مساراتمقالات

ليفي ستراوس: شيخ البنيوية الأنثروبولوجية الذي دافع عن التعددية الحضارية

ليفي ستراوس والبنيوية: محاولة علمية من أجل القيام بحفريات جيولوجية في عمق أعماق التربة الحضارية

ليفي ستراوس: شيخ البنيوية الأنثروبولوجية الذي دافع عن التعددية الحضارية

بقلم: سعيد سهمي

يعتبر كلود ليفي ستراوس، بدون منازع، شيخَ البنيوية الأنثروبولوجية، فقد ترك بصمة قوية في الفكر الحديث، حتى لقبه البعض بأكبر مهندسي الفكر في العصر الحديث وذلك لآثاره العظيمة في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والفلسفة.

لقد عمل ليفي ستراوس على تطويع البنيوية، كما تجسدت عند فردناند دو سوسير (F. De Saussure)، لخدمة العلوم الإنسانية وعلم الأعراق (Ethonology) بشكل خاص؛ في سياق ثقافي كانت فيه البنيوية بمثابة إبدال جديد (new paradigm) جسدت الفكر الحداثي الغربي للقرن العشرين وطغت على الدراسات الفكرية والأدبية والفلسفية وغطت قرابة قرن من الزمان، ولا يزال تأثيرها اليوم حاضرا في الدرس الأكاديمي الأدبي والفلسفي وفي مجال العلوم الإنسانية.

ليفي ستراوس: من البنيوية إلى البنيوية الأنثروبولوجية

تُعرَّف البنيوية على أنها المنهج الذي يدرس العلاقات القائمة بين العناصر الأساسية المشكِّلة لبنية معينة؛ لغوية أو اجتماعية أو ثقافية، وذلك انطلاقا من اعتبار هذه البنية نسقا من العلاقات الخفية المدركة وفقا لتحكم الكل في الأجزاء، هذا النسق الذي يتشكل اعتمادا على الوحدة الداخلية والانتظام الذاتي على نحو يُفضي فيه أيُّ تغير في العلاقات إلى تغير النسق نفسه (بشكل قريب من مفهوم الجشطلت Gestalt في السياق الألماني والذي يماثل مفهوم البنيوية)، كما أن هذا النسق أو النظام (system) دال بالضرورة على معنى.

ينتج عن هذا، أنَّ تَشكُّل البنية خاضع للاوعي واللاشعور كما ينتج عنه اعتبار الذات (البنية) ونفي كل ما هو خارجي عنه، ومن هنا فالبنيوية تنفي الاعتبارات التاريخية والاجتماعية المتحكمة في الإبداع البشري عبر الاحتكام إلى الشروط الداخلية لإنتاج نص من النصوص أو عمل إبداعي ما أو خطاب من الخطابات أو أي مكون ثقافي.

وإذا كان دو سوسير قد مهد لنشأة البنيوية من خلال محاضراته التي ألقاها على طلبته في جنيف بين عامي 1907 و1911 والتي جمعها طلبته بعد وفاته في كتاب «دروس في اللسانيات العامة» (Cours de Linguistiques Générales) حيث مهد الكتاب لنشأة اللسانيات الحديثة كما مهد لظهور البنيوية ولعدد من النظريات الفلسفية والنقدية من بعده، على اعتبار أن البنيوية تشتغل أساسا على اللغة أو على علم اللغة (Linguistics) على اعتبار أن اللغة أداة الدرس البنيوي، فإن كلود ليفي ستراوس يعتبر، بحق، رائد البنيوية باعتباره أول بنيوي استثمر دروس دو سوسير اللسانية في الاشتغال على الأبنية اللاواعية في الفكر انطلاقا من وعي انثروبولوجي يسعى إلى الكشف عن أشكال السلوك الإنساني وعن جينيالوجيا الهويات الإنسانية اعتمادا على اللغة والثقافة، حيث كان ينظر إلى البنيوية باعتبارها «محاولة علمية من أجل القيام بحفريات جيولوجية في عمق أعماق التربة الحضارية»(1).

ولد كلود ليفي ستراوس (Claude Lévi-Strauss) في 28 نونبر 1908 ببروكسيل وكرس ما يزيد على سبعين عاما من حياته في خدمة الدرس الأنثروبولوجي قبل وفاته في 30 أكتوبر 2009، ابتدأ عمله أواخر الأربعينيات بمحاولة لتفسير التحولات التي تحدث في الثقافة وفي الإدراك الفردي للواقع الاجتماعي، فضلا عن الكشف عن معاني الأساطير القَبْلية في أمريكا الجنوبية من خلال دراسة التعارضات اللغوية والتحولات في اللغة المنطوقة، فكانت هذه البداية منطلقا نحو الغوص في دراسة السلوك البشري وفي الأنثروبولوجيا حيث قاده فضوله المعرفي وتجاربه العلمية للسفر إلى أدغال أمريكا الجنوبية ومعايشة الناس هناك، بعد أن تم اختياره في عام 1935م ضمن مجموعة من الأساتذة الجامعيين الفرنسيين لتأسيس جامعة سان باولو في البرازيل، حيث سيُتاح له هناك تدريس علم الاجتماع والقيام بأعمال حقلية إثنوغرافية بين هنود البرازيل، وهناك ستتشكل لديه قناعة أن إنشاء الحضارة الإنسانية أمر ممكن لدى جميع الشعوب إذا توفرت لديهم الإمكانيات معارضا في ذلك الفكر الكولونيالي الغربي والعولمة التي تسعى إلى محو الحضارات المخالفة للنموذج الغربي، حيث يقول ستراوس: «سنبدأ بالإشارة إلى أن هذا الانخراط في نمط الحياة الغربي لا يتم بالعفوية التي يعتقدها الغربيون. بل ينتج عن غياب الاختيار أكثر مما ينتج عن قرار حر. فقد أقامت الحضارة الغربية جنودها، ووكالاتها التجارية ومزارعها ومبشريها في العالم بأسره. وتدخلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حياة الشعوب الملونة وقلبت رأسا على عقب أسلوب حياة هذه الشعوب التقليدي»(2)، ولعل هذا يؤكد مهاجمة ستراوس للعنصرية والكولونيالية باسم العولمة.

المدارات الحزينة: بحث في ثقافات شعوب أمريكا الجنوبية

مهد كتاب ليفي ستراوس المدارات الحزينة (Tristes Topiques )، أو مداريات حزينة كما في ترجمة محمد صبح الصادر سنة 1955 لثورة حقيقية في الفكر الغربي، فهذا الكتاب يمثل  عصارة بحث ميداني في الإثنولوجيا والذي وقف فيه على دراسة ثقافة هنود أمازون البرازيل، وسجل فيه تأملاته الفلسفية حول الحضارة البشرية، كما سجل فيه أيضا مغامراته التي نقلته من بلده ومن جامعته الفرنسية إلى البرازيل حيث كان محاضرا في جامعة ساو باولو البرازيلية.

ولعل أهم ما يلفت انتباه القارئ في هذا الكتاب الذي يتقصى ثقافة شعوب أمريكا الجنوبية مثل قبائل الكينغانغ والبورورو والباريسي والنامبيكوارا هو جمع هذا الكاتب العبقري بين براعة الأسلوب السردي ورصانة البحث العلمي الإثنوغرافي في توصيف عادات الشعوب وتقاليدها فضلا عن دقة الوصف التي تذكرنا بكتب الرحلات العربية، وهو وصف نابع من التجربة الواقعية التي خاضها ليفي ستراوس في البرازيل متنقلا بين مختلف القبائل، كما يجسد ذلك هذا المقطع في وصف شعب النامبيكوارا:

«يستيقظ النامبيكوارا عند طلوع النهار، فيذكون النار ويستدفئون قدر استطاعتهم من برودة الليل، ثم يقتاتون بالقليل المتبقي من البارحة. ويمضي بعد ذلك الرجال جماعات أو فرادى لرحلة قنص. بينما تبقى النساء في المخيم ينصرفن إلى أشغال المطبخ، ويأخذن حمامهن الأول، عندما تبدأ الشمس بالارتفاع. إذ يستحم النساء والأطفال معا، على سبيل المرح غالبا، ويشعلن النار أحيانا، ليجلسن أمامها القرفصاء، ويتنشطن عند الخروج من الماء. وهن يبالغن بظرف في الارتعاش الطبيعي، ويتكرر الاستحمام مرات أخرى أثناء النهار. ولا تتنوع المشاغل اليومية إلا قليلا، إذ يستغرق تحضير الطعام أكثر الوقت والاهتمام»(3).

الأنثروبولجيا البنيوية: طريق الألسنية السوسيرية

بظهور كتابه الأنثروبولويجيا البنيوية (Anthropologie structurale) سنة 1958 مهد ليفي ستراوس الطريق لتقبُّل البنيوية بوصفها محاولةً ممنهجةً للكشف عن الأبنية العقلية الكلية العميقة كما تتجلى في أنظمة القرابة والأبنية الاجتماعية الكبرى، والفلسفة والأدب والرياضيات والأنماط النفسية اللاواعية التي تحرك السلوك الإنساني.

وتتلخص قراءته لدو سوسير في تحويل علم اللغة البنيوي من دراسة الظواهر اللغوية الواعية إلى دراسة بنيتها التحتية اللاواعية وجعله يتعامل مع المسميات أو الكلمات بوصفها كيانات مستقلة، والتعامل معها على أساس العلاقات التي تنتظمها، وذلك اعتمادا على مفهوم النسق (system) على اعتبار أن الفونيمات (phonems) أجزاء من هذا النسق وفي الوقت ذاته هي أنساق صوتية مشكلة للبنية، وعليها اعتمد في تحليل أنساق القرابة (الكلمات والمصطلحات) بوصفها مجموعة من العلاقات الرمزية، فاكتشف أن هناك توازنا بين التحول من الطبيعة إلى الثقافة وبين التحول في العادات كالطبيعة واللباس معلنا أن هدفه الأساس هو التمييز بين الطبيعة والثقافة.

ليفي ستراوس وعلم النفس والتحليل النفسي

استفاد ليفي ستراوس، أيضا، من دروس فرويد (Sigmund Freud) وبشكل خاص قراءته في أوديب (Œdipe)، حيث استلهم منه أدوات التحليل  النفسي كآليات الدفاع والكبت (repression) والتشكل المضاد والاستبدال (substitution ) والإعاقة؛ ليقوم بتفسير الأبنية من المنطقي إلى اللاعقلي ومن الفكر الواعي إلى اللاواعي.

كما استفاد  ليفي ستراوس من أفكار جاك لاكان (Jacques Lacan) المحلل النفسي الفرويدي لأنه اهتم أيضا بالأبنية اللاواعية واعتمد في تحليلاته النفسية على اللغة بوصفها مرآة اللاوعي، واستلهم منه أيضا مقولاته البنيوية حول الدوال (جمع دال)، ومن ذلك تأكيده (لاكان): «يمثل الدال ذاتا لدال آخر».

موقفه من الماركسية

رغم أن ليفي ستراوس تأثر بماركس باعتباره أول من اعتمد النماذج في العلوم الاجتماعية، إلا أنه ظل ينتقد الماركسية والدراسات التاريخية والفلسفة الظاهراتية والوجودية لأنه ينظر إلى المجتمعات من بؤر لا تاريخية (سنكرونية)، وذلك جوهر البنيوية التي تدرس النصوص في إطارها الداخلي المغلق؛ فالتاريخ عنده يعاد تأسيسه كلما تم استرجاعه أو كلما تمت إعادة حكاية الأسطورة، فهو يحضر من خلال تفاعل الأبنية العقلية، والذي يقع في لحظة بعينها.

أما الفرْدُ عند ليفي ستراوس فهو يرتبط ارتباطا تلقائيا مباشرا بمجتمعه، بكل ما في هذا المجتمع من وحدة شاملة تنتظم العواطف والمعتقدات، ومن ثمة، ففي قراءته لدوركهايم (Emile Durkheim) ألَحَّ ليفي ستراوس على التضامن الآلي للمجتمعات القبلية.

استنتاج تركيبي

هكذا يمكن اعتبار بنيوية ليفي ستراوس الأنثروبولوجية عملية لغوية تجعل الظواهر خاضعة لتصوراتنا اللاواعية، فتفكيك البنية اللغوية لقبيلة ما ودراسة عاداتها وتقاليدها للكشف عن ميكانيزماتها الثقافية وبُناها الاجتماعية هي مغامرة قد لا تؤدي إلى نتيجة محسومة، ومن ثمة يمكن القول إن الدرس البنيوي الأنثروبولوجي، على الأقل كما تجسد مع ليفي ستراوس، ليس سوى جزء ضئيل من علم الاجتماع العام الذي يدرس الظواهر الاجتماعية في تطورها وتحولها اعتمادا على آليات علمية ملموسة وبناء على منهج لا يقبل الشك، يسترفد من علوم أخرى كالبيولوجيا والرياضيات وعلم الآثار.

هذه الحقائق لا تنفي البتة دور ليفي ستراوس كمثقَّف عظيم استطاع أن يغوص في أعماق علم الأعراق وأن يخلق نوعا من المواءمة بين علم الاجتماع والبنيوية، وكباحث انثروبولوجي استطاع استثمار اللغة والخطاب والتواصل الانساني والثقافة الإنسانية للكشف عن التحولات الحضارية في العالم من خلال الانطلاق من المجتمعات المسماة بدائية وتشخيص بنيتها الثقافية والمشترك بين القبائل التي درسها في علاقة ذلك بتطور الحضارة الإنسانية المعاصرة ومن ثمة استطاع التوصل إلى حقيقة أساسية تتمثل في كون الإنسان، بشكل عام، يمكنه صناعة حضارته الخاصة إذا توفرت الشروط لذلك كما أنه استطاع بشكل يقربنا من عمل ميشيل فوكو أن يميط اللثام عن أكذوبة التفوق الحضاري لدى الغرب عبر تشريح مكونات الحضارة الإنسانية والتي تتشابه بين جميع الشعوب من حيث الجوهر ولا تختلف إلا من حيث المظاهر والوسائل المادية. 

مراجع:

  1. علي محمد اليوسف: “مفهوم البنية بين شتراوس وألتوسير” في: www.couua.com، بتاريخ: 9 نونبر 2020.
  2. كلود ليفي ستراوس: الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983، ص. 492.
  3. كلود ليفي ستراوس: مداريات حزينة، ترجمة محمدصبح، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، دمشق، الطبعة الأولى، 2003، ص. 360.

***

د. سعيد سهمي؛ ناقد وأكاديمي من المغرب

ليفي ستراوس

خاص قنّاص – مقالات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى