هذا الحوار؛ يحاول اكتشاف بعض أسرار عالم هدى حمد الروائي؛ خاصّة روايتها الأخيرة « لا يُذكَرون في مَجاز » الصادرة عن دار الآداب اللبنانية في ٢٠٢٢، وعن رواياتها التي تقوم على المواجهة والمفاجآت إن مع الذات أو مع الآخر.
***
– روايتك الأخيرة « لا يُذكَرون في مَجاز » تخلط الخيالي بالواقع- سحرية جديدة؛ كل من يقرأ كتاباً محكومٌ عليه بالتغييب والنفي والنسيان إلى مجاز القرية المسوَّرة بثلاثة جبال. كأنّك تشتغلين على التحريض على فعل القراءة (إقرأ) الذي في النص السماوي أو حتى الوضعي. كمن يصيغ نظرية للتمرد الإنساني؟
عندما أكتبُ النصّ، أدخلُ في أدق خلجاته، فلا يسعني أن أفكر آنذاك بما قد يعتمل أسفل طياته من حرائق وتأويلات، فما تُطلقُ عليه «نظرية التمرد الإنساني» تُصاغُ على مهل وتنطلقُ عادة من فهم المتلقي واسقاطاته وتوقعاته من النصّ. لكن من جهة أخرى: ماذا عساها تكون الروايات عندما لا تحملُ بذرة التمرد بقدر ما قد تحمل انفعالات الشخصيات وتحولات مصائرها؟ فالتمرد جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الكتابي، وأكاد أجزم أنّه- أي التمرد- هو درجة الحرارة الملائمة التي تنقلُ الكتابة من حالتها السكونية الراضخة إلى مكان آخر أكثر حيوية وديناميكية، فيمنحُ الأحداث معنىً وقيمة. في الحقيقة لم تكن هنالك خُطة واضحة في ذهني بشأن العلاقة بين فعل القراءة وفعل النفي، ولكني التقطتُ – تكرار فعل القراءة المشترك بين المنسيين – لاحقا، فأنا أيضا من موقعي ككاتبة اكتشفُ الأشياء عقب الكتابة الأولى كلُقيا ساحرة، فإن كنتُ أكتبُ في المرّة الأولى بصورة لا واعية، فإنني أعيدُ استثمارها في النصّ بصورة واعية في مراجعة النص الثانية والثالثة، وبقليل من الخيال والمبالغة، يمكنني أن أجازف بالقول أنّ الشخصيات هي الأخرى كانت تصنعُ برفقتي مصائرها وأوجاعها وخذلانها. يبدو الأمر كنحتٍ متمعنٍ ودقيقٍ لقطعةٍ ثمينةٍ في منجم الأفكار، هكذا ينقلُ فعل “التمرد” النص لامتداد جديد خارج محدودية زمانه ومكانه.
– هذا المنفى الإجباري “مجاز” فيه مصادرة للرأي، فتضعيننا أمام فلسفة اعتقادية تلغي العقل أو تُدجِّنه فلا يفكِّر بالحرية؟
«الناس مستعدون للقتال من أجل الخزعبلات. فالخزعبلات غير ملموسة ولا تستطيع نفيها بشكل ملموس أيضا، أمّا الحقيقة فهي مجرد وجهة نظر»، هذا ما قالته الفيلسوفة هيباتيا، ولذا من اليسير على أحدهم أن يحبس الناس في سجن الخرافات فهي لا تحتاج إلى دليل مادي، كل ما تحتاجه هو إلغاء العقل أو دعنا نقول: إلغاء القُرّاء من الحياة أو نفيهم إلى المجهول. ولعلنا نتوقف قليلا مع الفكرة التي طرحها ماركوس أوريليوس: «كل ما نسمعه ما هو إلا مجرد وجهة نظر وليست الحقيقة، وأيٌّ مما نراه ما هو إلا منظور وليس الواقع»، فمن هذا المبدأ يُمكننا العمل على النقيض تماما وأعني استعمال السُلطة للإيهام بالحقيقة ومنع أي عقل من التفكير خارجها.. ألا يبدو هذا مأزقا وجوديا.. ألا يبدو مأزقنا منذ بدء الخليقة وحتى اللحظة!
لكل منسي حكايته
– “الضحّاك” في رواية « لا يُذكَرون في مَجاز » يثأر للعقل بالسرد الحكائي. فحين غاب الكتاب، غاب فعل القراءة وصار يحكي من مخزونه القرائي المدهش والمثير – صار يحكي. هل فعل الحكي هو استبدال وتحايل وتعويض عن استحواذ الكُتاب، عن فعل القراءة الذي يعتبر جريمة أكثر منه خطيئة؟
الحكي هو المعادل الموضوعي الوحيد في ظل غياب الكتب المُحرمة وفي ظل غياب القُراء. وكما حكت شهرزاد تحت تأثير الرهبة والخوف من جز الرأس، فقد حكى “الضحّاك” هو الآخر تحت ثقل الأسماء المحرم ذكرها، لقد ذكرهم واحدا واحدا وهو يكركر ضاحكا. ويتبدى لنا أنّ لكل منسي حكايته الخاصة، لكن يشدهم جميعا جذر واحد اسمه الذنب. الذنب الذي مهما بدى مختلفا من منسي لآخر، إلا أنّه يقود لمصير واحد، النفي إلى جبل الغائب، وعلينا أيضا ألا ننسى أنّه تمّ تشييدُ هذا العمل في مجمله بسبب البطلة الكاتبة والتي أصيبت لفترة طويلة بما قد يُطلق عليه حبسة الكتابة، فنحنُ نُدركُ أنّه عندما يمرّ الكاتب بأزمة مُماثلة، يعوزه الكثير من الحكي لكي تزهر روحه مجددا بالحكايات التي تنمو بين يديه وفوق قراطيسه. لكن فعل الحكي لم يكن يسيرا على أهل “مجاز” فهو مُعبأ بالمخاوف، رغم أنّ حياة الناس فيها تنهضُ على الحكي أصلا وعلى تفاصيله الدقيقة عندما يجتمعُ بهم “ألماس” في صحن الحصن. كما أنّ الخطايا لا تُشفى إلا بالحكي، والنجوم والزرع والنذور والقبور لا يعود لها أي معنى فيما لو لم يكن ثمّة ما يُحكى عنها. ولذا فإنّ “الضحّاك” بطريقة أخرى يثأرُ لتحريم الكتب بالحكي حتى وإن تمّ تجريمه بالجنون.
– وأنا أقرأ رواية « لا يُذكَرون في مَجاز » كأنك تكتبينها وأنت في مواجهة اللحظة العدمية وصيرورتها؟
سوف أتبنى هذه الجملة التي قالها الكاتب الفرنسي مانو سولو لأنّها تُعبرُ عني ببساطة: «أنا أرفض العدمية، لكني أعبر عنها من أجل البدء من جديد». تنهضُ العدمية على إنكار أي حقيقة جوهرية، وأظن أنّ هذه الفكرة قد تملكت مشاعر المنفيين الذين تمّ نفيهم إلى جبل الغائب، وكأنّ قرية مجاز لا تُساوي في أعينهم شيئًا البتة، وثمّة افتراض مُضمر بأنّ “جبل الغائب” على مجهوليته القاتمة قد يُمثل شيئا بالنسبة لهم. يُؤكد الناقد جاك دريدا على أنّه «لا يمكن للمرء أبدًا التأكد من أن ما يعرفه يتوافق مع ما هو موجود حقا، نظرًا لأن البشر يُشاركون فقط في جزء مُتناهي الصغر من الكل، ولذا فهم غير قادرين على فهم أي شيء على وجه اليقين، فالمطلقات مجرد أشكال خيالية»، ولذا يُفضل عامّة أهل “مجاز” – على عكس المنفيين – البقاء في الحيز الآمن تحت سيطرة من يتلاعب بعقولهم وعواطفهم عوض الذهاب إلى المطلق المجهول أو العدمي. وأنا من موقعي ككاتبة للنصّ أظن بأنّ العدمية تُجردنا من أي توقعات مُفعمة بالأمل والتفاؤل، وهي تنسفُ قدرتنا على الكاتبة والتخيّل، لكنها من جهة أخرى يمكن أن تصبح مادة جيدة للكتابة.. من عساه يدري!
عندما تتحد الخرافة مع السُلطة
– ثمة سؤال فلسفي تطرحه روايتك « لا يُذكَرون في مَجاز » هو: (لماذا أقرأ). وهو سؤالٌ يراهن على الوعي الذي يكتسبه الإنسان وماذا يمكن أن يفعل به. في الرواية يقوده وعيه إلى المنفى، وهو يعكس برأيي الوعي اللماذائي: ماذا نفعل بالقراءة، ماذا نفعل بالوعي؟
– إنه سؤال عميق حقا، ففي الوقت الذي أردتُ أن أقول فيه أنّ القراءة هي الفعل الوحيد الذي يُجابه وحشية العالم والزمن إلا أنّ الخرافة تريد أن تزج بها إلى المنافي البعيدة ، لإقصائها. ويصبح الأمر أكثر شراسة عندما تتحدُ الخرافة مع السُلطة لإزاحة القراء المختلفين عن طريقها، لإخفائهم، وهذا ما يجعلنا نمكثُ في هذا المكان باغتراب شديد عن نسق الحياة، محبوسين بين جدران “مجاز” وأسوارها العالية. القُراء المنسيون في جبلهم ذاك يدفعونني دائما للتفكير بهم، بالحياة الميتافيزيقية التي يعيشون فيها هناك. أشعر بإغراء شديد لكتابة جزءٍ ثانٍ عن حياة المنفيين إلى جبل الغائب لإنصاف حياتهم القصيرة، لإنصاف فعل القراءة ولكني حتى اللحظة لا أملك التصورات الكافية ولا أملك الجرأة.
– الوعي حامل للميلاد، زجُّكِ بالمتمردين الذين يكتسبون الوعي من القراءة في الرواية هو استيلاد الحياة من الموت. أي لا بدَّ من (إقرأ)؟.
– من يقرأ الكتب في “مجاز” يُحكم عليه بالنفي إلى جبل الغائب، وكأن القراءة هي مصدر اللعنة وكأن المعرفة قاتلة، وكأنّها التهديد الأبدي للسلطة وأدواتها العقيمة. وإن تبدى ظاهريا أنّ المعرفة تُلقي بأصحابها إلى مصائر غامضة، فالكتب أيضا تُعطي دلالة مختلفة في المتن، باعتبارها سببا في خلق كائنات مُغايرة خارج فكرة القطيع التي يُؤسس لها “ألماس”، الكتب هي المُخلص الذي يجعل لحياة المنسيين معنى ضمن نسيج القرية المتآلف على الطاعة، حتى في اللحظة التي يصلون فيها للمصير الأكثر قتامة، فإنّهم يرغبون في اصطحاب كتبهم معهم كزادٍ أخير للحياة الأخرى حيث لا جوع ولا عطش ولا شهوة. فالكتب تصنعُ فرادتهم عن المتن العام، ولأنّها كذلك ف “ألماس” يشعر بالتهديد، فيمنعها لأنّه يستشعر خطرها المؤكد. لا يمكننا أن نحد من مخيلة القارئ التي يمكن أن تأخذه في رحلة من التأويلات لا يحدها سقف الكلمات. هنالك أيضا فكرة أخرى لم تكن أقل تأثيرا عليّ وهي فكرة الذنوب التي مهما تبدت تفاهتها إلا أنّ السُلطة تجعلها سببا أصيلا لتخفي بواسطتها من يُرعبها وجوده، وأمام الفكرتين الجامحتين كنتُ بحاجة إلى شخصيات، إلى منسيين!.
الموروث الثقافي والاجتماعي
– كأنك في مخططك الروائي لهذه الرواية تقيمين قطيعة تاريخية مع الجهل واللامعرفة؟
أنطلق في رواية « لا يُذكَرون في مَجاز » من الخرافة دون نوايا مبيته لدحضها أو تقديسها، وإنّما تعريتها وجعلها تتناسل في حقبة زمنية ومكانية غير معلومة. فأنا أقفُ مذهولة حقا أمام العقل الذي أنتجها بتلك البراعة رغم ما تختزنه الخرافة من تجهيل. لذا كنتُ أقف على حدي السيف بين استعارة هذه المنظومة من الأفكار العجائبية التي لطالما رُجمت بكلمات قاسية من قبيل: الجهل والخرافة، وبين ولعي الشخصي بقصص السحر وبإمكانية انفتاح هذه الحكايات على تأويلات لا نهائية، مولعة بإعادة قراءة تلك المخيلة والظروف التي تكثفت لتُعطي تلك الحيوات منطقا وشكّا ويقينا مُغايرا لما نظنه نحن الآن كحقيقة مُطلقة. وفي المقابل كان ينبغي أن أصنع نظيرا لهذه الحيوات، نظيرا يُكافئها في القوة ويعاكسها في الاتجاه لتنمو المعركة بين الضدين.
وعلي ألا أخفي بأنّي متيمة بالإنسان العاجز عن تفسير الموت والأوبئة الغامضة والطبيعة الغاضبة، ومتأملة لانحيازه إلى تلك التصورات المُبهمة، مستعينا بخياله لا غير.
لكن يظهر في كل زمان من يستغل هذه الظواهر ليبسط سلطته الغاشمة. وهذا ما يحدث في كل زمان ومكان وبصور لا نهائية، فحتى لو افترضنا بأنّ هذه الأحداث تتموضع بالضرورة في الماضي وقضاياه، لكنها في السرد تغدو حاضرا وربما مستقبلا.
– عدم القراءة؛ هكذا هو جريمة الوعي لا السلوك، هي فعل قتل جماعي لبشر تمَّ عزلهم إن في الرواية أو على وجه هذه الارض؟
أظن أننا لم نكن لننتبه للحكايات الشعبية لولا أنّها ارتداد لصورتنا الآن، فالروايات تنهضُ على تفكيك هذا الموروث الثقافي والاجتماعي وتنزُعُ لخلق اشتباكات جديدة معه، ولأننا الآن نكابد موجة تراجع القراءة إزاء الترويج للمحتوى العبثي والرخيص فنحنُ نشتبكُ مع “مجاز” في فعل العزل والموت مجازا وواقعا أيضا.
هدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، حاصلة على ليسانس في الأدب العربي من جامعة حلب في سوريا، وهي صحفية في القسم الثقافي بجريدة عُمان، وتعمل حالياً مديرة تحرير في مجلة «نزوى» الثقافية.
صدرت لضيفتنا ثلاث مجموعات قصصيّة هي “نميمة مالحة (2006)”، “ليس بالضبط كما أريد (2009)”، “الإشارة برتقاليّة الآن (2013)”، بالإضافة إلى عدد من الروايات، نذكر منها: “الأشياء ليست في أماكنها (2009)”، “التي تعدّ السلالم (2014)”، “سندريلات في مسقط (2016)”، “أسامينا (2019)”.
خاص قناص