لعل التكنيك الفني الذي تتبعه ميسون صقر في روايتها “في فمي لؤلؤة” (الدار المصرية اللبنانية) بجعل فصولها المتتالية مجموعة من “المغاصات” (أمكنة الغوص لصيد المحار)، هو مدخل استعاري ملائم، يمكن للمتلقي استخدامه للإطلال على تجربتها الزاخمة كلها، ومجمل حصادها بعد رحلة طويلة عملت خلالها على اقتناص اللؤلؤ النقي وبلوغ الجوهر، كشاعرة وروائية وتشكيلية وكاتبة بارزة في المشهد الإبداعي في الإمارات والخليج والعالم العربي.
في دواوينها «جريان في مادة الجسد»، «تشكيل الأذى»، «رجل مجنون لا يحبني»، «أرملة قاطع طريق»، «جمالي في الصور»، وغيرها من الأعمال التي تضمنتها مختاراتها الشعرية «رغوة القلب الفائضة»، تنأى ميسون صقر بقصيدتها دائمًا عن الزوائد والحشو والشوائب، والانعكاسات الفضفاضة المراوغة، والتزين بالحليّ الاصطناعية، مكتفية بالحقيقي الذي يمكث، والشعرية الموجودة بذاتها، إيمانًا بأن قصد المعنى هو الإتيان بماهيته، وإدراك الحالة هو تخليقها كما هي لدى المتلقي، لا التعبير عنها من الخارج بوسيط لغوي محدود الطاقة «القتلى يساقون إلى المدافن/ يعودون إلينا في الصباح الجديد/ نعلقهم وردة صغيرة في فمنا، ونغني».
«ثمة امرأة تعوي من الألم/ ثمة خوفٌ في قلبها/ ثمة جوارحُ تنزف في الطريق/ في الأسفل ثمة رجالٌ محمومون/ ونساءٌ محمومات/ وأطفالٌ دون الصخب يترجمون أجسادهم صراخًا/ ثمة شوارعُ وإسفلتٌ/وينابيع دماء تتفجر بعروق الطرقات/ ثمة من يقول إن وطنا تحرّر من مأزق»
تحفر الشاعرة قصائدها المتعمقة من أجل إقامة متجذرة، لا تكون سوى في القلب الذي يبادلها النبضة بنبضة «يدي تنفلت منها مزامير وأفئدة». وتختصر البلاد والتاريخ، في الكلمة المشحونة بالصلصال الإنساني الخام، والطبيعة البكر، فالروح لا تزال في محبتها، والفيض الشعري هو نفخٌ في الأرواح لجلوها، وتحريرها من جمودها وصدئها وتلوثها، وهو أيضًا نسفٌ للوجود الظاهري الكائن، المغترّ بماديته الجوفاء، وإعلانٌ عن وجود آخر موازٍ، يليق بالبشرية في صورتها الأولى «كملاكٍ أبيض السريرة/ كملاكٍ صغيرٍ ضالّ في البرية/ أتحرق لمعنى لا تتعقبه الشرور/ ألمس الأشياء/ أسكن الأماكن/ أستنشقها كعبارة عميقة/ منها تتكون غريزة البقاء والشهوات/ ولا تتوقف عند خلق الإنسان».
نجد في قصائد ميسون صقر دائمًا فعل تمرد وثورية، وتجرؤ على الثوابت البالية، بتمظهراتها الجمالية والتصويرية، وبتمثلاتها الاجتماعية والسياسية والسلطوية والأبوية. تنحاز الشاعرة إلى صوت الضمير الفردي والجمعي والوطني، المتفجر بالدم والدموع، المتطلع إلى الانفلات وكسر القيود، وإزالة الأطر والحدود والقشور، التي تحجب رؤية ما وراء الأسطح، وتؤجل بزوغ الشمس التي تنير الطريق «ثمة امرأة تعوي من الألم/ ثمة خوفٌ في قلبها/ ثمة جوارحُ تنزف في الطريق/ في الأسفل ثمة رجالٌ محمومون/ ونساءٌ محمومات/ وأطفالٌ دون الصخب يترجمون أجسادهم صراخًا/ ثمة شوارعُ وإسفلتٌ/وينابيع دماء تتفجر بعروق الطرقات/ ثمة من يقول إن وطنا تحرّر من مأزق».
ولأن الشعر في شكله التجريدي، فإنه يتجاوز الحدث الأرضي المباشر (الربيع العربي مثلًا)، فاتحًا العلبة المسرحية الواسعة على إسقاطات ورموز وإحالات تصلح لأي زمان ومكان. وهنا المهارة الفنية، ليس فقط في انتقاء الحالة أو الفكرة، وإنما في الاشتغال الواعي عليها، بمعالجة لا تبدو متعسفة، بل إنها توحي بالعفوية والطفولية «لا تجرف الأرض التي أينعت/ الميدانُ كبيرٌ كبحيرة، نحن أسماكها/ كطاولة لعملاق، نحن ملحها/ كشلال يموج بصوتٍ، يروح ويجيء/ أي زمن هذا الذي أغشيناه وأغشانا؟ / لن يتكرر».
ومن الشعري إلى الروائي؛ دشنت ميسون صقر مشروعها الروائي بـ«ريحانة»، ثم جاءت روايتها الثانية الضخمة «في فمي لؤلؤة» (600 صفحة)، لتمثل نموذجًا مهمًّا في السرد الإماراتي المعاصر، القائم على إلمام جمالي ومعرفي بالتراثي والتاريخي، إلى جانب التجذّر في قراءة التحوّلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية عبر الزمن، جرّاء المتغيرات التي تعرضت لها منطقة الخليج العربي.
اللؤلؤة، هي كلمة العمل المفتاحية، بدءًا من العنوان، مرورًا بالفصول التي تسمّيها الكاتبة «المغاصات» بمعنى أمكنة الغوص المخصصة لصيد المحار، وكل فصل أو «مغاصة» يُستهلّ بعبارة فريدة أو جملة مأثورة أو اقتباس دال.
تتعاطى الرواية مع الواقع بربطه بالماضي، وتتفاعل مع الإنساني بتحليله إلى عناصره الأولية، وتضفيره بجملة العلاقات المتشابكة، التي تشكّل نسيج المجتمع الجديد. اللؤلؤة، هي كلمة العمل المفتاحية، بدءًا من العنوان، مرورًا بالفصول التي تسمّيها الكاتبة «المغاصات» بمعنى أمكنة الغوص المخصصة لصيد المحار، وصولًا إلى سائر مدارات العمل وفضاءاته وشخوصه ومستويات تأويله المتعددة، فاللؤلؤة دائمًا هي المحور والرمز، وهي القيمة التي لا تمّحي، والأثر الذي لا يغيب، والدفق الإشعاعي الذي لا يتضاءل وهجه، ولا يضعف امتداده.
وتستدعي الرواية بحنكة واصطبار، تفاصيل واحدة من أعرق المهن التقليدية التي عرفتها الإمارات ومنطقة الخليج قبل عصر النفط، وظلت سنوات طويلة من أبرز الأنشطة الاقتصادية وموارد الدخل، هي مهنة صيد اللؤلؤ التي استقطبت الكثيرين، وتحوّلت إلى تجارة واسعة، بفضل خبرات البحّارة والغوّاصين المهرة، والعائلات التي انخرطت في تفاصيلها وكشف أسرارها، وأضفت عليها فنيات دقيقة، وطوّرتها من الهواية إلى الاحتراف، لتصير المهنة هي الأهم والأكثر إدرارًا للدخل على الأفراد والبلاد بأسرها، خصوصًا بعد التوسع في التصدير للخارج. ثم بعد فترة، جرى الانتقال من الصيد المجاني للؤلؤ الطبيعي إلى زراعته وتنميته تقنيًّا، والاعتماد على اللؤلؤ الاصطناعي الأقل سعرًا بدلًا من الأصلي الثمين، الذي صار رمزًاً للندرة والعراقة، وتضاعفت قيمته.
من رحلات البحّارة التي تستمر شهورًا طويلة خلال العام للتفتيش عن المحار والعمل على استخراج اللؤلؤ بالطرق البدائية، تستوحي صائدة المحار ميسون صقر لؤلؤتها الروائية، التي تشحنها بطاقة شعرية شفيفة، وفلسفة عميقة، من أجل قنص الجوهر أو بلوغ ما وراء الحدث المباشر. ولا فرق هنا بين الصيد والكتابة، فالمهنتان تنشدان الدرة الأصيلة العتيقة، التي تحفظ الأسرار، وتسترجع الهوية والموروث والتاريخ، وتزداد نفاسة في الواقع الحالي لاستثنائيتها. وإمعانًا في الحرص على إثبات الهوية، وفتح الرواية على الأرض الخصيبة والبحور القريبة، فإن كل فصل أو «مغاصة» من العمل يُستهلّ بالضرورة بعبارة فريدة أو جملة مأثورة أو اقتباس دالّ، يقود في النهاية إلى المزيد من الفهم وتوسعة المدارك حول إيحاءات هذه اللآلئ، باعتبارها البطلة الحقيقية للنص العريض.
من ذلك، على سبيل المثال، ما تستحضره مقدمات الفصول من آيات القرآن الكريم «وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون»، ومن الكتاب المقدس «تحصيل الحكمة خير من اللآلئ»، ومن مقولات ابن سيرين في تفسير الأحلام «من رأى أنه ينثر اللآلئ من فمه، والناس يأخذونها، فإنه قاضٍ يعظ الناس، والناس ينتفعون به»، وبدر شاكر السياب «وينثر الخليجُ من هباته الكثارْ/ على الرمال، رغوه الأُجَاجَ، والمحارْ»، وجلال الدين الرومي، ومحمود درويش، وغيرهم.
وعلى الغلاف الأمامي للرواية، تبدو الممثلة الأميركية مارلين مونرو، وفي جيدها عقد من اللآلئ البيضاء، وتزيّن ثغرها ابتسامة تشفّ عن أسنان بيضاء، كلآلئ أخرى، ما يعني أن نصاعة اللؤلؤ هي الطاغية على كل ما هو بشري وجمالي على وجه العموم. وبدورهم، فإن جميع شخصيات الرواية ينخرطون في علاقاتهم وصراعاتهم من أجل الفوز باللؤلؤة العظمى أو الدرّة الأم، ومنهم: البحّارة والصيّادون، ومالكو السفن والقوارب، والنساء اللاتي يحلمن بالتزيّن، وكذلك الفتاة «شمسة»، المنتمية إلى العصر الحديث، وهي دارسة تعد بحثًا حول حياة صيّادي اللؤلؤ وعوالمهم، وتقلب في صفحات التاريخ والكتب العلمية ومواقع الإنترنت لبلوغ المزيد من الوعي المعرفي حول هذا المجال، كما أنها تستعين بالحكايات التي ترويها لها أمها، وتطلق العنان لخيالاتها وأحلامها، ما يضفي على الأجواء قدرًا من السحرية والفانتازية في رحلة لهاثها خلف أسرار اللآلئ.
وفي داخل كل درة تاريخية وتراثية يستدعيها النص الزاخم، تكمن مئات الأعوام المشحونة بالحروب والنزاعات والشقاء والدماء والدموع، كما تتفجر آلاف القصص والأساطير، التي فيها ما فيها من الانتصارات والغنائم، وكذلك الإخفاقات والهزائم، والموت، حيث رحلات الغواصين إلى قاع البحر، من دون أن يعودوا أحيانًا بلؤلؤة أو محارة: «البحر كان كريمًا، هم يأخذون لؤلؤه، وهو يقبل جثامينهم دون اعتراض. كان يحاورهم، لتظل فيه أجسادهم». وعبر جملة الأحاديث والحوارات، الحقيقية للبشر، والمجازية للبحر والأمواج وأضواء اللآلئ، ترسم الرواية بأناة ملامح الحياة في الإمارات ومنطقة الخليج، وتبرز تقلباتها وتطوراتها، خصوصًا بالنسبة للغوّاصين وصيادي اللؤلؤ وأصحاب المراكب وكافة المشتغلين في هذه الحرفة التقليدية التي أوشكت على الانقراض مع ظهور زراعة اللؤلؤ ثم استخراج النفط. وفي نهاية النص، يرجع الصياد «مرهون» إلى بلده بعد الاغتراب الطويل في الهند، فيجد المدينة مختلفة تمامًا عما تركها، حيث اختفت العرائش والخيام، وظهرت البيوت والعمائر الأسمنتية، وطالت يد التغيير كل شيء، حتى البشر أنفسهم.
وهناك مفارقة تثبتها الرواية الذكية من خلال لؤلؤتها المركزية، هي اختلاف طبيعة الصراعات البشرية حول اللآلئ، باختلاف الطبقات الاجتماعية للمتصارعين، فالبحارة والغواصون والصيّادون من الفئات الفقيرة والمهمّشة قد يدفعون أرواحهم ثمنًا لاصطيادها من أجل كسب العيش والرضا بالقليل، في حين يبذل الأثرياء من الملوك والنبلاء والمشاهير وأصحاب صالات المزادات الأموال الكثيرة من أجل اقتنائها والتباهي بها في الحفلات والمناسبات، وهنا ينسى الجميع الدماء التي أريقت في اصطيادها أول مرة.
إن انحياز الكاتبة إلى صيد المحار بالوسائل التقليدية، يبرز بوضوح الانتصار للتراثي التاريخي، الذي تنتج عنه الأصالة والعراقة، في حين أن اللؤلؤ الاصطناعي يشير إلى زيف المدنية وأوهام المادية، التي لا تعوّض الإنسان عن براءته المفقودة. لذلك، فإن أشد الصراعات ضراوة في الرواية هي المقترنة بالرغبة في بلوغ اللؤلؤة العظمى، أو ملكة اللآلئ. وهي تلك الجوهرة النفيسة، التي تدغدغ مشاعر الفتاة العصرية «شمسة» على مدار الرواية، وتنعش خيالاتها وأحلامها، هي الباحثة العلمية عن اللؤلؤ وتاريخه وأسلوب صيده، فتقع أسيرة لحكايات البحارة والصيادين القدامى ونسائهم، وتغرق معهم في طقوس الحروب وبحور الدماء، حيث لم يعد يوقظها من جموحها في الماضي غير افتتانها بعقد أثري من اللؤلؤ، تقتنيه أمها، وهو العقد الذي تتنازل عنه الأم في نهاية الرواية ليوضع في المتحف، فالتاريخ أثقل من أن تحمله في رقبتها.
تنجح الرواية كذلك في الموازنة بين الصراعات القديمة والحديثة حول اللآلئ، فهناك في الماضي الحروب القبلية والدولية منذ عهد المعتمد البريطاني، وهناك في الحاضر صراع البحارة وزوجاتهم حول اللؤلؤة العظمى، وتقاتلهم المأساوي من أجلها، وارتحالهم خلفها إلى الهند، ثم عودتهم بها مرة أخرى حالمين بحياة أفضل للغواصين والصيادين الذين طالما تعرضوا للتهديد والقتل إذا لم يتمثلوا للتعليمات، لكنهم صُدموا بحقيقة جديدة أكثر قسوة، هي أن عصر اللؤلؤ النفيس قد ولّى إلى الأبد.
وتتخذ الرواية من اللآلئ، ذات القيمة التاريخية التراثية، مَعْبرًا لطرح تساؤلات وأفكار ومعانٍ ذات أعماق فلسفية، فما يقوله الغواصون ربما يبدو عاديًّا، لكن الأهم: ماذا يقول البحر للغواصين، إذا غاصوا وإذا غرقوا؟ وما الذي يتبقى من أجساد الذائبين في طبقات الموج؟ وما مصير الأحاسيس الإنسانية إذا تحللت الأعضاء البشرية في البحر؟ وهل اللؤلؤة الفريدة في الأعماق، هي تلك التي لها نصيب من بقايا البشر وأحاسيسهم النابضة؟! إن هناك مَن يدّعون أنهم ملوك وملكات، ونبلاء ونبيلات، لكن ما تصل إليه رواية ميسون صقر، هو أن اللؤلؤة الفريدة هي الملكة المتوّجة، وهي الحكاية العبقرية المتواصلة، التي لم يفرغ التاريخ من روايتها بعد.
ترسم ميسون صقر صورة بانورامية لمقهى ريش عبر العصور، كواحد من أخصب المناطق وأكثرها التهابًا وتفجرًا في قلب القاهرة، هكذا تجعل من كتابها نافذة سحرية للتسلل إلى دهاليز مصر وذاكرتها المعمارية والتاريخية والسكانية.
ومن الإبحار الروائي، إلى أحدث رحلات ميسون صقر في حقل آخر، هو الحقل التاريخي، حيث كتابها «مقهى ريش.. عين على مصر»، الصادر في القاهرة منذ أسابيع قليلة عن دار “نهضة مصر”. وكدأبها، فإن ارتيادها للتاريخ لا يأتي من باب التسجيل والتوثيق والتدوين النقلي الميكانيكي، لكنه تحليل للمطمور والمسكوت عنه من الخبايا والأسرار، وإعادة اكتشاف للمقهى الاستثنائي، وطبيعة الدور الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي ظل يلعبه سنوات طويلة في ظل حكومات متعاقبة.
ترسم ميسون صقر صورة بانورامية شاملة لمقهى ريش عبر العصور، كواحد من أخصب المناطق وأكثرها التهابًا وتفجرًا في قلب القاهرة، وتزيح الستار عن حيثيات اعتماده كإرث ثقافي مملوك للشعب المصري برمته، لا يتوقف عن ضخ الأفكار وإنتاج صيغ التفاعل والحوار، إلى جانب حضوره في حد ذاته كقيمة فنية، على المستوى المعماري.
هكذا تجعل ميسون من كتابها عن مقهى ريش نافذة سحرية للتسلل إلى دهاليز مصر بأكملها وذاكرتها الجغرافية والتاريخية والسكانية، إذ تطّلع الكاتبة من خلال لقاءاتها مع مُلّاك المقهى على وثائق نادرة تحكي جوانب خفية من تاريخ القاهرة الحديث، وتستعرض التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمصر والمصريين منذ عام 1908 (تاريخ تأسيس المقهى) حتى اللحظة الراهنة، الأمر الذي يُكسب كتابها الكبير (650 صفحة) أهمية مضاعفة.
خاص قنآص
شريف الشافعي؛ شاعر وكاتب من مصر.صحفي بمؤسسة “الأهرام”؛ رئيس القسم الثقافي ومسؤول النشر والديسك المركزي في بوابة “الأهرام” الإلكترونية.