أرخبيل النصوصجسدُ السرد

قصة من ظُفار: نائمون بأعماق ذواتنا، خائفين أن نصحو | مريم سعيد

«السماء تبدو جميلة في الشتاء، تبدو أكثر زرقة نهارا، وأكثر لمعانا ليلا.. لا أعلم حجم الخسارة التي كانوا سيتكبدونها لو غفروا، لو أخذ أحدهم بيدي قبل أن أضيع»

مايا.. نائمون بأعماق ذواتنا، خائفين أن نصحو

«السماء تبدو جميلة في الشتاء، تبدو أكثر زرقة نهارا، وأكثر لمعانا ليلا»، قالتها وهي تغمض عينيها الغارقة بالدموع، وضعت ذراعها على وجهها، وتنهدت بهدوء. كان المساء هادئا بشكل مُطَمْئِن، وموحش في الوقت ذاته، لم يكن هناك صراخ أو جدالات مفزعة، اعتدلت جالسة وضمّت يديها، تبدو وكأنها تحتضن نفسها، همست قائلة: «لست مستعدة للتبعثر في الفضاء»، سكنت قليلا، ثم وقفت وأخذت تُلملم الأغراض المبعثرة على الأرض، كأسا بلاستيكيا كبيرا، وقنينة ماء، وبساط أزرق من الصوف، ثم عادت إلى داخل المنزل، وضعت البساط على الرف بقرب الدرج المؤدي إلى سطح منزلها وهي تنزل عائدة إلى غرفة الجلوس، وضعت القنينة والكأس على الطاولة، وجلست على الأريكة، «أسرعي قد تمطر، أدخلي الغسيل، لابد أنه قد جف».. صوت يصدر من آخر الرواق، قامت متثاقلة نحو الرواق وهي تُتَمتم: «وماذا إن تبلل الغسيل! سيجف غدا». فتحت الباب لترى حبال الغسيل فارغة، أغلقت الباب وهي تفكر: «آه صحيح لم أقم بغسل الملابس اليوم، كان ذلك البارحة، إنها الساعة الثانية صباحا، من الذي يخرج في هذا الوقت!». نظرت نظرة مطولة نحو الرواق الفارغ وتنهدت، عادت إلى الأريكة واستلقت لتنام بوضع الجنين، وأخذت تُتَمتم: «أتمنى ألا أستيقظ غدا».

الساعة السابعة صباحًا، صوت المنبّه يتعالى، التقطت الهاتف وأغلقت المنبه ثم نظرت للشاشة بعين واحدة؛ لتدرك أنها السابعة صباحا، قالت بصوت منزعج: «فاتَتْني صلاة الفجر، ولازِلتُ حية، هل يمكن أن يزداد يومي سوء!».

في اليوم ذاته، يوم شتوي ماطر جلست بجوار النافذة تراقب السباق القائم على زجاج نافذتها، اقترب أحدهم يهمس في أذنها: «أليس عار أن الكثير من الأشخاص اللطيفين ماتوا ولا يزال شخص عديم الفائدة مثلكِ على قيد الحياة؟»، لم تلتفت للصوت، ولم تقم بالرد عليه، استمرت بالتحديق مطولا نحو النافذة، وقفت وابتعدت عن النافذة قائلة: «يا له من يوم بارد ممل!»، صرخت سيدة عجوز من المطبخ: «لو أنك كنت ذكية وتوقفت عن جعل الآخرين يستغلونك؛ لكنت بحال أفضل»، هزت بيدها في الفراغ وكأنها تُبعدُ ذبابة، وهي تتمتم: «لا شأن لك»، توجهت للمطبخ وأخذت تقلب في البرّاد عن شيء تأكله، نظرت للبرّاد وأخذت بيضتين، وكيس الخبز، جهزت وجبة سريعة، جلست على الأريكة وبدأت بتناول شطيرة الخبز والبيض، و بدأت الدموع تتسابق على خديها، أكملت شطيرتها، ثم بدأت تضحك عندما أخبرها الرجل الجالس بجوارها أنها تبدو مضحكة وهي تبكي، تجاهلت وجوده، وذهبت إلى دورة المياه، نظرت مطولا إلى وجهها، أخذتها ذاكرتها إلى مكان ما بعيدا في أعماق ذكرياتها، الباحة الخلفية لمنزلهم القديم، طفلة تبكي وحيدة، لا تذكر بالتحديد ما كان يبكيها، لكنها كانت حزينة جدا، أيقظها صوت أحدهم يطرق الباب بقوة، خرجت مسرعة نحو الباب، سألت: من الطارق؟، لم يجب أحد؛ فكررت السؤال مرارا، ولم يجب أحد، فتحت الباب، ولم يكن هناك أحد، أغلقت الباب، عادت لتجلس على الأريكة، وأغمضت عينيها؛ شعرت بالأريكة تهتز، وجهت وجهها لاتجاه الاهتزاز وفتحت عينيها، رأت طفلة تقفز بجوارها.. تنهدت قائلة: «اخرجي من هنا». توقفت الطفلة عن القفز وتوجهت نحو باب القبو وفتحته، نزلت دون أن تنطق بكلمة، جلست بجوارها سيدة في الأربعين من عمرها، وقالت: «تبدين كعجوز في السبعين، انظري إلى وجهك يبدو مرعبا بكل تلك التعابير القاسية». لم تلتفت لها وأخذت تبرر قائلة: «أنا أخرج كل يوم، لو كنت أبدو كعجوز في السبعين لأدركت ذلك». استقامت والتفتت للسيدة، وأكملت قائلة: «اليوم مررت بعدة أشخاص، ولم يسألني أحد لماذا جَدّة بهذا العمر تتجول في الجامعة، لكان منظرا غريبا يستدعي السؤال». عادت لتغمض عينيها، وقالت: «سألت صديقتي اليوم، هل أبدو كعجوز؟ واحزري ماذا! لقد قالت تبدين في العشرين، لن أصدق كلامكِ بعد الآن، يمكنك الثرثرة في مكان آخر». وقفت السيدة بغضب وخرجت من غرفة الجلوس متوجهة إلى القبو، وأغلقت الباب بقوة، بدى الصوت وكأن السقف سينهار من شدة ارتطام الباب. ما إن ذهبت السيدة حتى قفزت إلى المرآة تتفقد وجهها باحثة عن التجاعيد، ولم تجدها، تنهدت وبدأت تبكي بصمت، «لا يجب أن يُسمع صوت البكاء»، كانت تؤمن بأن البكاء بصوت عالي لا يجلب إلا مزيدا من الحزن، أنهت بكاؤها سريعا، ليست من مُحبي البكاء، البكاء يجلب الصداع.

الساعة الرابعة والنصف صباحا، استيقظت من كابوس مرعب، نظرت للشاشة وفكرت: «يمكنني الصلاة في وقت الفجر، هذا جيد»، وبعد الساعة السادسة خرجت من الغرفة بنفس النمط يوميا، أصبحت روتينية جدا، وكأن نظاما ما تتبعه، وتخشى أنه إذا فقد يومها هذا التناسق البارد؛ فسوف ينهار عالمها المنضبط، وتخاف ألا تنجو. مضى يومها وهي تخوض نقاشا مع السيدة الأربعينية التي لا عمل لها سوى محاولة إعادة فكرة أن مايا عجوز سبعينية، ولكن دون جدوى فقد حَصّنتْ مايا عقلها تجاه هذه الفكرة. عادت مثقلة إلى سريرها، وهي تفكر: «لقد نجوت من الجحيم ليوم آخر، أتمنى ألا استيقظ غدا»، اغمضت عينيها ونامت.

الوقت يبدو وكأنه الساعة الخامسة عصرا، فتحت مايا عيونها بثقل، شعرت وكأنها تهتز، كأن الأرض تتحرك، قامت فَزِعة، نظرت من حولها، ليست في غرفتها، وجدت نفسها في مكان آخر. «هل هذا قطار؟».. تساءلت بصوت عالٍ مليء بالذهول والخوف في آن واحد، أكملت قائلة: «لا يمكن أن أكون نائمة في قطار متحرك، هذا مستحيل». خرجت من سريرها مسرعة، وألقت نظرة من النافذة، كان الضباب يغطي المكان على اتساع الأفق، حاولت الخروج، والبحث عَمّنْ يوقف القطار، لكن لم يكن هناك أحد، جلست في زاوية من زوايا القطار الحديدي البارد، لم تستطع النزول ولم تستطع تحمل رعب وبرودة المكان، هي تكره البشر، ولكن في تلك اللحظة تمنت وجود أحد، سمعتْ صوت صفير بنغمة منخفضة، ليس عالٍ، ولكنه مزعج جدا، ويبعث التوتر. شعرت ببرود يمتد من أطرافها، ويسري في عظامها، شعرت وكأنها تغرق، شهقت شهقة عميقة، وفتحت عيناها، حدقت مطولا للنافذة في سقف غرفتها، لا يمكنها التحرك، أخذت تحدق بالسماء قائلة: «وحدها السماء تجعلني أغفر للشتاء برده، ولياليه التي لا تكاد تنتهي». لَفَتَ نظرها وجود شخص يجلس بجوار رأسها، تكاد تجزم أنه لم يكن هناك قبل ثواني، حركت عينيها، جسدها أثقل من أن تتمكن من التحرك، كان رجل بشعر بني داكن وذقن متوسط، يبدو أنه في الخامسة والعشرين أو الثلاثين، وجه غير مألوف، فكرت في نفسها: «من هذا؟»، حدّقَ بها مطولا ثم قام، وغادر الغرفة دون أن ينطق بكلمة، ظلتْ تحدق بالسماء دون حركة، شعرت كأنها مصابة بالشلل، ولكن الشعور بالعجز دائم الوجود، لم يكن شعورا جديدا عليها، استسلمت له، لم يكن هناك ما تقاوم لأجله، فكرت في نفسها، كنوع من المواساة السوداوية: «ربما هذا الموت، الزائر الذي انتظرته دائما». سرعان ما مر الليل الطويل، وهي مُغْمضة العيون، فتحت مايا عيناها على ضوء الشمس المائل للزرقة، ابتسمت قائلة: «استيقظتْ حبيبتي»، وأكملت وعيونها بكامل اتساعها: «لن أمَلّ من شعور النشوة الغامرة للشروق». أخيرا استطاعت أن تتخلص مما كان يمنعها من الحركة، كأن جليدا كان يجمد ساقيها، والآن تحررت، ذهبت لتؤدي فروضها، ثم خرجت إلى غرفة الجلوس، نظرت إلى الأشخاص الجالسين في الغرفة، وواصلت طريقها إلى المطبخ، اقتربت إحداهن منها، وهمست: «هل تعتقدين أنك محبوبة؟ لن يحبك أحد، أنت لا تستحقين الحب»، تجاهلت مايا كلامها، ثم سمعت صوت رجل يخاطبها من مكان بعيد لا تستطيع تحديد مكانه، صوت جديد لا يعود لأي من أصوات الساكنين، فكرت في نفسها: «لا أزال في الحلم!». التفتت ولم تر أي شخص جديد، طلبت منهم الذهاب للقبو، ولكنهم لم يستمعوا إليها، توجهت نحو الرواق، كان يبدو أطول من المعتاد، قالت بسخرية: «أصبح الجو شبيها بالشتاء فعلا، آه كم أكره البرد»، قاطعها صوت فتاة جالسة بقرب الجدار، ويحيط بها زجاج مكسور، وملون.. «لا يبدو أنك تكرهين البرد كثيرا، أراك تجلسين مطولا على السطح خلال الشتاء مقارنة بالليالي الصيفية»؛ قالت الفتاة، التفتت مايا قائلة: «السماء تبدو أجمل في الشتاء، والشعور الذي يبعثه دفء الشمس بعد ليل بارد طويل كفيل بأن يجعلني أغفر للشتاء قسوته». لم تسأل مايا الفتاة عن اسمها أو عن الزجاج، هَمّت باستكمال مسيرتها، استوقفها صوت الفتاة قائلة: «س س س س  ساعديني»، شعرت مايا بضيقة، وكأنها تسمع صوتها وهي طفلة، التفتت نحو الفتاة لتراها ممسكة بقطع الزجاج ويديها الصغيرتين تنزف، ركضت مايا عائدة ولكن الرواق انطوى تحت قدميها لتجد نفسها وسط الزجاج حافية، وقدماها تنزفان، والفتاة لم تعد تستمع لها، لم تشعر بألم وهي تدوس على الزجاج، لقد كانت ترى شيئا من ذكرياتها في تلك القطع المكسورة، خُيّل إليها أنها تنظر إلى قلبها، جلست بوضعية القرفصاء، وأخذت تلتقط القطع، وجدت في الأولى ذكرى قديمة فيها وجه مشوش يخبرها أنها مجنونة، وأنها لا تستحق الاهتمام، ووجودها يجلب الخزي، وضعتها جانبا، والتقطت أخرى، وجدت فيها صورة طفلة تبكي وحيدة، وأخرى بها ذات تشبهها تبكي لأنها ليست كافية، عدد هائل من القطع المؤلمة، ولكنها أخذت تجمعها بصورة هستيرية، وتضمها نحوها، بينما القطع تجرج كفيها، وسواعدها، وصدرها، أخذت تلملمها وكأنها وجدت قطعا من الذهب، وهي تذرف الدموع دون صوت، ودون وجع، كأن قلبها هو الذي تَكسّر، ولم تعد تشعر بأي ألم، عاد الصوت الغريب مجددا قائلا: «ربما حان الوقت للتخلي».. جلست مستسلمة بين دماءها، وقالت: «كل ما أفعله خاطئ، لِمَ عليّ أن أحاول جاهدة إن لم تتقبلني هي أو يتقبلني أحد!، لماذا عليّ أن استمر وكأن لدي شيء أخسره، أو شيء أكسبه»، جالت عيناها في المكان، وأكملت: «لماذا لا يتوقف هذا القطار اللعين، لا أعرف وجهته حتى، ولا يهمني إلى أين يتجه، لماذا لا أملك الشجاعة لأقفز، الموت لا يخيفني، لا أعلم لماذا جسدي لا يتوقف، مثله كمثل هذا القطار اللعين لا يتوقف». توقفت عن البكاء، وصمتت، ثم وقفت بتثاقل وكأن روحها لم تعد موجودة، كان وجهها باهت، وعيناها خاويتان، جلست في إحىد زوايا الغرفة، وهي تشعر بأن رئتيها توقفت عن العمل، لا تستطيع التنفس، وكأنها تغرق بدون ماء، بدأت الأصوات تتلاشى، وبقي صوت واحد، «إنها تعاود ضرب نفسها، ليوقفها أحد»، رفعت رأسها قليلا، ورأت أن الغرفة قد تغيرت والأشخاص الموجودون في الغرفة يذهبون للقبو من تلقاء أنفسهم، ألتفتت إليها السيدة، وقالت: «لن نفارقك، سنظل هنا، وستظلين عديمة القيمة، ولن يتقبلك أحد»، وأغلقت تلك السيدة الباب. نظرت مايا للسقف، ثم التفتت نحو أصوات خطوات قادمة، رفعت رأسها بتثاقل لترى من القادم، وسمعت ذات الصوت الذي كان يحدثها في المطبخ، ولكن هذه المرة كلامه واضح، ويمكنها أن تسمعه: «هل ذهبوا؟ هل تمكنتِ من حبس الأصوات في قبو ذكرياتك؟»، وأكمل: «لقد انتصرتِ». أدركت مايا مكان تواجدها، وضمت نفسها بقوة وقالت: «لا أريد الاستيقاظ»، وهي تخدش ساقيها بقوة حتى بدأ الدم يسيل، حاولت الممرضة إيقافها، لكن الطبيب منعها، وطلب منها المغادرة، اختفت الأصوات تدريجيا، غفت مايا على الأرض الباردة، استيقظت اليوم التالي على ضوء الشمس، ابتسمت عندما شعرت بدفء الشمس على خدها، وهمست بصوتٍ مختنق من فرط البكاء: «حبيبتي»، لا تتذكر لِما كانت تبكي، ولا تريد التذكر، وقفت وتوجهت للمطبخ، وذات الأشخاص موجودين يتمتمون من كل زاوية، تستمع للسم الذي يتفوهون به، لكنها اختارت أن لا تستمع، مضى يومها بشكل جميل من الخارج، لا أحد يرى الجروح تحت الجلد والعظام، لا أحد يرى، وهذا يعجبها، كل شيء تحت السيطرة.

كل الأيام متشابهة، تمر بلا شغف، وبلا شعور، لا شيء سوى شعور الحزن القابع في أعماق الروح، يبدو أنه وروحها قد أصبحا أصدقاء قدامى، تذهب أشياء وتأتي مكانها أشياء، ولا يحرك أي من هذا شيئا في قلبها، «أنت قاسية القلب، وشريرة، ألا تحزنين أو تغضبين؟»، قالت احدى السيدات الموجودات، ردت مايا بهدوء: «هناك الكثير من الضمّادات، ما يكفي ليتخدر قلبي، ربما عندما نشفى سأكون أقل شرا».

مر يوم آخر من أيامها المتشابهة، مع مرور الأيام استمر صوت الرجل الغريب يزداد وضوحا، لا يمكنها رؤيته، ليس صوت أحد الساكنين المعتادين، حاولت مايا جاهدة تجاهل الأمر، استيقظت بعد عدة أيام على ضوء ساطع، وغير دافئ، «ليس ضوء الشمس».. فكرت مايا. «مايا هل تسمعينني؟» صوت ذات الرجل الغريب، حاولت أن تنظر لمصدر الصوت ولكن الضوء ساطع، وضعت كفيها على عينيها، وقالت: «من أنت؟ ابعد هذا الضوء المزعج»، وأكملت بغضب وهي تضرب بيدها طرف السرير: «أخرج من منزلي، أو عد إلى القبو اللعين». أمسكت يدها وهي تتألم، نظرت إلى يدها، رأت كدمة على معصمها، أعادت النظر إلى طرف السرير، لم يكن سريرا عاديا، كانت له حواجز من حديد، شبيها بأسرة المستشفى، بدأت حدة الإضاءة تنخفض، وبدأ مصدر الصوت يصبح أشد وضوحا، نظرت إليه وهي تفرك معصمها الذي ارتطم بحواف السرير الحديدية، كان رجلا يرتدي معطفا أبيض، وخلفه ممرضة، «من أنت؟ أين أنا؟»، قالت بصوت يملؤُه الخوف، «عد إلى القبو»، قالتها بصوت مرتجف، اقترب منها، وقال: «أن تدفني وتدفعي مشاعرك، وذكرياتك السيئة في قبو أمر جيد إلى حد ما، ولكن عليك الاستيقاظ ونسيان أمرهم، جميعهم عادوا للقبو، ولكنني لن أعود لأنني حقيقي، لست أحد أفكارك أو ذكرياتك الحزينة والمؤذية»، وأكمل قائلا: «ستكونين على ما يرام، لست بحاجة للتمسك بكل تلك الذكريات السيئة، ولست بحاجة لتختبئي في عقلك». نظرت إليه مايا بصدمة بالغة، وكأنه شخص مجنون لا يدرك ما يقوله، أسندت ظهرها، وقالت له: «سيدي أعرف أنك لا تعني شيئا سيئا، ولكن دعنا نوضح شيئا، أنت أخرجتني من بيتي عنوة، وكل كلمة تقولها لي منذ لقاءنا هذا يوحي بقصد واحد، وهو اتهامي بالجنون»، وأكملت بصوت يملأه التساؤل: «كيف أخرجتني من بيتي، وكيف استطعت الدخول إلى بيتي في المقام الأول؟». تنهد ونظر إليها، وقال: «أنت هنا في المستشفى منذ ثمانية أشهر، البيت الذي تتحدثين عنه ليس موجودا»، وأكمل «أنا سعيد أنك تشعرين بالألم إثْرَ اصطدام معصمك بالسرير، إنه يعني أنك مستيقظة، وتدركين ما حولك، وكونك استطعت أخيرا رؤيتي ورؤية غرفة المستشفى يعني أنك تستجيبين للعلاج». «لست مجنونة».. صرخت مايا بغضب، أجابها «أعلم، ولكنك مررتِ بوقت عصيب، وأعلم أنك مكسورة ولا يمكنك بناء مشاعرك إن كان أساسها محطم من قِبَل من يفترض بهم بناءها. «هل عائلتي تعلم أني هنا؟»، سألت بصوت خافت، «نعم، وعليك تصحيح الأمر معهم» أجابها الطبيب. «أنتَ لا تفهم» قاطعته مايا، «اجعليني أفهم إذا» قال الطبيب، ردت بصوت مرتجف: «كل ما حدث جعلني أفقد حبي لذاتي، أريد أن يغفو هذا الشعور للأبد، لا بأس أنْ أشعر أنّ مرساتي غرقت، وروحي تتخبط بين الصخور والأمواج، إنه مؤلم، ولكني لا أريد أن أصحو أخشى أن يكون الشعور لا يحتمل، لا أريد أن استيقظ، لن أجد من يمد يده ويخبرني أن كل شيء سيكون بخير، ولن يقول أحدهم أنه يحبني، وأني أستحق ولو بعض الحب، أخشى أن أترك مركبي هذا، ولا أجد من يأخذ بيدي، وألا أجد مركبا آخر، أخشى أن أغرق وأخسر ما تبقى مني. لا أعلم حجم الخسارة التي كانوا سيتكبدونها لو غفروا، لو أخذ أحدهم بيدي قبل أن أضيع. قد أبدو عالقة بين صخور هذا الجرف ولكني أوثَقْت قاربي دون مرساتي، أرسيت ذاتي رغم انكسار مجدافي، لا تقتلني بوعودٍ كاذبة، أرجوك دعني وحزني، لن يصلح الاعتذار ما كُسر، لن يبني الثقة ولن يمسح الأخطاء التي ارتكبت. لا أريد الاستيقاظ». استلقت، «مايا، مايا!».. حاول الطبيب إيقاظها لكن دون جدوى. كانت تحدق في سقف الغرفة بعنين فارغتين وتتنفس بانتظام.

«لطالما كانت طفلة مجنونة، وغريبة أطوار، وسيئة الحكم»، صوت سيدة تتحدث من خلف الطبيب، ألتفت الطبيب إليها، وقال: «أنت أمها، ألا يفترض أن تحاولي مساعدتها!»، قالت: «هناك أشخاص رائعون تُوفُّوا، وأشخاص حمقى ينامون بكسل في مستشفى المجانين، يا لها من خسارة». خرجت مبتعدة وهي تقول: «لابد أن لله حكمة». «أنت أم سيئة» رفع الطبيب صوته بقوة، التفتتْ إليه: «ما ذنبي أنا إن فَقدتْ عقلها؟». «ألم يكن يفترض بكم أن تحبوا طفلتكم؟ أن تبنوا شخصيتها، وتحموا قلبها؟»، نظر إليها وأكمل: «العائلة يمكن أن تصنع عبقريا، أو شخصا يستلقي في مَشْفى المجانين، أو مجرم، أو بطل». خرجت الأم تضحك قائلة: «لا بد أن الجنون مُعْدي هنا، يُفضَّل أن أخرج قبل أن أفقد عقلي».

استيقظت مايا1 في سريرها، «الحمد لله كابوس ليس إلا». خرجت لتجد الطفلة ترسم في الرواق، ضحكت وقالت بصوت ساخر ومطمئن: «لقد رأيت حلما غريبا».

*****

[1] مايا: هي المفهوم المركزي للوهم والحقيقة المخفية في الفلسفة الهندية. إنها تفسر كيف أن الواقع المادي هو في الحقيقة وهم، وكيف أن التغلب على هذا الوهم هو المفتاح لتحقيق السعادة والتنوير.

مريم سعيد: كاتبة عُمانية

خاص قنّاص – جسد السرد

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى