يكتب محمد بيجو عن الهجرة والاغتراب إلى النجاة / الموت عبر البحار
***
هل من ذكريات أقل ألماً في ذاكرتك أيها الغريب؟
لماذا لا تستطيع أن تتحدّث دون بكاء؟
ـ نظرتُ إلى الوراء بعد خطوات، رأيت المكان يتبعني في ذهول ويتبع بشراً يشبهونني في التعب والألم، .. قلبي الآن هناك يحترق أمام البيت.
لم نمهل المكان وقتاً ليرسم جراحه وشماً على أيادينا، بنينا له بيتاً من الأغاني والمواويل القديمة على أكتافنا ومضينا مسرعين، فبكى المكان بكل تفاصيله ولوّح بستائر النوافذ وظلال الأبواب المفتوحة أمام انكسارنا وسقوطنا، تركناه يموت وحيداً إلى مدى لا حدود له، لنضعه بين الأسماء الجميلة والخبز والماء، ونعبر الغابات بثقل أكثر.
تجاوزتُ الحدود والطلقات ترسم نجوماً من غبار ودخان ودم.
– وصلتُ متأخراً.. يقولها الغريب تاركاً نجمتين تلازمان عينيه أينما مضى، نجمتان تكبران يوماً بعد يوم.
.. يبدو أنك مهما حاولت أن تترك المكان فهو لا يتركك، تكون في أوجّ حديثك مع نهر أو غابة أو بحيرة، فيأتي إليك مكانك البعيد طيفاً، ربما قرية في منطقة نائية ليس فيها ماء أو أشجار، يجعلك تتوضأ أكثر من ألف مرة لتسجد لحضوره الجميل ولا تتعب.
حنين عظيم يلفّ الجهات بعطر البيت القديم ويأخذ الروح منّي إليه الآن.
ربما كان عليّ أن لا أغادر المكان، أو كان عليّ أن أموت فيه.
مات من مات في الماء، وغطت الثلوج العيون المفتوحة على الأمل، حيث لا شيء غير القدر، وحده يعرف من منا يجب أن يموت وأين.
تاهت المراكب أو تأخرت في الوصول أو احترقت سريعا أو هي الآن تبكي على شاطئ جزيرة بعيدة مثل الحياة وحولها حبال نجاة.
هذا البحر ليس له قلب، هو يخون الغرباء… كيف نرسم ابتسامة دون حزن؟
يَقُولُ الغَريقُ الصَّغِيرُ:
كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ البَحْرَ سَمَاء بِلَا نُجُومٍ وَبِلَا شَمْسٍ، لكنّ الهواء ثقيلٌ للغاية..ِ وَأَنا لا أَسْتَطيعُ أَنْ أغني كما ينبغي.. رِئَتيْ سماء مليئة بالأمواج .. قلبي الشمسُ وصوتي نجوم.
نظرتكِ الأخيرة أخبرتني بأنها الأخيرة، وأخبرني المكان بأنني لن أعود ولن أصل، نظرتك الأخيرة هي الأخيرة في المكان، والمراكب الحزينة والخوف والقلق والألم والحنين والحب والغربة… كل ذلك في نظرة واحدة من عينيكِ الجميلتين.
