أرخبيل النصوصجسدُ السرد

فصلٌ من رواية «جنوب» لـِ دُنى غالي

مانفيستو الحجرة

«مانفيستو الحجرة» فصل من رواية العراقية دُنى غالي «جنوب» الصادرة حديثاً عن دار المدى في بغداد 2023:

***

من دون أن تعي تبتسمُ لصورتها في المرآة. تأخذ رشفةً حارة من كوب القهوة الورقي، وهي تراعي ألا تُفْتَضَح ابتسامة سرحانها الحارّ. تسحب يونا عربة الحِلاقة وتقف من خلفها. تنزع المنشفة عن شعرها المغسول وتروح يداها تلعبان في شعْرِها  الذي جهز للمقصّ. والموضوع الأسهل للمشاركة، حينما يكون الصيف على الأبواب هو السؤال عن خطط الإجازات.

  • هل تزورين بلدكِ في العطل الصيفية؟

سألتْها يونا، الدنماركية من أصل فيتنامي صيني. تحاصِرُ نفسها بالمرآة أمامها، بينما الحلّاقة منشغلة بمقصّها ولا تبدو مهتمة كثيرا بالجواب، أو هي لن تتوقع جوابا غير تقليدي. كان من الممكن أن تكونَ سورية أو فلسطينية فتختصر الجواب ولن يكلّفها ذلك الكثير من العناء، تماما كما اعتادت من قبل أن تجيب. لا ليس بالإمكان هذا، والناس كانت ستتعاطف حتى قبل انتهائها من جملتها. السؤال بحد ذاته كان يكفي لتحرير الطرفين من ثِقل ما بعده. يكونان قد قاما بواجبهما تجاه بعض، مُعْربين عن توفّر درجة ما من التفاهم والاحترام. لكن بلدك قد “تحرّر” وقد تمّت “دمقرطته” فما المشكلة إذن، وما الجواب الأسرع الذي يُنهي هذا النوع من الأسئلة المحيِّرة، ويفتح حوارات لا رغبة لها فيها؟

نعم، زرته مرة واحدة مذ أن غادرت. أو، لا، لم أزره مذ أن غادرت. لا، بودي، لكن الظروف لم تكن مناسبة والفرصة لم تحن بعد. لا، لم يبقَ لي في الحقيقة أهلٌ هناك فالجميع قد غادر. دعينا منه، في خبر كان. أو، لا، ما ترينه على الشاشة وتسمعينه في المذياع لا ينقل لك ما عليه الواقع هناك. 

  • نعم، سافرتُ مرارا.

الكذب المقيت كحلٍّ سريع غير مؤذٍ للطرفين.

  • وأنتِ؟

وجهُها الباسم على الدوام يجعل حجم قامتها الناعمة يبدو أكبر، ابتسامة متحركة حيوية سريعة، فَمٌ متكلّم من دون انقطاع بتقسيمات صينية بالنطق ونَبْرٍ بالحروف. صارت زبونتها من فترة؛ لأنها فهمت شَعرها وعلاقته بوجهها، بشيء من المرونة، مقارنة بالصالونات الأخرى. لَماحة أو نباهة غير متوقعة. بشرتُها أكثر اصفراراً وشعرها أكثر سواداً. اقتربا إذن. خبرة المهنة المتوفرة ذاتها، مع عطفة خفيفة بدافع المرونة والارتخاء. يمكن للشعر الأسود أن يصير أشقر، بالإضافة إلى أسرار الخنادق والبساطيل وطرق الفرار والقتال بسلاح أبيض والخيام والمعسكرات والخيانات. بإمكان الاثنتين القول بصوت عالٍ أو بحروف كبيرة: ” أمريكا دمّرتْ بلدي”. هي لا تملك بلداً لتعود إليه؛ لذا هي تفتح سيرة طويلة وتنتظر جواباً أعمق منها. جدُّ جدّها الذي انتقل من الصين واستقر وتزوج وأنجب وشارك في حرب فيتنام ظلّ صينيّاً، وشَمَل ذلك كلَّ مَنْ خلّفهم من بعده في فيتنام. بعد حرب فيتنام اندلعت حروب أهلية، وخلاف على الحدود بين الصين وفيتنام أدّى إلى رمي حكومة فيتنام لكلّ الصينيين خارجاً، ولثلاثة أجيال رجوعا.

  •  لا الصين تعترف بنا، ولا فيتنام.

ليس هناك من دراما في صوتها، من دون بكاء، دون حنين، يدخل زبون شابّ.

  • هاي ميكيل.

تحية مستفسرة.

  • أتيتَ مبكرا؟
  • –         كثيرا؟
  • نعم، مبكرا نصف ساعة. أكيد هي إعدادات حفل زواجكَ التي لخبطتك.

يونا تقهقه أكثر من أن تضحك.

  • تفضل، ارتخِ، سأعمل لكَ قهوتكَ. تلك إشارة إلى حاجتكَ لهذه نصف الساعة، ستحصل على مساجٍ خاص لفروة رأسك اليوم مجاناً كهدية.

تضحك ولا تلبث ملامحها أن تستعيد جديتها. تستأذنها لدقيقتين. تتوجه إلى مكنة القهوة.

تنظر إلى ميكيل عبر المرآة، كما نادته يونا، انعكست صورته أمامها وهو واقف بقامته الضخمة الطويلة قبل أن يختار ذلك المقعد من خلفها تماماً في الجدار المقابل. تتأمله بغفلةٍ. بدا شابّاً في نهاية العشرينيات من عمره. ما لبثت القهوة أن صارت بين يديه، قبل أن يغطس في كرسيه ويفتح جهازه النقّال.

تعودُ يونا إليها.

  • لا حنين عندي لوطن. ما الوطن؟ إنه صدفة في الغالب لعينة. لا تقويكِ، بل تضعفك، هي أمكنة تتبدّل فحسب! ألعاب حدود، مثل سكك حديد، وإن شئنا الحق، العالم ملكنا جميعا!

تضحك بقهقهة ميكانيكية وبصوت عال وتتابع:

  • اللغة؟ أنا أتحدّث الصينية باللهجة الكانتونية، ولا أستطيع التواصل مع أغلب الصينيين من زبائني هنا. هل بمقدورك التمييز بين الصيني والفيتنامي؟
  • لا، أبدا.
  • قضينا سنوات طويلة في معسكرات اللاجئين في هونغ كونغ لحين حصولنا على اللجوء في الدنمارك. اعتدنا الحياة المؤقتة لسنوات. إن فكرتِ هكذا فسيسهل كل شيء. تذكّري أن شعوبا برمتها بعيدة تمام البعد عن هذه العوالم، لا داعيَ لإزعاجهم!

قهقهتها ذاتها، تحاول خلالها أن تُشركَ زبونها؛

  • الروعة هنا أن لكِ هوية واحدة لا غير، وبتقديري أنها عادلة وكافية، وهي أنكِ أجنبية. أنا أظن الغرباء سعداء، ما رأيك ميكيل؟
  • آمل ذلك.
  • أعني أنهم على الهامش، غير مسؤولين عن شيء.
  • لا أعرف.
  • هل تميّز يا ميكيل بين المطبخ الصيني والفيتنامي؟
  • قليلا، نعم.
  • هل رأيت! الفارق ليس مهمّاً.
  • نعم.
  • مع أنه بالمناسبة غَدا مطبخاً إكزوتيكيّاً، وأنا لا أجيد وصفة منه.

تضحك والعجلة في تنقّلها، واليقين ما يميزها بشكل لافت، لا تعيد الشيء إلا في مكانه مهما كان حجم انشغالها. السطوح لامعة وما عليها محسوب بدقة. الهواء منعش والمحل مفتوح مضاء. شعرها مصفّف بالطريقة ذاتها، لا تتبدل. شذا عطرها ينتشر في المكان مسالماً بارداً هادئاً، لا يبقى الشَّعْر المقصوص على الأرض طويلاً، ولا شيء من انفعال ظاهر على محيّاها الضاحك، تنظر إلى زبونها عبر المرآة أمامي، ثم تستدير بكليتها موجهة الحديث إليه.

  • الأجيال المدلّلة هنا لا تعرف ما معنى الحروب، أربعة عشر سنة وهم لا يعرفون أنهم في حرب، وكما رأيتِ كيف تراكضَ الأولاد الدنماركيون للالتحاق بالجيش للقتال في أفغانستان. هههه.

يرفع الشاب رأسه من شاشة نقّاله ويبتسم بحياء. تذهب يونا إلى أبعد من ذلك في حديثها وتتجاوز الحدود من دون تردد ظاهر عليها. 

  • أليس هذا صحيحاً يا ميكيل؟ ظهر في الأفلام، كيف انهار الواحد تلو الآخر، لمجرد مرأى السكاكين، للقنابل الحية، لمرأى الدم، للمخ المتناثر والجثث الحقيقية.

تنظر إليها في المرآة موجهة الحديث إليها بصوت مسرحي خفيض:

  • ميكيل جندي سابق حاربَ في أفغانستان، لم يطع الأوامر فأرسلوه إلى بيته.

قهقهتها العالية ثانية.

  • هل ترغبين بقدحٍ ثانٍ من القهوة؟

يعمّ جوٌّ من الحرج. المأزق هنا حين يتجاوز الناس المسموح، ولكن حدوده يصعب تحسّسها جدّا. لا يبدو على ميكيل أنه راغب في الحديث. اكتفى بهزّ رأسه، وما لبث أن نكّسَه بعد ذلك وغطس أكثر في شاشته.

  • لا، أشكركِ.
  • من ناحية ثانية لا أفهم انضمام الشباب الدنماركيين إلى القتال مع داعش.

تلتفت إليها.

  • أنا لا أعرف عن الإسلام شيئا، ولا أفهم أزمات الشرق الأوسط على فكرة. بعيدة عني تماما.
  • موضوع صعب. 
  • أليس كذلك؟ ولكن لا يمكن أن يكون الملل دافع الدنماركيين، ولا يمكن أن يكون المال.

لم يدل ميكيل بتعليق. واكتفت هي بالتعليق:

  • لا أظن.
  • هل هي هواية القتل؟ يبدو لي أن غالبية العالم تشترك في الهواية هذه، القتل. الرجال  على الأخص. 

لم ينطق ميكيل بحرف. لم يرفع رأسه. استمر غارقاً في مكانه متشاغلاً بهاتفه النقّال.

  • ولكننا نحن مَن علّمَ الفيتناميين القتال، والعمل، الصبر، انظري إلى محلّي، ادخرتُ من أجله الفلس، سنة بعد سنة، مجازفة، لا تأسياً على شيءٍ ضاع، ماذا تعمل الآن يا ميكيل؟

تذكرت الرجل الذي في الحلم الذي كانت تنوي سحبه معها إلى شقتها. بعض اللقطات كانت شبه حية أمامها. كان يحمل في جيب قميصه قلم حبر، رَسَمَ بقعةً كبيرةً على جيب القميص عند الصدر. لابد أنه قادم من زمن بعيد. لم يعد أحد يحمل قلم حبر في جيبه.

 يسحب ميكيل ساقيه اللتين تمددتا وانفرجتا، يلمّهما ويعتدل في جلسته من دون أن يرفع رأسه من على شاشة النقّال.

  • أبحث عن عمل حاليّاً.

 فزّت لِطَبْطَبةِ يونا على كتفها تحضّها على النهوض.

كانت تود الإسراع بالدفع والمغادرة، لكنها تعرف طقوس يونا حين تناولت المرآة لتريها قَصَّة شَعْرِها من الخلف. هي الخطوة الأهم لديها من أجل إتمام عملها على أتمّ وجه.

  • أقول لكِ شيئاً، إن كان الشيء العزيز قد أصابه مرض خبيث فلِيَمُتْ.

* رواية «الجنوب» صادرة حديثاً عن دار المدى في بغداد 2023.

خاص قناص – فصل من رواية

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى