حول البنية الروائية في «لم يصل عليهم أحد»
في جميع رواياته، يلمس القارئ بوضوحٍ، اهتمام الروائي السوري خالد خليفة بالبنية، ومحاولة تحويلها من هيكلية بناء مجردة تتحرك فيها الأحداث والشخصيات ببرودٍ، إلى أتونِ تشويقٍ في الرواية، يصل إلى أبعاد مدهشة في تحريك داخل القارئ، وجرّه إلى أن يكون كاتباً لرواية داخله، وذلك من خلال سيره في تحدي مفهوم الرواية داخل الرواية بمعناه الشمولي، مع التشابك الذي لا ينفصم بين شكل ومحتوى الرواية، وإيجاد الثيمة التي تنظمها عقداً تنفتح نهايته على بدايته. وفي روايةٍ ملحميّة، ضخمةٍ بقيمتها الفنّية قبل حجمها، مثل روايته لم يصل عليهم أحد (دار هاشيت أنطوان-نوفل؛ ٢٠١٩)، لا يخرج القارئ في الحقيقة سالماً من تأثيرات تكوينها المتشابك. وقد لا تكفي متعة إصابته بالدهشة والسّحر، وخوفه في بدايات قراءته لها، من ضياعٍ يقطع عنه أنفاسَ سحرِ عالمه الذي يعيشه في عوالمها، كما قد لا تكفي راحة نفسه وسيلان عينيه بالدمع من تأثير خاتمتها الناجحة المذهلة التي تكملُ دائرة قراءته بانفتاحها على سحر بداياتها، إذ سيصابُ، سواءً في لا وعيه أو إدراكه، بالشكّ في صورته التي يتداخل فيها صنع الآخرين وصنع أوهامه لها، وربما دفَعهُ هذا الشكّ إلى تتبّع خطاهُ في رحلةِ أحد شخصيات الرواية، مثل شخصية «حنا» الأولى الآسرة فيها، نحو معرفة نفسه، ونقاءِ روحه بعد مأساة الطوفان.
كما لا يخرج القارئ من أسره بشغف اكتشاف الكيفية التي تصاغ بها رواية ملحمية تخوض تحدّي بلورتها عالماً مشدوداً بين ثنائية الحبّ والموت، ومعلّقاً بسحر ومآسي «الحب المستحيل» الذي ينبض بمحاولات البشر اليائسة لتفكيك ظلال الصراعات الدينية التي تقتل الحب بين البشر، وتحدّي جدران القيم والأعراف التي تحجزهم عن تحقيق سعادتهم، مع الكشف العميق عن حركة دواخل شخصياتهم في حركة هذه الصراعات، في ظلال التكوّن التاريخي للشخصيّة، تحت الاحتلال والاستبداد والمجازر.
لإراحة وإشباع شغف قارئه وإغنائه بالمعرفة مع التمتع بسرد الحكاية، يكوّن خليفة بنيةً متماسكة تتحرك وتتفاعل فيها عناصر روايته الغنية بوثائق عن العصر، ومخطوطاتٍ للشخصيات، وثقافةٍ مدرَكةٍ، ومعرفةٍ ظاهرةٍ أو مختزنةٍ في اللاوعي عن تحقق الرواية في السينما. ويفردُ أجنحة هذه البنية للتحليق بسلاسةٍ في سماء عشرة فصول، بعناوين وتواريخ غير خاضعةٍ للتسلسل الزمني الذي يبدأ كما يبدو عام 1881 في ماردين، وينتهي عام 1951 في دير زهر الرمان بقرية حوش حنّا التابعة لحلب بالنسبة لختام مصائر أبطاله، كما ينتهي بين صيف 2015 وربيع 2019 في دمشق، وكامبريج وبوسطن، بحسبان دخول الكاتب كمدوّن وصاقلٍ ومبدعٍ لهذه الرواية في النص.
ويحرّك خليفة محتوى هذه الفصول بمنظومةٍ سرديةٍ يغلب سردُه فيها كراوٍ عليمٍ على سبعةِ فصول منها هي: (الطوفان، أمي حبة فاصولياء مفلطحة، قبر وسط حقول الكرز، الطريق الشاق، عالم يتداعى، صيف العاشق، سرير القدّيس الليّن). ويداخل هذه الفصول بعد الفصل الأول والفصل السابع مصنّفان بسرد بطله حنّا هما: (الآثام، والجوع)، وروايةٌ داخل الرواية هي رواية جنيد خليفة: “الحب المستحيل”. وفي هذه البنية تتحرك البنية العميقة لعمل ملحمي يتناول مصائر عوائل مختلفة الأديان ومتشابكة العلاقات، بدءاً من وحدة جذور بعضها التي انقسمت بفعل القهر والانصياع إلى ضرورة تغيير دينها من أجل الأمان والعيش، مروراً بعلاقات التشارك التجاري، وعلاقات الصداقة، وانتهاءً مأساوياً بعلاقات الحبّ الذي لا يعرف التمييز بين الأديان. وفي ابتعاد الكاميرا تتجلّى مصائر شخصيات هذه العوائل لتَكوْن مصيرَ المدينة التاريخية حلب، بين نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.
ولا ينسى خليفة وضع العنوان المناسب في التعبير عن هذه البنية ومحتواها، وفي تأثيره الذي يوحي بالأسف على ضحايا المجازر في تاريخ سوريا الحافل بحماقات صراعات اختلاف الأديان المعزّزة باستيهامات المخدوعين المغيبين، ومصالح المحتلّين والمستبدّين والمتواطئين.
***
حول البنية الروائية في «لم يُصلِّ عليهم أحد»؛ بقلم المثنى الشيخ عطية
المثنى الشيخ عطية؛ شاعر وصحفي سوري مقيم في باريس