مساراتمقالات

ملامح في الشعر العربي: نجيب سرور.. والناعي | د. إسماعيل السالمي

إسماعيل السالمي وملامح في الشعر العربي

تنشر مجلة قنّاص هذا المقال بالاتفاق مع المؤلف، وهو جزء من سلسلة مقالات ننشرها تباعاً، والتي جاءت ضمن كتاب «ملامح في الشعر العربي»، لمؤلفه د. إسماعيل بن حمد السالمي، الصادر في مسقط ١٩٨٩؛ طبعة خاصة ومحدودة.

المقال الثالث من هذه السلسلة؛ يذهب بنا إلى حوارية مع نجيب سرور في قصيدته «حوار مع ناظم حكمت» من ديوان «لزوم ما يلزم»، الصادر عن مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية، ١٩٨٥:

نجيب سرور… الشاعرُ الثائر، الشاعرُ الرافضُ جميعَ ألوان الهوان، الرافضُ المذلَّةَ، الغريبُ في ذاته، والمحبوب بين أقرانه.

شعرُهُ ينسابُ، ويرتفعُ قي أعماق الإنسان ليثور بها على الوجود… الفيلسوفُ الشاعر، تَشرَّب بأبي العلاء، وامتزج معه قلباً وقالبا.

ثائرٌ على مُجتمعِه، على الظلم، ولا بُدَّ أن يُتَّهم بالجنون، ليقضي ثلث عمره في المصحّات العقلية! لكنه جنونُ شاعر يقولُ ما يُريد قولَه، ويحلم بخلقِ كلامٍ جديد لمْ يُقل…  

ولِمَ لا؟ لا بُدّ للشاعر أن يتكلّم، لا بُد من أن يخلقَ مُجتمعاً جديداً، من أن يثورَ على ما لا يلزم؛

 

ar-ar.facebook.com

وحين تتوقف الكلمات، قد يحسد من استخدمها قبله، أوَ لمْ يقل الكاتب خع خبر رع سنب: “ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس، وعباراتٍ وأقوالا”[1].

إنها الكلمات الثائرة… إنه نجيب سرور، الذي رأى العالم بعين الناعي؛ القتلُ اليومي، الموت اللحظي. لِمَ لا يكون العالَمُ سفينة سلام ومحبة ورخاء، لِم لا تكون الحياة الدائمة… والخلود، كيف هو الخلود؟!

هل هو الصمت الأبدي، أم هو الكلام الأولي؟

إنّ على العالَم أن يثور معا، أن يمنع الظلم والقتل، أن يمنع الصمت الدائم، ولْتُردد الكلمات مهما استُخدمَت.. ففي استعمالها حداثة، وفي تلاوتها ديمومة…

goodreads.com/book/show/6081962

يستهل نجيب سرور قصيدته «حوار مع ناظم حكمت» بعنوان فرعي للمقطع الأول: الناعي؛ حيث يلزم من الناعي أن يأتي لينقُلَ لك الخبرَ المُحزن، وكيف يكون الصمت الدائم! ربّما:

«صمتاً صمتاً يا أشجار!

صمتاً صمتاً يا أطيار!

صمتاً يا موجَ البحرِ ويا أنهار!

صمتاً شعراءُ ويا أشعار!

صمتاً يا كل الأنغام الحلوة في كُل الأوتار!

فقد صَمتَ القلبُ الشاعر. كفَّ

عنِ النبضِ القيثار،

ناظمُ نام»

إنه الناعي الذي ينقلُ خبر رحيل ناظم حكمت[2]… وبروح ساحرة تنتقل الكلمات لتهمس في أذن الأشجار والبحار والشعر والشعراء بالصمت:

«نمْ يا صديقي..

من حقِّ قلبك أن ينام..

فطالما حرموهُ أن يغفو وهو القلبُ الرقيق،

كانوا هنالك شاهري الأنياب والأظفارِ

في كُل مُنعطفٍ على طولِ الطريق..

نَمْ يا صديقي»

الشعورُ بالظلم الذي يحيط بالحياة، الإنسان المستضعف، الصادق، وهنالك أولي الأنياب والأظفار من يقفون في كل زاوية، إنهم كلابُ الحراسة… وَيْحكِ تركيا!

«نَمْ يا صديقي..

من حق قلبك أن ينامَ فكمْ أقَضّوا مضجِعَه..

كمْ خنجرٍ غرسوهُ ما بين الشفاف فأوجعه..

يا ويحها “إستانبول” في ليلِ الخناجر..

(شدوا على المجداف أيديكم أماماً يا رفاق)

والبحرُ يهدر والزبد..

يغلي على الأمواج والمجدافُ يضربُ والرياح..

تعوي.. ويغرس خنجر.. يا كَم يطيقُ..

القلبُ من طعن الخناجر.. كم يطيق».

واللقاء هو ذاته يتجدد مرة أخرى في مدريد ليستقرئ التاريخ، والدعوة إلى النوم، السكينة والراحة.. الخنجر المغموس دائماً.. ولطالما صلبوه وفقأوا عينيه.. طالما عذبوه.. هو الإنسان الباحثُ عن الحياة.. ناظم.. وغرناطة غارسيا لوركا تُجدد الرؤية ذاتها:

«نَم يا صديق..

مِن حقِّ قلبك أن ينام..

فطالما صلبوهُ في مدريدَ في غرناطة الثكلى..

أيُغمضُ طائرٌ عينيه حتى تُعلق أطيار في بدء الربيع..

على المشانق..

نَمْ يا صديق..»

راعي الغنم.. وبلُغة بسيطة ينتقل نجيب ليُحادثه، يتحوّلُ النَعْي إلى أغنية، أغنية الراعي لعُنيزاته.. لا بُدّ أن يُلقي التحية إلى ذلك النائم النومة الخالدة.. يجب أن يشترك.. إنها الرؤية التي يراها في اتّحاد الشعوب من أجل عزّة الإنسان، وينادي إليه من وسط الأدغال، إلى الراعي:

«إيه (ترانتا) كيف عنزاتُك. كيف الحالُ في إفريقية..

غنّي لُحون النصر للقلب الذي غنّى..

لنصركَ منذ أن كانت برجليكَ القيود..

غني لناظمَ بالخلود..

اليوم دورُكَ يا ترانتا.. دورنا..

فلمن تُغني يا ترى..

إن لمْ تكُن ألحانُنا تُهدى لمن غنى لنا

نَمْ يا صديق»

نجيب سرور في قصيدته يستدعي المسرح الشعري، الحوار، الكلمة الملقاة من شخص إلى آخرَ…

لذلك لم يستطع أن ينسى نفسه، وأن يبتعد عن ناظم الصامت، لابد من الوصول إليه شخصياً.. (أنا نجيب) ــ ليُحادثه.. ليكتشف معه العالم.. شعوب مضطهدة.. وأنفاس تُكتم.. وأرواح تصعد:

«في آسيه..

وبقلبِ أوروبا وفي أفريقيه..

حتى بكوبا ما عداها تركيه..

لم تزل والليل آلاف الخناجر»

ثم تبتسم… لأن عقارب الساعة لا تتوقف.. وسيأتي الغد، لا محالة.. هل تتصور وقوف الزمن لحظة! وإن وقف لجَزعْت:

«الشمسُ ما زالت تدورُ..

والأرضُ والعجلات والآلات.. ما زالت تدور..

لو أنّ شيئاً قد وقف..

لجزعت من أجل الحياة..»

هكذا الأحزان تنتقلُ به.. فيعبّرُ عنها.. عن حالة الإنسان المنفي بين جنباته، وبين أهله وفي مجتمعه، الحزن الداهم.. ولكن لا بد من التفاؤل.. حتى في عصرِ السماسرة.. رغم أن ناظم لا يعرف السوق.. ولا يعرفه من يجيد السمسرة.

هكذا يلتقي نجيب بناظم في حوار بين حزن وقتل وتفائل، يسأل عن كل شيء في أرضه.. تائه يجزع من الكلام لحبه، لوطنه، وأهله. المنفى صعب، والانقسام بين الذات والبحث عن ذاتها الأخرى أصعب.. أن يترك هويته.. ويبحث عن هوية أخرى في موسكو، في أوروبا، ذلك لا يمكن أن يكون.. ويسودُ الجبن ــ في تعبيره ــ يُسودُ الجبن لأن:

«لا بلْ جَبُنتُ لأنني أهوى الحياة،

ولأنّ لي طفلاً وزوجة،

ولأنني أخشى تراب الآخرين».

صوراً شتى يرسلُها للبحث عن إجابة لها، الجوع.. المرض.. المنفى.. الذات.. الموت المجاني.. البحثُ عن أصل في الشرق أم في الغرب.. ولكنه يخشى تراب الآخرين.. ولكن له وطن، وله أهل.

والفتى لا بدّ أن يرجع.. ولا بدّ للفتاة أن تلتقي بفتى أحلامها.. لا بد له أن يرجع إلى وطنه.. وأن يترك منفاه حتى وإن عاش في وطنه غريبا.. فلا بد أن يقطع الصحاري لاهثاً ليتمدّد على سرير الوطن الدافئ.. وما أحلى اللقاء:

«ما أحلى اللقاء

فالقحط إن طال الفراق

والجدب إن طال الفراق

والموت والظلمات إن طال الفراق

فليعزف الكروان أحلى ما لديه من النغم

لحناً لأوفى عاشقين».

لا داعي للنوم في شتات الأرض.. وتلك العبارة التي ساقها «نم يا صديق»؛ إنها التهويدة، أغنية النوم، نوم هادئ وحالم، نوم استحقه.. ولا يمكن أن ينهد عليه قبره.. كما جاء في الشعر/المثل الشعبي مُقتَبساً في حواريته مع ناظم حكمت:

«لأنني أخشى تراب الآخرين..

أخشى البقر..

“ودا قَبْر مِنِ اللي البَقرْ هَدّهْ … قَبْر الغريبْ اللي هَجَرْ أرْضُهْ”».

بذا تتجلي الثورة والعناد في شعر نجيب سرور.. البقاء من أجل الأرض.. والخلود للإنسان الرافض أيّ ضيم.. الصامد المتفائل رغم ما يشتمل عليه شعره من تشاؤم فلسفي.

الهوامش

  1. نص مصري قديم للكاتب خع خبر رع سنب ــ يرجع عهده إلى 2181-2055 ق.م.
  2. ناظم حكمت: من أكبر شعراء تركيا ــ عاش كثيرا من حياته في السجون، حتى مات سنة 1963م.

***

#إسماعيل السالمي وملامح من الشعر العربي

إسماعيل بن حمد السالمي؛ شاعر عُماني، دكتوراه في الآداب والفنون المتوسطية. مارس تدريس اللغة العربية لأكثر من عقدين. صدر له: جمعوه وناس آخرين؛ مجموعة قصصية، عبر متاهات الصحراء؛ مجموعة شعرية، خطب إسماعيل؛ شعر. وفي الدراسات والبحوث: جمع وإعداد ديوان كعب بن معدان الأشقري، جمع وإعداد شعر السميسر الأسبيري، جمع وتحقيق أشعار الكافي أبزون، جمع وتحقيق أشعار أبي حميد السالمي، المذكرة في الأدب العُماني، النخلة في الأدب العماني والعربي، بخور من حانوت عطّار، وغيرها…

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى