شهدت العاصمة السعودية الرياض بداية الشهر الجاري، أياماً حافلة بالثقافة جمعت الكتّاب بصنّاع النشر وجمهور القراء، فقد اختتمت أعمال الدورة الثانية من مؤتمر الناشرين الذي أُقيم قبل يومين من افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب 2022 الذي استمر حتى الثامن من الشهر الجاري، وقد حظي مؤتمر الناشرين بمشاركة الخبراء المتخصصين في صناعة الكتاب، محلياً وعربياً وعالمياً، ليناقشوا في ثماني جلسات وخمس ورش، تحديات صناعة النشر وكيفية استغلال الثورة الرقمية ثقافياً، لاسيما في ظل الإقبال المتزايد على الكتب الإلكترونية والصوتية، كما استطلع المؤتمر الآفاق المستقبلية لصناعة الكتاب من خلال تبادل الخبرات الاحترافية ونقل التجارب الناجحة لدور النشر الناشئة، وآلية بيع وتداول حقوق الملكية الفكرية.
وعلى مدار عشرة ايام، كان معرض الرياض الدولي للكتاب 2022 قد استقطب مشاركة ألف ومئتي ناشر من اثنتين وثلاثين دولة، كما أحييت على مسارحه تسع حفلات موسيقية، وستة عروض مسرحية، وعشرون عرضاً للطهي، وخمسة وخمسون نشاطاً للطفل.
وأقيمت على شرف معرض كتاب الرياض لهذا العام إحدى وسبعون ندوة ثقافية، وسبع أمسيات شعرية، وعشرة أنشطة بعنوان (حديث الكتاب) وهو حديث مع أحد الكتاب حول تجاربه الكتابية وخبراته العلمية والفكرية والمعرفية، ومن تلك الأسماء الروائية جوخة الحارثي والدكتور خالد المالك والروائية سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة على جائزة نوبل في الأدب، والشاعر البحريني قاسم حداد.
وكانت هيئة الأدب والنشر والترجمة بالتعاون مع جمعية النشر السعودية، قد نظمت الدورة الثانية من مؤتمر الناشرين في إطار جهودها لتقديم أرقى الممارسات في صناعة نشر الكتب وطباعتها وترجمتها وتسويقها، وتعزيز جاذبيتها للكاتب والمستثمر ودور النشر، وقد بدأ اليوم الأول من المؤتمر بجلسة حول “مراحل صناعة نشر الكتب عالمياً”، وقد قدم رئيس جمعية الناشرين السعوديين، الأستاذ عبدالكريم العقيل، ورقتها الرئيسة، مشيراً إلى دور المملكة ـ التي تضم ثلاثمئة دار نشر وأكثر من ألف كاتب مستقل ـ في طباعة ونشر وتسويق الكتب، حيث تشكّل الكتب السعودية ما نسبته سبعة من كل عشرة كتب هي الأكثر مبيعاً في المملكة، وفي جلسة “ازدهار سوق الكتب الصوتية: التوجهات الراهنة”، لفتت المديرة التنفيذية لجمعية ناشري الصوت، ميشيل شوب، النظر إلى نضوج سوق الكتب الصوتية وفرصها النامية في ظل التحولات الرقمية لقطاع التعليم، كما تحدثت عن نمو انتشار الكتب الصوتية منذ عام 2019، وما شهدته من تطوّر حتى اليوم، فيما أشار رئيس ستورتيل ـ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سيباستيان بوند، إلى أن تجويد إنتاج هذا النوع من الكتب يتطلب تعاوناً وثيقاً بين ناشري الكتب الورقية والصوتية، حتى يُتَاح تقديم كتب صوتية ذات محتوى عميق.
وجاءت الجلسة الثالثة بعنوان “مستقبل الحكاية: حيث يلتقي الخيال والابتكار”، وخلالها استعرض المحرر العالمي في بابلشرز ويكلي بأمريكا، إد ناوتكا، تجربته في التحرير، فيما ركزت الجلسة الرابعة وعنوانها “قدرات الكتاب على تجاوز حدود اللغة والثقافة”، على جغرافية الكتابة وفنية الكاتب في السفر بالنص خارج حدود اللغة التي يكتب بها والثقافة التي ينحدر منها، وأكد عضو اتحاد المترجمين العرب وعضواتحاد الكتّاب اللبنانيين، الدكتور جان جبور، على أهمية الترجمة ودورها الملموس في النهضة الثقافية والمعرفية للمجتمعات.
جلسات أخرى ناقشت “توظيف الإمكانات غير المستغَلة في صناعة الكتاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، ولفتت إلى القدرات الكامنة عند دور النشر في إيجاد حلول للتحديات في هذا القطاع، واستعراض فرص الدعم الممكنة لصناعة الكتاب و”كيفية تطوير نظام نشر فعال مرتكز على البيانات”، حيث صرح الناشر ومدير تطوير العملاء في شركة “إن بي دي بوكسكان”، كيمبتون موني بأن شركته قد كانت تجمَع البيانات أسبوعياً على مدار سنوات لتستوضح ما يُباع ويُشترى، فتوصّلت إلى أن كتب الأطفال والخيال هي المسيطِرة على مبيعات الكتب، وأكّد موني أن “أكثر ما يهمّ المسوقين عند دراسة السوق وتحدياتها هو البيانات المرتبطة بالمبيعات، لأن العمل بلا بيانات مثل العمل بلا وجهة واضحة”.
يذكر أنه على هامش المؤتمر أقيمت مجموعة من الورش الأدبية المعرفية حول دور المحرر الأدبي، وقطاع النشر الذاتي وكيفية تطويره مع تحقيق استقلالية الحقوق الإبداعية عند المؤلفين من أجل تعزيز استدامة صناعة النشر، فيما اشتمل اليوم الثاني للمؤتمر على ثلاث ورش عن وظيفة الوكيل الأدبي، والتي شهدت حضوراً لافتاً، إلى جانب ورشة تشجيع محترفي صناعة الكتاب السعوديين، بالإضافة إلى ورشة تمثّلت في مقابلة مع أحد الكتّاب العالميين، يدعى توم هدسن الذي أشار إلى أنه في طور تأليف كتاب عن المملكة العربية السعودية حالياً، بعنوان “Key to the Kingdom”، مشيراً إلى أنه تحفّز لتأليف هذا الكتاب بعد أن أطّلع على التطور الملحوظ الذي شهدته السعودية السنوات الأخيرة.
اتخذت فعاليات برنامج معرض الرياض الدولي للكتاب هذا العام 2022 عنوان “فصول الثقافة” شعاراً لها وفاتحة لندواتها التي كانت بدايتها ندوة استعرضت تقريراً عن الحالة الثقافية في السعودية عام 2021، بعنوان “الثقافة في الفضاء العام”، وفي ندوة حوارية بعنوان “حمد الجاسر: كما عرفه أبناؤه وبناته”، الذي يعدّ أحد أبرز المؤرخين ورواد الأدب والثقافة بالمملكة، حاور الدكتور حمد القاضي، أبناء الشيخ الراحل حول شخصيته. وفي ندوة جائزة الملك فيصل “الشغف بسحر العربية: الاستشراق الفرنسي ورحلة الاكتشاف”، تناول المحاضرون دور الاستشراق الفرنسي في الدراسات العربية وتأتي هذه الندوة تزامناً مع احتفاء منظمي جائزة مؤسسة الملك فيصل باكتمال مشروع “مئة كتاب وكتاب” الذي يصدر بالتعاون مع المعهد العربي في باريس.
وكان للرواية عدة ندوات في برنامج المعرض، أبرزها ندوة حول “تسلط المكان في الرواية العربية: كيف يؤثر المكان على حرية الكاتب في كتابته، والقارئ في تلقيه؟”، وتأثير المكان على الكاتب والقارئ معاً، فيما ناقش ضيوف ندوة “سيادة الرواية”، أسباب تسيّدها على بقية الأجناس الأدبية والمقومات التي جعلتها تنال تلك المكانة، وفي ندوة “رواية اليافعين” اتفق المشاركون على أن هذا النوع من الأدب لم يحظ حتى الآن بالمكانة المرموقة في واقع الأدب السعودي.
كما نال موضوع توظيف التراث والعمل على استدامته، نصيباً وافراً من الندوات التي تناولت التراث من نواح متنوعة، مثل ندوة “توظيف التراث في تسويق المكان”، والتي تستمد أهمية التراث كونه انعكاساً للإنسان على الأرض عبر الزمن، ندوة أخرى بعنوان “السعودية على خريطة التراث العالمي”، تحدث المشاركون فيها عن إمكانيات المملكة ومقوماتها ومستقبل ريادتها في مجال حفظ التراث، وندوة “الأرشيف المصور وحفظ التاريخ” وأقيمت ندوة حوارية بعنوان “الحرف التراثية بوصفها استثماراً تجارياً”.
وكانت هيئة الأدب والنشر والترجمة قد حرصت على أن تجعل المعرض مواكباً للتكنولوجيا الحديثة، فأطلقت تطبيقاً مجانياً للهواتف الذكية يسمح لزوار المعرض بالاتصال مع المعرض من خلال الخدمات التقنية التي تجعل رحلتهم داخل المعرض تجربة ممتعة وفريدة، كما عملت الهيئة على تنظيم برنامج النشر الرقمي، وخصصت جناحاً لدعم وتشجيع النشر الرقمي للكتب بمسارات متعددة من أجل تعزيز زيادة وصول الكتّاب إلى القراء؛ مثل مسار “رقمنة الكتب” ومسار “سحابة أدب”.
وأولت هيئة الأدب والنشر والترجمة المسرح اهتماماً كبيراُ من خلال ندوات مثل ندوة “قراءات في أعمال المسرحي السعودي محمد العثيم”، التي شارك فيها الكاتب المسرحي نايف البقمي والمخرجين المسرحيين سمعان العاني وفطيس بقنه، وهناك ندوة عن “تأثير المسرح العربي على المسرح السعودي”، التي تتحدث عن تاريخ المسرح في السعودية منذ بدايات تأثره بالمسرح العربي إلى أن أصبحت له تجربته الفريدة الخاصة به، وشهد المسرح الأزرق بجامعة الأميرة نورة عرضاً استمر عدة ليالٍ لمسرحية “هما” التي كتبها الدكتور الراحل غازي القصيبي.
فيما لم يحظ الفن التشكيلي إلا بندوة عن “توجهات معاصرة في الفن التشكيلي”.
تميّز معرض كتاب الرياض هذا العام بالالتفات إلى الإعلام من خلال ندوات “في زمن الإعلام المفتوح: كيف نحافظ على المثل والقيم الأخلاقية؟”، وندوة “دور الإعلام الجديد في تسويق الثقافة الخليجية”، وندوة “الواقع الجديد لوسائل التواصل الاجتماعي: هل انفلت الزمام؟”، وهناك أكثر من ندوة عن “الصحافة الثقافية: هل هي قائدة للمشهد الثقافي أم تابعة لها؟”، استقطبت مجموعة من الصحفيين البارزين، للحوار حول التجاذبات ما بين الصحافة والثقافة ومدى تأثيرها على المشهد الثقافي.
ولقد شهد جناح الطفل أنشطة متنوعة هدفها إشباع حواس الطفل وتعزيز صحته الجسدية والنفسية وزيادة وعيه الذاتي ورفاهيته الترويحية في عصرالرقمنة. فيما لقيت ندوات عن المرأة إقبالاً جاداً، وكان أبرز موضوعاتها ندوة “تجربة المرأة السعودية في التمثيل”، وندوة “المرأة وهي تكتب روايات الجريمة”.
أما أبرز الندوات في مجال السينما فكانت ندوة “مستقبل الفيلم السعودي”، وندوة “الصناعة السينمائية الخليجية: بين الممكن والصعب والمستحيل”، وهناك ندوة عن فيلم “الفيل الأزرق”، حيث تحولت رواية الكاتب المصري أحمد مراد إلى فيلم ناجح تحت نفس الاسم، وخلال الندوة تحدث أبطال الفيلم ومؤلفه ومخرجه عن مراحل التحول من الورق إلى الشاشة، وآخر ندوة كانت حول فيلم “وُلِدَ ملكاً”، التي تحدث فيها طاقم الفيلم عن رحلة الملك فيصل بن آل سعود وهو في السادسة عشرة من عمره إلى بريطانيا ومفارقات تلك الرحلة التي سلط الضوء عليها عالمياً فيما لم يوثقها المؤرخون العرب.
من جهة أخرى فقد جاءت مشاركات الجمهورية التونسية ضيف شرف معرض كتاب الرياض لهذا العام ثرية قدمها نخبة من الأدباء والفنانين التونسيين الذين أحيوا مسارح المعرض بالفعاليات الفكرية والفنية الموسيقية والغنائية والمسرحية والشعرية. وحضر جمهور المعرض بكثافة الأمسيات الشعرية والحفلات الغنائية والموسيقية، حيث ألقى الشعراء قصائدهم الجديدة، ومن أبرز الحفلات الغنائية؛ حفلة الفنان التونسي زياد غرسة وصابر الرباعي ولطيفة وألفة بن رمضان، بالإضافة لحفلةٍ خاصّة بالموشحات الأندلسية.