مقال: ماثيو جيرو
مخطئ جدا من ينظر إلى ديفيد ثورو على أنه منظر حركة البقائية (survivalisme) وملهمها الأول. ففي كتابه «والدن أو الحياة في الغابة»، يقدم لنا هذا الكاتب الأمريكي درسا ميتافيزيقيا يمكن تلخيصه على النحو التالي: الحياة الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا حياة في الغابات.
غالبا ما يتم إيلاء القليل من الاهتمام للعنوان الفرعي لكتاب هنري ديفيد ثورو الشهير، “وايلدن أو الحياة في الغابة”. أو بالأحرى، نحن نركز فقط على كلمة الغابة ولا نلتفت لكلمة الحياة. بيد أن استخدام هذه الأخيرة يجب أن يفهم في المعنى القوي والحصري. فلا يفترض بالقارئ أن ينتبه فقط للحياة التي كان ثورو يعيشها على مقربة من بلدة كونكورد وبحيرة والدن، بل إن انتباهه يجب أن ينصرف إلى الحياة نفسها، التي تكتسب تمظهرها الأكثر راديكالية وواقعها الكامل بين أرجاء الغابة. وبعبارة أخرى، يصوغ ثورو طرحا يتم تجاهله في الغالب، ويمكن تلخيصه على النحو التالي: الحياة الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا في الغابة، أما الحياة الحضرية، وأيضا حياة المُزارع المقيد بأرضه، ليست سوى بدائل للحياة. وقد ترجم ثورو ذلك بصراحة تامة، في سطور لا تترك المجال لأي غموض: «ذهبت للعيش في الغابة لأنني أردت أن أحيا بقرار وإرادة كاملين. لكي أواجه المعطيات الأساسية للحياة، وأرى إذا ما كان بمقدوري أن أتعلم ما تزخر به من دروس وعبر، عوض أن أدرك، حينما يحل أجلي، بأنني لم أعش قط. الحياة شيء ثمين: ولطالما رفضت أن أعيش ما لم يكن حياةً». عَيْش ما لم يكن حياة عبارة محيرة ويمكن أن تدفعنا إلى التساؤل التالي: ما هي هذه الحياة التي ليست بالحياة الحقيقية؟
«ذهبت للعيش في الغابة لأنني أردت أن أحيا بقرار وإرادة كاملين. لكي أواجه المعطيات الأساسية للحياة، وأرى إذا ما كان بمقدوري أن أتعلم ما تزخر به من دروس وعبر، عوض أن أدرك، حينما يحل أجلي، بأنني لم أعش قط. الحياة شيء ثمين: ولطالما رفضت أن أعيش ما لم يكن حياةً»
في نظر ثورو، يحيل مفهوم الحياة غير الأصيلة على حياة تصادر حرية الإنسان ولا تربطها علاقة مباشرة مع الطبيعة. والحضارة الحديثة هي أصل هذا الفصل التراجيدي بين الإنسان والنظام الطبيعي، من حيث إنها تفرض أعرافها الاجتماعية المبنية على النفاق وعلاقتها الجديدة بالعمل الذي يستلب الأفراد. من هنا، يصبح من اللازم، حسب ثورو، العودة إلى هذه الحياة البدائية الخالية من كل ما هو مصطنع «أردت أن أعيش بشكل مكثف، وأمتص نخاع الحياة بكامله، أن أعيش عيشا متينا، ومتقشفا، للحد الذي أتمكن معه من اجتثاث كل ما ليس حياة في الحياة. –أن أمسح أراض واسعة وأمشطها. أن أتعقب الحياة، وأحصرها في ركن ما وأختزلها في أصغر عناصرها الأساسية […]». ثورو، الذي أقام لمدة عامين في كوخ بناه بيديه، ومارس ما يعرف في المجال الفلسفي بالاختزال، يرغب في فهم جوهر الحياة، وذلك بإقصاء كل ما يمكن أن يتطفل عليها: الآلات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية…
معاداة التقدم التقني
ولذلك فهذا الكاتب الأمريكي ينتقد ويتصدى لنموذج سياسي واقتصادي وفلسفي هو نموذج الثورة الصناعية والرأسمالية، التي سادت في الولايات المتحدة والتي تهيمن الآن على البنية الفكرية لهذا البلد. ثورو، الذي يعتبر من رموز الكتابة عن الطبيعة، «Nature Writing»، هو أيضا فيلسوف متعال. لذلك تبنى موقفا فلسفيا يذكرنا بموقف الرومانسيين الأوروبيين الذي ورثوه بدورهم عن جان جاك روسو. حيث ينتهي به التأمل في الطبيعة البشرية إلى التعبير عن عداء جذري للتقدم التقني: «ما ينطبق على جامعاتنا عينه ينطبق على مئة مظهر من مظاهر «التقدم الحديث، كلها أشياء خادعة، لأنها أبعد ما تكون عن إحداث تحسن حقيقي دائما». في اعتقاده، تحولات المجتمع الأميركي تهدد حياة الحرية التي يرغب في عيشها، حياة يمكن وصفها بأنها أميركية أولية، لا يخضع الأفراد فيها للقوانين التي وضعها الإنسان، بل يُسألون فقط أمام الأرض والبرية. «لم يضطهدني أحد يوما غير ممثلي الدولة»، يقول ثورو الذي كان يرفض دفع الضريبة على العقار، فأودع لذلك عدة مرات في السجن. ويقول رالف والدو إيمرسون، صديقه ومالك الغابة التي استقر فيها: «لم يوجد يوما أميركي أكثر أصالة من ثورو»، قبل أن يضيف هذا الفيلسوف، مؤسس الحركة المتعالية الأميركية: «لقد أحب الطبيعة كثيرا، وكان سعيدا جدا في عزلته، لدرجة أنه أصبح ينتقد المدن بشدة كما ينتقد الأثر المحزن الذي خلفته مظاهر التحضر الخادعة على الإنسان والمساكن».
«نحن نعيش بسرعة كبيرة. يعتقد الناس أنه من الضروري للأمة أن تتاجر، وتُصدّر الجليد، وتتحادث عبر التلغراف، وتتنقل بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وهم يعتقدون في ذلك دون أدنى محاولة للشك، سواء كانوا هم أنفسهم بحاجة إليه أم لا»
بالنسبة لمؤلف “والدن”، يجب أن تكون إعادة اكتشاف الإنسان للحياة الأصيلة مصحوبة بتأمل مزدوج، يقوم على نقده لأيديولوجية التقدم. يجب علينا أولا إعادة بناء علاقتنا بالزمن بأن نرفض أن تظل حياتنا تنظمها الميكانيكا التعسفية للساعات، تلك الوحوش التي كانت دائما مصدر قلق للإنسان. يجب أن نتخلى عن مبدأ تثمين السرعة المرتبط بصعود الرأسمالية، لأن السرعة إيقاع لا يمكن تحمله، ولا يخدم سعادة الإنسان بتاتا، بل يساهم فقط في الزيادة من معاناته: «نحن نعيش بسرعة كبيرة. يعتقد الناس أنه من الضروري للأمة أن تتاجر، وتُصدّر الجليد، وتتحادث عبر التلغراف، وتتنقل بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وهم يعتقدون في ذلك دون أدنى محاولة للشك، سواء كانوا هم أنفسهم بحاجة إليه أم لا». لا بد من الاستعاضة عن هذا الزمن الخاضع لقوانين العمل والاقتصاد بالزمن الحيوي، أي زمن الأيام والمواسم الذي يخضع لقيوده الخاصة وليس لقيود بني البشر. وعندئذ فقط يمكن للمرء أن يعتمد نمط حياة أبطأ، بعيدا عن جنون الحداثة. «أحب أن أعيش حياتي مع الاحتفاظ بهامش كبير. في بعض الأحيان، في صباح يوم صيفي، وبعد أن آخذ حمامي اليومي، كنت أجلس على الأرض المشمسة أمام باب بيتي وأظل هناك من الفجر وحتى وقت الظهيرة، منغمسا في تأملاتي […]» هذا الإيقاع، المنسجم مع الطبيعة، لا يخضع لأية حتمية إنتاجية، ولأي هدف ربحي. ولكن هذا لا يعني، على عكس ما قد تعتقده بعض العقول التي دجنتها الحياة الاجتماعية والاقتصادية كليا، أنه إيقاع بلا غاية. فالابتعاد عن الرسملة، وعن الإنتاج لا يعني بأي شكل من الأشكال عدم القيام بأي شيء. بل على العكس من ذلك، كان ثورو يعمل ويقضي الكثير من وقته في تنقية الفاصولياء من الأعشاب الطفيلية- ويقوم في أغلب أوقاته بممارسة التأمل «لم أكن أهتم لمرور الساعات. كان ضوء النهار وكأنه يتقدم لينير ما أقوم به من أشغال. كان الوقت صباحا، ثم، يا للعجب، حل المساء، ولا شيء جدير بالذكر تم إنجازه».
الفضاء والعزلة
ويضاف إلى التفكير في الزمان تفكير في المكان، والذي نعتقد بأنه عنصر أكثر حيوية، لأن الولايات المتحدة بنت هويتها في المقام الأول، على كونها وطن الأراضي اللامتناهية والتي لم يتم إدراك حجمها الحقيقي إلا مع اكتشاف جبهة المحيط الهادي. صحيح أن الحديث عن «المساحات الشاسعة» الأمريكية فكرة نمطية، لكن هذا الأمر يدخل في تركيب الجينات الثقافية لهذا البلد ذو الحجم القاري. ومعلوم لدينا كيف يمكن للجغرافيا أن تؤثر على ثقافة الأمم وعقليتها ومصيرها. بالنسبة لثورو، الأميركي الأصيل هو بالضرورة كائن وحيد. حيت تستلزم طباعه واستعداداته النفسية مساحات كبيرة لكي تنطلق: «سوف يكون من الأفضل أن يشغل ساكن واحد مساحة ميل مربع، كما أعيش أنا». وهذا هو السبب أيضاً في كون الحياة داخل المدن تشعر ثورو بالملل: إذ الناس بعضهم فوق بعض. وهذا القرب الشديد يصيب وجودهم بالوهن.
«يروقني أن أظل بمفردي. فأنا لم أجد قط صاحباً عشرته أحلى من العزلة. غالباً ما نشعر بالوحدة بين الناس أكثر مما نشعر بها في حجراتنا» .
«لدي، بمعنى ما، شمسي الخاصة بي، قمري ونجومي: عالم صغير كامل لي وحدي».
وإذا كان ثورو يعتبر نفسه وحيداً ويرتمي طائعاً في أحضان العزلة، فهو يفرق بين عزلته، في موقف متعال، وبين العزلة المرضية التي يعاني منها الإنسان الحديث الذي يسكن المدن، عزلة الفرد الذي يحس نفسه وحيداً وسط الحشد. “«روقني أن أظل بمفردي. فأنا لم أجد قط صاحباً عشرته أحلى من العزلة. غالباً ما نشعر بالوحدة بين الناس أكثر مما نشعر بها في حجراتنا». لأن ثورو، عندما يعيش في الغابة التي يحبها كثيرا، فهو لا يشعر بالوحدة أبدا. حيث يمثل قربه من فضاء الطبيعة بالنسبة له أفضل صحبة. والحق أن عزلة الكاتب أعمق بكثير منها لدى سكان المدن، ولكنها عزلة لا يتخللها ملل. عزلة كونية ميتافيزيقية: «لدي، بمعنى ما، شمسي الخاصة بي، قمري ونجومي: عالم صغير كامل لي وحدي».
الملل إذن ظاهرة حضرية. وهو يعكس الإفلاس النفسي لأشخاص وجودهم يتطلب التفاهة. أما ثورو، الذي وجد خلاصه وجوهر الجمال في الديمومة الراديكالية، فهو يسلي نفسه بأنبل الطرق. «يتمتع أسلوب حياتي بهذه الميزة على الأقل -ميزة لا يتمتع بها من يضطرون إلى الخروج طلبا للترفيه– بين الناس، أو في المسارح –حتى أن حياتي نفسها صارت ترفيها، ولم تكف قط عن التجدد. لقد كانت عرضا لا متناهيا وغنيا بمشاهد لا حصر لها» بل أكثر من ذلك، لم يكن الضجر يعرف طريقه لثورو لأن كل إطلالة شمس كانت بالنسبة له بداية حياة جديدة. لقد كان ثورو «عابدا مخلصا للشفق»، مثل قدماء الإغريق، فكان يميل إلى تقليد الطبيعة، ليمتزج بها. مثل شجرة الصنوبر الصلبة أو شجرة الكاري التي كانت على مقربة من بحيرة والدن، كان ثورو مسكونا بإحساس الخلود. وفي الأبدية، لا شيء أكثر جدة من القديم ولا شيء أقدم من الجديد.
المصدر: PHILITT
ttps://philitt.fr/2021/02/16/henry-david-thoreau-la-seule-vie-est-dans-les-bois/
خاص قنآص
الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو
يسين المعيزي؛ أستاذ التاريخ والجغرافيا، باحث في مجال الجيومرفولوجيا والتغيرات المناخية والقضايا الإيكولوجية. مهتم بمجال الدراسات الأدبية والسينمائية. صدرت له في الترجمة عدة مقالات مترجمة آخرها: محمد مبوغار سار: «الأدب موطن الحرية المطلقة» و «في مديح القارئ السيء».