السابقة. نال الفيلم نجاحا جماهيريا غير متوقع.

‏فيلم الريح التي تهز الشعير، 2006

‏مع التركيز على حرب الاستقلال الأيرلندية والحرب الأهلية، ‏‏الريح التي تهز الشعير‏ هي دراما حرب مؤثرة تحكي قصة شقيقين قررا وضع حياتهما على المحك من أجل الانضمام إلى الكفاح من أجل الاستقلال.‏ إكتسب الفيلم عنوانه من أغنية روبرت دواير جويس «الريح التي تهز الشعير»، وهي أغنية تم إعدادها خلال تمرد عام 1798 في أيرلندا وظهرت في بداية الفيلم. حقق الفيلم نجاحا نقديا وتجاريا، وقد أثبت أنه قطعة سينمائية تاريخية جذابة للغاية تمكنت من كسب جمهور عالمي. حتى أنه انتهى به الأمر بالفوز بالسعفة الذهبية المرموقة في مهرجان كان السينمائي.

فيلم أنا دانيال بليك، 2016

ربما كان أحد أكثر أعماله شهرة في السنوات الأخيرة، فيلم مؤثر يتبع تجارب ومحن رجل في منتصف العمر يتعرض للمضايقة من قبل النظام الاجتماعي وإجباره على العمل،‏ على الرغم من أن طبيبه يذكر أنه غير قادر على العمل بعد الآن، إلا أن دانيال يدخل معركة سيزيفية بينما يكافح من أجل الحصول على بدل التوظيف والدعم الذي هو حقه الأساسي. تمكن لوتش من بناء نقد شديد اللهجة للبيروقراطية الوحشية التي تستعبد البشر. فاز الفيلم بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي.

‏فيلم آسف افتقدناك، 2019

‏جهد آخر رائع وتحفة سينمائية من قبل لوتش، يدور حول عائلة تكافح منذ الأزمة الاقتصادية لعام 2008 التي أضعفت العالم بأسره. يتعامل ريكي مع دين دائم، ويحاول شق طريقه للخروج من الأزمة من خلال عمله كسائق توصيل لحسابه الخاص.‏ على الرغم من وجود الأمل في الأفق البعيد، إلا أن الأمور معقدة بسبب المشاكل المستمرة والعلاقات الشخصية المتوترة. الوضع الاقتصادي لحكومته وسوق العمل الحرة التي لا ترتبط بعقد يحترم آدمية العامل ويؤمن له حقه، في هذا الفيلم يوجه لوتش لطمة كبرى للحكومات والأنظمة الرأسمالية بعد استفحال العقود قصيرة الأجل. يتمحور «آسف لقد افتقدناك» أيضًا حول تدمير الحياة الأسرية. يعيد كين لوتش والكاتب بول لافرتي صياغة أزمات العمل وتأريخ معاناة الطبقة العاملة ومآسيها في العالم الحالي وليس بريطانيا فقط. يتسائلان طوال أفلامهما عن مساحات الحقوق داخل مجتمعات العمل المحلية الحكومية والخاصة.

فيلم البلوط القديم، 2023

تناول لوتش وجود اللاجئين السوريين في بريطانيا في فيلمه الأخير، وناقش عنصرية الإنكليز في الفيلم الذي عرض بمهرجان كان السينمائي السادس والسبعين. يمثل العنوان الحانة الوحيدة في القرية الواقعة في مقاطعة دورهام شمالي شرق إنجلترا. يُظهر المخرج المخضرم اللاجئين السوريين المنكوبين بالحزن والحرب والبريطانيين الفقراء من الطبقة العاملة المحرومين من أبسط مستلزمات الرفاهية. أحدهما تم التخلي عنه، والآخر عانى من صدمة الحرب وتعرض الكثيرون للتعذيب ودمرت المنازل. هل يمكن لهذين المجتمعين أن يجدا طريقة للعيش جنبا إلى جنب، أم أن العنصرية والكراهية تحول دون ذالك؟ يتجسد التضامن مع معاناة السكان المحليين الذين يعانون من الفقر من خلال المشاركة في تناول وجبات الطعام السوري مع السكان المحليين.

في الختام: تمتد أعمال  لوتش على مدار 40 عاما وما يقرب من 60 فيلما (تضم 17 فيلما مسرحيا والعديد من الأعمال الدرامية والوثائقية للتلفزيون)، تظل أفضل أفلامه سياسية بشكل صريح دون أن تصبح تعليمية وجادة قاتلة على الرغم من أنها مخمرة بالفكاهة، وعاطفية بقوة حتى عندما تغذيها أكثر الأفكار فكرية. تلتقي مع الواقعية الإيطالية التي يستشهد بها كتأثيرات رئيسية، يستخرج لوتش رؤى عميقة من التفاصيل الدنيوية للحياة العادية، مما يخلق صورة متعددة التكافؤ للطبقة العاملة نادرا ما ترى في فيلم آخر. يحاول كين لوتش في جميع أفلامه كلها الانتصار للذين يعيشون على هامش المجتمع وعرض صورة المظلومين اجتماعيا والمنسيين في المجتمع البريطاني ومعتبرا السينما أمرا مهما وجميلا، لكنها شيء ينتمي لعالم الخيال، أما العالم الذي نعيش فيه فيخوض مرحلة خطرة وصعبة من النيوليبرالية وهذا امر كارثي. يقول المخرج المخضرم البريطاني: «السينما لديها تقاليد ومن بعض تقاليدها الاهتمام بالشعوب واختبار الإنسانية». ولا ُينسى موقف لوتش المساند للقضية الفلسطينية، وأستذكر دعوته لمقاطعة إسرائيل وذلك في افتتاح الدورة الثانية من مهرجان السينما الفلسطينية في باريس. التي حضرها مباشرة بعد عودته من مهرجان كان، واصفا غياب فعالية الهيئات الدولية التي «لا تمارس أية سلطة ولا تبحث عن اعادة الحقوق للشعب الفلسطيني، نحن كمدنيين، نفعل ما بوسعنا لأجل ذلك، وأقصد مقاطعة إسرائيل».

*****

علي المسعود؛ كاتب عراقي نشرت مقالاته في العديد من المجلات، منها: اليمامة السعودية، كراسات سينمائية، مجلة الرافد الإماراتية، صحيفة العرب اللندنية، القدس العربي، رأي اليوم، وفي المواقع الالكترونية: الحوار المتمدن، موقع الناس، وغيرها.

خاص قنّاص – مسرحُ أفلام

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى